هل من ربيع عربي حقيقي
بقلم: جورج يونان...
يلتَئمُ في أيار 2023، اجتماعٌ لملوك ورؤساء الدول العربية، وفي عاصمة مشرقية؛ والمشرق، ومنذ قرونٍ عدة، تُنهكه الغزوات من كلِّ حدبٍ وصوب، وهو لا يزال يعاني من حصار اقتصادي قاسٍ حتى المجاعة. والمشرق محتلٌّ تحت أقنعةٍ متعدّدة، تنهش كيانَه الانفصاليات غير العربية، والإقليميات القائمة على السلطة، والحركات المذهبية والطائفية. وراء كل هذا، ومنذ قرون طويلة، يقفُ غربٌ جائعٌ وطامعٌ في مصادرِ الثروة في بلادنا، غايته نهبها.
تَحْضُرُني في هذا الوقت مسرحية «بترا» للرحابنة، وفيها جرى هذا الحوار الذي صَوّرَ الحالة في دولة الأنباط، ولا يزال الغرب يعيد هذه الحالة على شعبنا:
الوزير: حضرات الزوار،
من بلدان،
حكمها الرومان، وصلوا مع القوافل،
جايين يُودْعوا بخزنة بترا أموالُنْ،
وكنوزُن وذهبهُنْ،
لأنّوا روما عم تنهَبهُنْ.
الملك: يا أهالي بترا،
جايي روما تِحْكُمْكنْ،
جايي تِنْهَبْكُن،
تاخذ نسوانكُن سبايا،
وولادْكُنْ عبيد.
الشعب: تسقط روما... تسقط روما... تسقط روما.
فالخزنة في «بترا» التي وثق بها العالم المشرقي أصبحت مغارة للصوص، نهبت شعبنا الطيب في لبنان.
والسؤالُ الذي يفرضُ نفسَهُ اليوم هو هل من ربيع عربيٍّ حقيقيٍّ ينبثق من هذا المؤتمر؟ وهل من قيادةٍ حكيمة تقودُ هذا المشرق إلى لملمة أشلائه وحقنه بروح حياةٍ جديدة، تؤمن بمسلَّمَةٍ آمنت بها المجتمعات الحديثة، وهي أنّ الخروج من أيّ أزمة يستوجبُ المرورَ بثلاث مراحل:
1) دراسة الأرضية؛
2) التوعية؛
3) والتعبئة.
وإذا درسنا الأرضيّة التي تقف عليها الأمّة لرأينا أنها ساءت كثيراً. فلسطين أصبحت «ضفة» ينهشها الاحتلال شبراً شبراً، والعراق أرض الشرائعِ عراقياتٌ يطاردها احتلالٌ غير شرعي (outlaw)، وشامة العروبة في جرحٍ نازف، والأردنّ مُتَسَوِّلٌ على عتبات الغرب، ولبنان مُمْعِنٌ في حروبه الداخلية وأمراء الحرب ما زالوا في متاريسهم وخنادقهم الطائفية، والعروبة في انحسارٍ ومحنة. هذه هي الأرضية اليوم في المشرق. ودراستها تتطلب معرفةً، وإحدى ركائز المعرفة هي المعلومات المكتسبة. فعملية جمع المعلومات وتخزينها وتحليلها هي الجرس الطنان (BUZZWORD) اليوم في كل حركة حول العالم. وهي أساس استراتيجية العمل لكل دول العالم ولكل المؤسّسات، سواءٌ كانت حكومية أو شركات خاصة، وذلك لضرورات اقتصادية وتربوية وثقافية وعسكرية وصحية، وحتى سياسية. فاليوم، وكلَّ يوم، تعتمد قرارات الدول ومؤسّساتها، كليّاً، على المعلومات التي تجمعها وتبقى في حوزتها. وثمّة دول تتصارع بشراسة لجمع معلومات بعضها عن بعض. وكلُّ فريق رياضي إنّما يبني استراتيجيته الهجومية والدفاعية بناءً على المعلومات التي جُمِعَتْ عن الفريق المضاد والمجابه له. والحروبُ، على بشاعتها، لا تُخاضُ إلا اعتماداً على المعلومات المتجمعة عن نقاط ضعف العدو ونقاط قوته.
لا شك في أن الاتفاق السعودي - الإيراني لم يكن متوقعاً، وهو يظهر باستشرافه للمستقبل كضربة معلم لأنه غيَّر التوقعات الاستراتيجية السياسية المعروفة في المشرق
فعملية جمع المعلومات لا تقتصر على مفهومها الإحصائي فقط، إذ إنها تنتهي، مع كل المؤسّسات، بما يسمّى «التقرير المُجَدْوَل للأداء» (Dashboards)، الذي يمدّ العاملين في المؤسّسة بمعلومات عن مستوى الأداء، وتصنيفه تحت لونٍ من الألوان الأربعة: الأحمر وهو السيّئ، والأصفر الذي هو تحت المعدّل، والأخضر وهو الفوق المعدّل، والأزرق الذي هو الممتاز أي 100%. وهناك حدٌّ أدنى وحدٌّ أعلى يعرفه العاملون في المؤسّسة، وبلمحة بصر يمكنهم أن يلتقطوا ذا الأداء السيّئ الذي يجب معالجته، وذا الأداء الممتاز الذي سيُحتفى ويُحتذى به.
جمعُ المعلومات ضرورة أولية للتأهّب وللمبادرة وللفعل الناجح، حين يتحدّد الهدف وتتوضَّح الغاية. وهو عمليةٌ يُفترَضُ فيها أن تكون شفافة وبعيدة كل البعد من أيّ أفكار مسبقة. وبناءً على التجربة، فهي السبيل إلى اكتساب المعرفة في كل المجالات، وذلك بدورها التثقيفي للفريق الذي يجمع المعلومات ويُدَوّنها ويحلّلها، ليعمّمها على الرأي العام ككل. وهذه المعلومات، للقياديين في هذا المضمار، يجب أن تكون منطلقاً، وحافزاً، وقوةً لهم نحو الأفضل، فـ«المجتمع معرفة والمعرفة قوّة».
في أوائل التسعينيات من القرن الماضي، ظَهر ما يسمّى: Business Intelligence Systems، وهو مجموعة البرامج الإلكترونية Software Applications، التي تخزِّن المعلومات الأولية وتنسّقها، وتستنطق ما يتلازم معها من معلومات مخزونة سابقاً، ثم تحلّل كلّ هذا لتعرضه في تقرير معرفي نهائي (كما ذكرنا آنفاً) يكون منطلقاً لآفاق جديدة في التخطيط والبحث والممارسة المهنية، الأمر الذي يزيد المعرفة ويخدم المجتمع بكُلِّيَتِهِ وبأفراده.
وجمع المعلومات له فوائدَ كثيرة:
1) معرفة ما يجري في بيتك وفي محيطك وفي العالم كله؛
2) معرفة ما يمكن أن يتحقّق وما هو مستبعدٌ أن يتحقّق؛
3) تركيز الانتباه دائماً على تحقيق الهدف والغاية؛
4) المساعدة على إثبات الإيمان بالمشروع النهضوي المعروض والسير به قدماً، بإصرارٍ وبخطىً حكيمة ثابتة؛
5) المساعدة على استعادة الثقة بالنفس، وتقدير قوّة الفريق العامل في المشروع النهضوي الذي يَعتبر أنّ المجتمع مبنيٌّ على نظرية: «الواحد للكل والكل للواحد».
6) المساعدة على تخفيف الكلفة في أيّ مشروع. والكلفة لا تقتصر على معناها المالي المحدود، إنما تشمل كلفة العواقب التي تنتج من عملٍ غيرِ مدروس، والتي يجب تجنُّبُها. فمن ناحية الدافع الاقتصادي، وعلى مستوى الدولة، فإن أيّ مخصّصات مالية لأجل أيّ مشروع يتطّلب منتهى الشفافية في إنفاقها ومنتهى المسؤولية والحكمة والانضباط في العمل كي تأتي النتائج إيجابية. وهذا أيضاً يراعي الدافع السياسي للأمر، من حيث أن المخصَّصات المالية تأتي من الضرائب التي يدفعها المواطن للدولة أو للمؤسّسة، وهو المعنيُّ أولاً وأخيراً، وله الحقّ في التأكُّد من إيجابية النتائج النهائية.
7) المساعدة على التركيز على التطوّر والابتكار؛
8) المساعدة على تخفيف الهدر؛
9) المساعدة على تفهُّم الناس لحاجات الإنسان (وهنا تبدو أهمية جمع المعلومات عن حاجات الناس)؛
10) المساعدة على كسْب ثقة الإنسان في تعامل القيادة معه؛
11) تأمين جودةٍ في النتائج النهائية من أجل توظيفِهاَ في خدمة المجتمع؛
التوعية والتعبئة هما أمثل وسيلتَين لشقّ الطريق نحو الأفضل. التوعية ما هي إلا حصيلة المعرفة: معرفة الأرضية التي تقف عليها الأمّة، والتي توارت نظرة القيادات عنها؛ معرفة البناء والممارسة غلالاً وفكراً. والمعرفة إن تزاوجت مع مهارة في التواصل تصبح حكمة.
ولا بد من معاييرَ في الأَداء. فالجدال بين دعاة تغيير الأرضية وبين دعاة المحافظة على الحالة الراهنة يجب أن يكون منطقياً، ولا يمكن أن يؤدّي إلى نهاية منطقية إلا إذا تمَّت الاستعانة ببعض المعايير.
التوعية موجودة في البيت المشرقي المثقف والمدرك للقضايا المطروحة، من خلال الإعلام الحر بكل أنواعه، ومن خلال وسائل التواصل الاجتماعي التي يتحكَّم بها العدوّ.
أمّا التعبئة، فلا بد منها من أجل عدم الركون إلى الحالة الراهنة؛ وهذا يتطلَّب قيادة حكيمة. وشروط القيادة الحكيمة هي:
1) الرؤية؟ الخلاف بين صاحب الرؤية وبين الداعي إلى الركون إلى الحالة الراهنة يصفه أدونيس بأن الراكن «إذا نظر إلى الشيء الخارجي يراه ثابتاً على صورة واحدة، لا تتغير». أمّا ذو الرؤية، فـ«إذا نظر إليه يراه لا يستقرّ على حال، وإنما يتغيّر مظهرُهُ وإن بقي جوهرُهُ ثابتاً» («الثابت والمتحول»، ج1، ص: 168).
2) الابتكار؟ قد يكون مشروعاً أو نظاماً أو وسيلة أو آلة ألخ...
3) الابتكار يجب أن يكون هدفُهُ خدمة المجتمع.
4) التعبئة لفريقٍ عامل يؤمن بتحقيق الابتكار والوصول إلى غايته المنشودة.
5) توفير الثروة لتحقيق هذا الهدف.
فهل تخرج من هذا المؤتمر قيادةٌ رؤيوية تأتي بمشروعٍ نهضوي، ومن عاصمةٍ مشرقية، وتملك ثروةً له، وتعبِّئ لفريقٍ عامل يؤمن بالمشروع ويلتزمُ به؟
هذا الفريق العامل وقيادته يكون لهما مسؤولية السير في العمل على ما سلَّمَتْ به المجتمعات الحديثة، بكل مؤسّساتها الحكومية والخاصة. فهي تتبع نظرية «إرنست أموري كادمان» Ernest Amory Codman، في العقد الأول من القرن العشرين، التي قالت إن العمل، أيَّ عمل، يُقيَّمُ بنتائجه النهائية. وقد أصبحتْ هذه النظرية شعار اليوم بعد مرور قرنٍ من السنين عليها. هذه الديناميكية التي تَعتمد على الجودة في النتائج النهائية، وعلى الاكتساب المتنامي لمكونات هذه الجودة التي تُغني الإنتاج وتكتنزُ به الثروة. فكل مؤشِّرٍ جديد للجودة يُضاف إلى ما قبله في عملية تخزين وتراكم أو بالأحرى في عملية إغناء مستمرة في الزمن ووفق خطّ بياني تصاعدي. وبما أن هذا الخط البياني هو خط تصاعدي، فليس هناك مدًى محدّدٌ للجودة أو سقف (Bench Mark) تقف عنده كل المحاولات.
ونحن قد خبِرنا ممارسات القيادات في هذا المشرق، وبعضُها كان حسنَ النية، ولكنها بمجموعها لم تتَّبع نظرية كادمان، أي أنها لم تخضع لعملية المحاسبة من خلال التقييم والتقويم. وعلى الموكلين بعملية التقييم أن يكون عندهم ارتيابٌ إيجابيٌّ في الحركة، أي غيرُ عدائيٍّ، هدفُه مشاركة القيادة في الإصلاح وليس إلغاء الحركة، أو إلغاء القيادة. الأخطاءُ تحدثُ في مسيرة أيّ حركة، والقيادات الحكيمة تدرك ذلك، وتحاولُ تقويمَ مسارها في مواصلتها العمل في مشروعها النهضوي.
في كتابه (Black Swan) «البجعة السوداء» الذي حصلَ على شهرة واسعة في أميركا، يقولُ الكاتب نسيم طالب إنَّه كان معتاداً على الاعتقاد بأن كل البجع ذو لونٍ أبيض، والبجعة السوداء لم تكن معهودة، ولم يكن وجودها متوقَّعاً، ولكنها فجأةً ظهرت في القارة الجديدة أستراليا. وهكذا، وبحسب رأي الكاتب، التغيرات العالمية حصلت ليس بسبب التطور الطبيعي والتوقّعات الناتحة من ذلك، وإنما بسبب التغيرات المفاجئة وغير المتوقعة.
وما لم يكن متوقعاً أيضاً هو ما حدث في عهد الخليفة عبد الملك بن مروان. يقول الأستاذ جورج صليبا، الخبير في الشؤون العربية والإسلامية، إنّ منحى الاقتصاد في المشرق بعد الفتوحات الإسلامية بقي على حاله ولم يتغيَّر، وكانت الدولة تتداول بالدينار الذهبي البيزنطي إلى أن رد الخليفة الأموي عبد الملك بن مروان على تحدي الإمبراطور البيزنطي، الذي هدّد بقطع الدينار الذهبي البيزنطي عن الدولة الأموية إذا لم يغيّر عبد الملك افتتاحَ رسائله بالشهادة لله ورسوله محمد. وعملاً بنصيحة الكيميائي خالد بن يزيد بن معاوية، أمر الخليفة بصك الدينار الذهبي العربي. وهذا القرار أدّى إلى تعريب النقد والاقتصاد، ومن ثَمَّ إلى تعريب الثقافة العربية في عهد المأمون، وازدهار حركة الترجمة بفضل العلماء السريان الذين، بالإضافة إلى إتقانهم اللهجة السريانية، تميّزوا بإتقانهم شقيقتَها اللهجة العربية واللغة اليونانية.
اليوم، لا شكّ في أن الاتّفاق السعودي - الإيراني لم يكن متوقّعاً، وهو يظهرُ باستشرافه للمستقبل كضربة معلم لأنه غيَّر التوقعات الاستراتيجية السياسية المعروفة في المشرق وما حول المشرق. ولأوّل مرّة في تاريخها، تبدو السعودية مستقلّة في قراراتها الوطنية. وواضحٌ أن باستطاعة الواحد منّا أن يبني من هذا الاتفاق افتراضاتٍ عدة ومعقولة في عملٍ استراتيجي:
- أولها: جعل القضيّة الفلسطينية قضية المشرق العربي الأولى، واحتضان المقاومة، خصوصاً بعد ثورة الشباب في الأرض المحتلَّة.
- ثانيها: وقف الحرب في اليمن؛ وهذا يصبُّ في مبادرة وقف الهدر التي تصبُّ في الخطّة الاستراتيجية.
- ثالثها: الاستجابة للاستراتيجية البعيدة للسعودية كموقع عربي مشرقي، بالقيام بدورٍ عروبي يجمع شمل عرب المشرق في ما سمّاه بعضُهم الفيدراليات المشرقية، التي تشمل العواصم المشرقية الست، من دون تجاهل مصر التي، وإن وُجِدَت جغرافياً في المغرب العربي، كانت دائماً ذات هوىً مشرقيٍّ، والتي في موقفها التخلّي عن السودان أدّى إلى تفتيته بالتدخلات الأجنبية المعادية.
- رابعها :دورٌ آسيوي - إيراني، إذ يجب أن ننسى أن إيران الكبرى فقدت الكثير من أراضيها ومن دورها الآسيوي عبر العصور.
- خامسها: ارتياب غربي من الاتّفاق ومحاولة إفشاله، وقد تكون الحرب في السودان جزءاً منه.
والسؤال هو هل هناك ربيعٌ عربيٌ حقيقي؟ وهل يعود المسيحيون إلى عروبتهم وكرسيهم الأنطاكيِّ المشرقي؟
أعرفُ أنَّ هناك مرجَعاً سنّياً في الأزهر، ومرجعاً شيعيّاً في النجف، فهل تعودُ مكّة مرةً أخرى مرجعاً إسلاميّاً جامعاً لكلِّ الطوائف الدينيَّة، محمدية كانت أو مسيحية؛ فـ«كلُّنا مسلمون، منّا من أسلم لله بالقرآن، ومنّا من أسلم لله بالإنجيل، ومنّا من أسلم لله بالحكمة».
وهل يرجعُ الإسلام إلى عروبته المشرقية؟
وحده الزمن قد يجيب عن الأسئلة.
ارسال التعليق