نموذج اتخاذ القرار في الحرب السعودية على اليمن
تلعب المعرفة والخبرة والبنية السيكولوجية لدى صانع القرار دورا مهما في اتخاذ القرار.
كيف يمكن ان يكون هناك قرارا عقلانيا ورشيدا في ظل سوء حساب عميق وسوء إدراك أعمق؟
إن إدارة الدولة في عالم دولي معاصر بلغت من التعقيد درجة تعيي أجهزة الحاسوب الفائقة عن نمذجته.
سوء الادراك يتمثل في الاعتقاد بأن معطيات معينة تقود الى نتائج محددة استنادا لمنظور معرفي خاطئ.
سوء الحساب يعني الاستناد لمعلومات وبيانات غير دقيقة وتلاعب البيروقراطيات الحكومية في طريقة عرض البيانات قبل وصولها لصانع القرار وتشويهها.
الرشد أو العقلانية تعني كيفية أو آلية اختيار البديل الانسب بين عدة بدائل للقرار على أساس أكبر قدر من المكاسب الممكنة أو اقل قدر من الخسائر المحتملة.
* * *
تتفق أدبيات العلاقات الدولية في دراسة الحروب والنزاعات الدولية على أن نتائج الحروب تتحدد طبقا لملابسات اتخاذ قرار الحرب، وتشير دراسة دان ليندلي وريان شيلدكروت (2004) إنهما قاما بقياس نتائج 79 حربا بين 1815 و1997، وتبين لهم أن نتائج هذه الحروب كانت على النحو التالي:
- 49% من هذه الحروب فاز بها من بدأ الحرب
- 30% خسرها من بدأ الحرب
- 14% انتهت لمأزق للطرفين دون تحقيق أي منهما نصرا بينا.
- 1% تم الدخول في مساومات بين الطرفين
- 5% انتهت دون وضوح للنتائج.
لكن الملفت للنظر في نتائج هذه الدراسة انه عند تقسيم الفترة الزمنية من 1815 الى 1997(182 سنة) تبين انه في كل مرحلة كانت نسبة انتصار المبادر بالهجوم تتراجع نظرا لتزايد هائل في المتغيرات الجديدة وتعقيدات الحياة الدولية المعاصرة وتشابك ابعادها.
وتدل النتائج على ان حوالي نصف الحروب انتهت الى غير ما كان يأمله المبادر بها، فإذا اضفنا هذه النتيجة الى ان الاتجاه الاعظم خلال ما يقرب من قرنين يشير الى ان نسبة احتمال فوز المبادر تتراجع في كل فترة، فإن الامر يستدعي روية عالية جدا قبل اتخاذ قرار الحرب.
وتتفق هذه الدراسة مع عدد وافر من الدراسات السياسية في العلاقات الدولية على أن اهم محددات نتائج الحرب الفاشلة هي :
أولا: سوء الحساب ويعني الاستناد الى معلومات وبيانات غير دقيقة او تلاعب البيروقراطيات الحكومية في طريقة عرض البيانات قبل وصولها الى صانع القرار وتشويهها. (هل يقال لصانع القرار إن نصف الكأس فارغ ام نصفه ملآن)
ثانيا: سوء الادراك ويتمثل في الاعتقاد بأن معطيات معينة تقود الى نتائج محددة استنادا لمنظور معرفي خاطئ.
ثالثا: الرشد او العقلانية وتعني كيفية أو آلية اختيار البديل الانسب من بين عدد من البدائل للقرار على اساس أكبر قدر من المكاسب الممكنة أو اقل قدر من الخسائر المحتملة.
وتلعب المعرفة والخبرة والبنية السيكولوجية لدى صانع القرار دورا مهما في اتخاذ القرار، وتتفاعل عوامل الخبرة والمعرفة والابعاد السيكولوجية مع إطار مجتمعي يخلق صورة متبادلة بين صانع القرار والمجتمع من ناحية واطارا بيروقراطيا من هيئات الدولة يؤثر على صانع القرار من خلال تقاليد آليات صنع القرار (أي دراسته وتحديد نتائج كل بديل) واتخاذه (أي اختيار بديل معين).
ولو طبقنا ذلك على القرار السعودي في حرب اليمن (وكنت قد نبهت الى نتائجها الحالية بعد نشوب الحرب بقليل في مقال على صفحتي على الفيسبوك وفي رسالة موجهة لسمو ولي العهد السعودي) سنجد ما يلي:
1- سوء الحساب: فولي العهد السعودي توقع في تصريح متلفز ان الحرب ستنتهي لصالحه خلال " اسبوعين او ثلاثة) ونحن على اعتاب الاسبوع رقم 400 تقريبا، أي ان نسبة الصحة في الحساب تصل الى حوالي0.75%.(أي أقل من 1%)، بل هدد بانه سينقل المعارك لقلب ايران فاذا بالانفجارات في قلب ارامكو التي تمثل احد ايقونات اقتصاده
2- سوء الادراك: هل وضع صانع القرار السعودي ايأ من الاحتمالات المستقبلية التالية في اعتباره قبل اتخاذ قراره:
أ- ان الحرب ستكلفه ما بين 300 مليار دولار طبقا لأقل التقديرات (الغربية والاممية ) و 420 مليار دولار طبقا لأعلى هذه التقديرات، أي بمعدل 360 مليار دولار.
ب- أن الجيش السعودي سيدفع بحياة ما بين 5000 عسكري (في اقل التقديرات) و10 آلاف عسكري في أعلى التقديرات.
ت- أن الولايات المتحدة ستكون احد قوى الضغط على السعودية لانهاء الحرب.
ث- أن الولايات المتحدة ستقر بشرعية انصار الله واعتبارهم طرفا أصيلا وخارج قوائم الإرهاب,
ج- أن الولايات المتحدة ستعود للتفاوض مع ايران حول ملفها النووي مما يخفف الكثير من الأعباء على ايران ويحرر طاقاتها اكثر
ح- أن الولايات المتحدة ستبدأ رحلة ترتيب اولوياتها الاقليمية بشكل يرجع مكانة الشرق الاوسط للخلف وأن قوى دولية اخرى تزحف نحو المنطقة ولا تنظر للتفاعلات في المنطقة من منطلقات ترامب او حتى بايدن.
خ- أن خلافات قد تقع بين فريق التحالف كما يجري بين الامارات والسعودية.
د- أن إدارة انصار الله للحرب ستكون بكيفية لم يتوقعها وبامكانيات غير متخيلة لصانع القرار السعودي.
ذ- أن منظمات حقوق الانسان ستنقل صورة بائسة عن آثار السياسة السعودية على الانسان والمجتمع اليمني.
ر- أن اشعال حرب خارجية لامتصاص احتقانات داخلية تجدي لأجل محدود لكنها لا تلغي الطفح السياسي الداخلي.
كل ذلك يستدعي التساؤل: كيف يمكن ان يكون هناك قرارا عقلانيا ورشيدا في ظل سوء حساب عميق وسوء ادراك اعمق؟
إن إدارة الدولة في عالم دولي معاصر بلغت من التعقيد درجة تعيي أجهزة الحاسوب الفائقة عن نمذجته! وفي عالم كهذا فان قرار اعتقال أمير او ابن عم أو منح رخصة قيادة سيارة للمرأة أو طرح مشاريع اقتصادية تصنعها قوى تتقن لعبة التسلل عبر الثغرات النفسية وثغرات نقص الخبرة وسوء الادراك وسوء الفهم..
كلها تختلف عن الدخول في حروب دولية.. لقد انتهى نموذج كرة البلياردو الذي تشبث به الواقعيون ودولة ما بعد ويستفاليا، وانتقلنا إلى نموذج شبكة العنكبوت التي تهتز كلها لمجرد أي اهتزاز في احد خيوطها..
* د. وليد عبد الحي أستاذ علوم سياسية، باحث في الدراسات المستقبلية والاستشراف
ارسال التعليق