هل تفوز أرامكو في لعبة النفط والبيئة
في الوقت الذي تعمل فيه شركة أرامكو النفطية السعودية، على زيادة قدرتها الإنتاجية، تعمل على جانب آخر على الاستثمار في تقنيات "احتجاز الكربون" من أجل الحفاظ على البيئة.
ونشرت صحيفة "إيكونوميست" تقريرًا يناقش إستراتيجية أرامكو السعودية للحفاظ على هيمنتها في صناعة النفط في ظل التحولات العالمية نحو الطاقة المتجددة؛ حيث تهدف أرامكو إلى زيادة قدرتها الإنتاجية للحفاظ على حصتها في السوق، كما تتجه للاستثمار في تقنيات احتجاز الكربون وتخزينه للتخفيف من المخاوف البيئية.
وقالت الصحيفة، في التقرير الذي ترجمته "عربي21"، إن مديري شركة أرامكو السعودية ربما يملكون الوظائف الأكثر راحة في قطاع الطاقة؛ حيث تنتج شركة النفط العملاقة التي تديرها الدولة تسعة ملايين برميل من النفط يوميًا، أي أكثر من أي شركة أخرى وما يقرب من عُشر الإجمالي العالمي، فهي تفتخر بأكبر احتياطيات مؤكدة من النفط، والتي ستستمر حتى النصف الثاني من القرن بمعدلات الضخ الحالية، وقد سمحت لها تكاليف الإنتاج البالغة 3 دولارات فقط للبرميل بتحقيق أرباح صافية مذهلة بلغت 282 مليار دولار على مدى العامين الماضيين، ورغم أن نفطها يحترق بشكل ملوِّث كأي نفط آخر، فإن أرامكو تنبعث منها كميات أقل من الكربون مما يحررها من التكوينات الجيولوجية مقارنة بمنافسيها، وهذا يجعل منتج الشركة جذابًا في عالم يشعر بالقلق بشكل متزايد بشأن ظاهرة الاحتباس الحراري.
ومع تراجع المنافسين الأقل سخاءً، فإن حصة أرامكو في السوق ترتفع بشكل أكيد مع بعض الاستثمارات المتواضعة في صيانة الخزانات، ومع ذلك، أصبح موظفو الشركة أكثر انشغالًا من أي وقت مضى، وذلك لأن أرامكو هي محور إستراتيجية محمد بن سلمان، ولي العهد السعودي والحاكم الفعلي للبلاد، لإنهاء اعتماد بلاده على النفط، وتنويع اقتصادها وإزالة الكربون من إنتاج الطاقة.
وأشارت الصحيفة إلى أن أرامكو تعد هي المصدر الرئيسي لتمويل هذه الرؤية، فقد أطلقت عرضًا ثانويًا للأسهم طال انتظاره في الثاني من حزيران/يونيو الماضي؛ حيث تأمل في جمع 13 مليار دولار مقابل 0.7% فقط أو نحو ذلك من أسهمها المملوكة للحكومة، ويأتي ذلك بعد طرح عام أولي قياسي بقيمة 30 مليار دولار في 2019، ومع ذلك، فإن أرامكو هي أكثر من مجرد حصالة أميرية، وباعتبارها أهم الأعمال التجارية في المملكة، فعليها أيضًا أن تحول نفسها بما يتماشى مع الإستراتيجية الملكية، وبحسب أحمد الخويطر، رئيس قسم التكنولوجيا والابتكار في أرامكو، فإن هدفهم هو جعل مصدر الطاقة ميسور التكلفة ومستدامًا قدر الإمكان.
ويعتمد تحقيق هذا الهدف على إستراتيجية ثلاثية المحاور، عنصرها الأول هو مضاعفة كمية الزيت مع استخلاصه بطرق أنظف من ذي قبل، إذ تخطط الشركة لإنفاق ما بين 48 و58 مليار دولار على الاستثمارات الرأسمالية هذه السنة، وتعتقد شركة وود ماكنزي الاستشارية، أنها ستنفق أكثر من 200 مليار دولار على التنقيب والإنتاج بين عامي 2024 و2030، وهو أكبر مبلغ في هذه الصناعة، وفي الوقت نفسه، يؤكد الخويطر أن شركته عازمة على إبقاء انبعاثاتها تحت السيطرة، فهي تستخدم نماذج متطورة وتقنية حفر ذكية لتقليل كمية الكربون المنبعثة في عملياتها، كما تعهدت بعدم إطلاق غازات دفيئة صافية بحلول 2050، أي قبل عقد من الهدف الوطني للمملكة.
وعلى وجه الخصوص؛ تتخذ أرامكو إجراءات صارمة ضد غاز الميثان، وهو المكون الرئيسي للغاز الطبيعي الذي يتم إنتاجه غالبًا إلى جانب النفط، ومنذ 2012، أحرقت أقل من 1 بالمائة من هذا الغاز القوي، مقارنة بنحو 4 بالمائة التي يميل عمال النفط الصخري في أمريكا إلى إحراقها، وباعتبارها عضوًا في مبادرة النفط والغاز للمناخ، وهي مجموعة من شركات النفط الكبرى، فقد تعهدت بخفض انبعاثات غاز الميثان إلى ما يقرب من الصفر بحلول 2030. وفي بقيق، التي تعد أكبر منشأة لمعالجة النفط في العالم، يستعرض موظفو أرامكو الطائرات المسيرة المستخدمة في شم تسربات الغاز، حتى يمكن ترقيعها، ويظهر تحليل حديث لبيانات الأقمار الصناعية أجرته شركة التحليلات الفرنسية كايروس، أن كثافة غاز الميثان الناتج عن إنتاج النفط والغاز السعودي في العام الماضي كانت ثاني أدنى نسبة في العالم.
وأضافت الصحيفة أن الركيزة الثانية لإستراتيجية أرامكو تتضمن توسيع محفظتها من الهيدروكربونات لتقليل تعرضها للنفط، الذي هيمن تاريخيًا على إنتاجها وصادراتها؛ حيث اكتسب هذا المحور زخمًا مفاجئًا في وقت سابق من السنة عندما أمرت الحكومة شركة أرامكو بوقف العمل على توسيع طاقتها القصوى لإنتاج النفط بمقدار مليون برميل يوميًا، ومع توفر الإمدادات الكافية في السوق العالمية واحتفاظ البلاد بقدر كبير من الطاقة الفائضة، لم يكن التوسع منطقيا، إذ يمكن استخدام مبلغ 40 مليار دولار أو نحو ذلك من الإنفاق الرأسمالي الذي كان سيستهلك بين عامي 2024 و2028 في أماكن أخرى.
وذكرت الصحيفة أن أحد مجالات التنويع هو الغاز الطبيعي، ولأنها تحترق بشكل أنظف من النفط أو الفحم، ولأن انبعاثات ثاني أكسيد الكربون الناتجة عنها أكثر تركيزًا وبالتالي فإن احتجازها وتخزينها أسهل، فإن العديد من الحكومات تعتبرها بمثابة جسر واقعي لمستقبل طاقة أكثر مراعاة للبيئة، وتريد أرامكو إنتاج 165 مليار متر مكعب من الغاز سنويًا بحلول 2030، ارتفاعا من 110 مليارات في 2022.
ويمكن أن يحل بعض ذلك محل النفط في توليد الكهرباء محليًا، مما يؤدي إلى إطلاق النفط الخام الموفر للتصدير، وتخطط أرامكو أيضًا لتصدير الغاز الطبيعي المسال، وفي السنة الماضية استثمرت 500 مليون دولار في شركة "ميد أوشن إنيرجي"، وهي شركة أمريكية تعمل في مشاريع الغاز الطبيعي المسال في أستراليا، ويتوقع بنك جولدمان ساكس أن السعودية سوف تضخ ما بين 83 مليار دولار إلى 91 مليار دولار في الاستثمارات المتعلقة بالغاز بحلول 2030، وفي نيسان/أبريل ظهرت أخبار تفيد بأنها ستنفق ما يقرب من 8 مليارات دولار على توسيع مصنع الفاضلي لمعالجة الغاز.
وتعد البتروكيماويات مجالًا كبيرًا آخر من مجالات اهتمام أرامكو؛ حيث قد تمتص 100 مليار دولار أخرى من الاستثمارات السعودية خلال هذا العقد، وتخطط الشركة لتوجيه مليون برميل من نفطها لتصنيع مثل هذه المنتجات، وتعمل شركة سابك، وهي شركة البتروكيماويات السعودية التي تمتلك أرامكو فيها 70 بالمائة من الأسهم، على تكنولوجيا تحول النفط إلى مواد كيميائية باستخدام الكهرباء بدلًا من الغاز الطبيعي، وتم افتتاح مصنع تجريبي واسع النطاق في ألمانيا في نيسان/أبريل.
تحويل الصحراء إلى واحة خضراء:
وأفادت الصحيفة أن هذا ينقلنا إلى الركيزة الثالثة لخطة أرامكو الرئيسية، ألا وهي إزالة الكربون، فقد حولت أرامكو نفسها إلى واحدة من أكبر المستثمرين البيئيين في عالم الطاقة؛ حيث تخصص عُشر إنفاقها الرأسمالي، وسدس ميزانية البحث والتطوير، للاستثمارات غير الهيدروكربونية، وفي السنة الماضية، كان خُمس براءات الاختراع التي حصلت عليها أرامكو في أمريكا تتعلق بإزالة الكربون والتقنيات الرقمية، وتخطط الشركة أيضًا لتوجيه ملياري دولار من أصل 4 مليارات دولار في شكل رهانات جديدة لرأس المال الاستثماري، وخلال زيارة قامت بها جينيفر جرانهولم، وزيرة الطاقة الأمريكية، إلى المملكة في أيار/مايو الماضي؛ وقعت أرامكو اتفاقيات مع العديد من الشركات الناشئة الأمريكية الخضراء.
وبحسب الصحيفة؛ ترى الشركة أن أكثر التقنيات الخضراء نضجًا هي الطاقة المتجددة، وتشير تقديرات شركة ريستاد إنيرجي للأبحاث إلى أن الشركة ستعمل على تطوير قدرة توليد طاقة الرياح والطاقة الشمسية تبلغ 12 جيجاواط بحلول 2030، بعد أن كانت لا شيء تقريبًا قبل بضع سنوات، وقد أصدر الأمير محمد أمرًا بأن نصف مزيج توليد الطاقة القذر حاليا في البلاد يجب أن يكون نظيفا بحلول 2030، وبفضل شمس الصحراء الحارقة والرياح الليلية العاتية، فإن مشاريع الطاقة المتجددة السعودية تتمتع بأقل التكاليف في العالم.
وأوضحت الصحيفة أنه يمكن استخدام بعض هذه الطاقة النظيفة لإنتاج الهيدروجين النظيف، والذي يمكن أن يحل محل الهيدروكربونات كمخزن للطاقة وفي بعض العمليات الصناعية مثل صناعة الصلب، وبالإضافة إلى هذا الهيدروجين "الأخضر"، تريد أرامكو أن تصبح الشركة الرائدة عالميًا في مجال الهيدروجين "الأزرق"، وهو مشتق من الغاز الطبيعي ولكن بطريقة تمنع وصول الكربون الناتج إلى الغلاف الجوي.
وكجزء من هذا الجهد، تعمل الشركة مع شركة توبسوي، وهي شركة هندسية دنماركية، على إيجاد طرق لتقليل هذه الانبعاثات، وقد قامت بالفعل بشحن كميات صغيرة من الأمونيا الزرقاء إلى العملاء في آسيا، وكانت هذه هي أولى الشحنات التجارية منخفضة الكربون على الإطلاق، وتخطط أرامكو لإنتاج 11 مليون طن من الأمونيا الزرقاء سنويًا بحلول 2030، أي ما يقرب من خمس السوق العالمية التي تتوقعها وكالة الطاقة الدولية.
ويمكن أيضًا استخدام الهيدروجين لإنتاج الوقود السائل الاصطناعي الذي من شأنه أن يؤدي نفس وظيفة البنزين والديزل ووقود الطائرات بدون انبعاثات الكربون، وتخطط أرامكو لاستثمار مئات الملايين من الدولارات بالشراكة مع شركة النفط الإسبانية ريبسول، لإنتاج مثل هذا الوقود، وكدليل على ذلك، يشير الخويطر إلى أنه اعتبارًا من 2026، سيتعين على الفرق المشاركة في سباقات الفورمولا 1 للسيارات استخدام الوقود المستدام بنسبة 100 بالمائة.
ولفتت الصحيفة إلى أن العديد من مصادر انبعاثات الكربون الصناعية في السعودية تقع بالقرب من التكوينات الصخرية؛ حيث يمكن تخزين الانبعاثات المحتجزة، وتعمل أرامكو مع شركة الخدمات النفطية الأمريكية لبناء مركز ضخم في مدينة الجبيل الشرقية، مما قد يؤدي إلى احتجاز حوالي 6 ملايين طن سنويًا من انبعاثات أرامكو الخاصة، و3 ملايين طن أخرى من العملاء الصناعيين، وإما عزلها تحت الأرض أو تحويلها إلى منتجات مفيدة مثل الأسمدة، ويتمثل طموح الشركة على المدى الطويل في احتجاز 44 مليون طن من ثاني أكسيد الكربون سنويًا، أي ما يعادل حوالي 7 بالمائة من الانبعاثات السعودية اليوم، ويعتقد الخبراء أنه من المرجح أن تصل إلى هدفها الأولي المتمثل في 6 ملايين طن اعتبارًا من 2026.
ويُعد الطموح الأكبر على الإطلاق هو عمل الشركة مع شركات مثل سيمنز، وهي شركة هندسية ألمانية عملاقة، على معدات "الالتقاط المباشر للهواء"، والتي يمكن أن تعوض الانبعاثات في أماكن أخرى من عمليات أرامكو عن طريق تنقية ثاني أكسيد الكربون مباشرة من الغلاف الجوي بدلاً من مصادره الصناعية.
وأشارت الصحيفة إلى أن فوز أي من هذه الرهانات الخضراء ليس مضمونًا، فتحقيق الهدف الملكي بتوليد الكهرباء النظيفة بنسبة 50 بالمائة يبدو أمرًا مبالغًا فيه نظرًا لأن الرقم اليوم هو 3 بالمائة، وتظل الأمونيا الزرقاء، التي تكلف ما يعادل 250 دولارًا للبرميل من النفط، أي ثلاثة أضعاف السعر الحالي للنفط الخام، باهظة الثمن إلى الحد الذي لا يسمح بإقناع المشترين بالتوقيع على عقود طويلة الأجل، وبالمثل، قد يتبين أن الوقود الاصطناعي يشكل طريقا مسدودًا ومكلفًا ولا يؤدي إلا إلى إبطاء كهربة وسائل النقل، وتظل تكنولوجيا احتجاز الكربون من المداخن الصناعية والغلاف الجوي باهظة الثمن، ولم يتم اختبارها على نطاق واسع، ومثيرة للجدل بين دعاة حماية البيئة، الذين يرى كثيرون منهم أنها ذريعة لعدم خفض الانبعاثات في المقام الأول.
وبحسب كريستيان مالك، من بنك جيه بي مورجان تشيس، فإن العديد من خطط إزالة الكربون في أرامكو مصممة بالفعل لإبقاء العالم يستخدم منتجاتها، لكنه يضيف أن الأمر يتضمن أيضًا جعل تلك المنتجات "صديقة للبيئة قدر الإمكان".
واختتمت الصحيفة التقرير بتصريحات هيليما كروفت، من شركة الاستثمار آر بي سي كابيتال ماركتس، فإنه لا يمكن رفض الإستراتيجية السعودية باعتبارها مجرد واجهة بالنظر إلى مستوى الاستثمارات غير النفطية لشركة أرامكو، لكن مثل هذه الضمانات لن تقنع الناشطين المتعصبين في مجال حماية البيئة بتبني ما يعتبرونه واحدًا من أكبر الأشرار المناخيين على مستوى العالم، أما بالنسبة للواقعيين في مجال المناخ، فيمكن النظر إلى جهود شركة النفط العملاقة باعتبارها خطوة حقيقية في الاتجاه الصحيح.
ارسال التعليق