لماذا لن يُطيح «الطوفان» التطبيع السعودي
بقلم: عباس بوصفوان...
كلما زادت حدة الاشتباكات بين المقاومة الفلسطينية وكيان الاحتلال، يزداد السؤال المتعلق بمصير التطبيع السعودي حضوراً في المداولات السياسية.
أولاً: السردية السعودية:
تروّج وسائل إعلام مُقربة من السعودية، مثل «بلومبرغ» التي تجمعها شراكة واسعة مع «المجموعة السعودية للأبحاث والإعلام»، المالكة لكبريات وسائل الإعلام السعودية المرئية والمقروءة، بأن عملية «طوفان الأقصى»، التي نفذتها حركة «حماس» وأدت إلى هزّ المنطقة، والقناعات السياسية فيها، و«التطبيع»، والأمن الصهيوني، وأميركا، والخليج، دفعة واحدة، هي نتاج تحريض إيرانيين وتخطيطهم، هدفهما إجهاض الجهود الأميركية للتقارب بين المملكة والكيان. ويتكئ الإعلام الغربي في ذلك على تصريحات طازجة مضادة للتطبيع صادرة عن المقاومين، لإنتاج سردية ملتبسة تحاول حرف الغاية الكبرى من هجوم السابع من تشرين الأول: تحرير فلسطين وأسراها وقدسها وأقصاها وعموم شعبها وأرضها.
ثانياً: النجدة الأميركية لإسرائيل:
بعكس ما يرجو «محور المقاومة» من عودة البصيرة إلى الرياض، وأن يدفعها «الطوفان» إلى إعادة النظر في مسارها الرامي إلى توطيد علاقاتها مع كيان لا يستطيع الذود عن نفسه، فضلاً عن مساعدة الآخرين، فإن خطاب الرئيس الأميركي، جو بايدن، الفجّ وغير الديبلوماسي وغير العقلاني، بل الوقح والمليء بالأكاذيب، الداعم للعدوان الهمجي على غزة، يجعل السعوديين أكثر تمسكاً بالتطبيع! وذلك على أمل أن يجذب التقارب مع إسرائيل، أميركا لتقديم ضمانات أمنية أكثر إلزامية للخليج ودوله وأسره الحاكمة.
ثالثاً: الهواجس السعودية التقليدية تجاه المقاومين:
من بين الأوجه التي قد لا تجعل «الطوفان» مُفرملاً للتطبيع، بالقدر الذي يأمله الخيّرون الناصحون، أن الهواجس السعودية من الحالة الفلسطينية قديمة ومتأصلة في بُعدها السلبي، فلا تثق الرياض بالناشطين من أبناء القدس ورام الله وغزة، وتصف تجربتها معهم بالمُرّة: إنهم «محامون فاشلون عن قضية عادلة»، كما قال بندر بن سلطان. ثم إن إستراتيجيات «حماس» و«حزب الله» و«الجهاد» تخدم إيران، كما يكتب عبد الرحمن الراشد، رئيس تحرير صحيفة «الشرق الأوسط» وتلفزيون «العربية» الأسبق، ولا تخدم رؤية الرياض القائمة على «السلام الاقتصادي والقُطري». وحتى في أيام الرئيس الراحل، «المعتدل»، ياسر عرفات، عمل الناشطون الفلسطينيون في خدمة أجندات مصر وسوريا والعراق، ونادراً ما كانت القيادة الفلسطينية مطيعة للرياض، بل إنها وقفت مع صدام حسين في غزوه الكويت. كثير من تلك الهواجس قابلة للدحض، فقد لعب المال الخليجي دوراً هائلاً في تطويع الفلسطينيين، الذين خسروا باتّباعهم الخليجيين السلاح والتحالفات و«أوسلو». وما يُؤسف له أن تكون هذه الهواجس متبادلة، وهي في طريقها إلى التزايد، ما يجعل العلاقات مشوبة بكثير من العُقد، وعلى الأرجح، سيُستغلّ ذلك للذهاب في تطبيع مضرّ بالمنطقة وقضاياها.
رابعاً، تنامي «الميليشات»لا ترى السعوديةُ «حزب الله» و«حماس» و«الجهاد» حركات مقاومة ضد احتلال غاشم، وتشترك مع الصهاينة في إبراز تلك الفصائل المسلحة باعتبارها مشكلة أمنية. يسمّونها المليشيات، و«أذرع إيران» التي تمثل «دولة داخل الدولة» وتُزعزع الاستقرار، مثل «حماس» المتمردة على السلطة الفلسطينية، و«أنصار الله» المتمردين على ما يسمى «الشرعية اليمنية»، و«حزب الله» الطرف النافذ في لبنان، والداعم للطرفين المذكورين ضد السعودية والصهاينة. وذلك موجب للتقارب بين مملكة وكيان يشتكيان من قوى غير نظامية، عسكرية تتضخّم على حدودهما. هكذا يتحدث السعوديون.
خامساً، انتعاش المحاور:
الموقف السعودي سيبرز على نحو أسوأ، لو افترضنا أن «اتفاق بكين» مع إيران لم يُبرم. لكن «الطوفان» يذكّر بوجود رؤى متعددة في «الشرق الأوسط»، ولا يمكن للمصالحات الإقليمية، التي نشجّعها وندعمها بكل قوة، أن تخفي المحاور الثلاثة الفاعلة: السعودي " المصري، والتركي – القطري، والإيراني، والتي تتفق في أمور وتختلف في أخرى. ومن المفيد أن تدار تبايناتها على نحو لا يدفع نحو مزيد من الشقاق. ومن سوء الحظ، أن السعودية تعدّ هزيمة إسرائيل في هذه الحرب انتصاراً لمحور إيران المنافس، تماماً كما كان يرى سعود الفصيل عدوان تموز 2006، وهذا ما يجعل التطبيع في عيونها قضية لا حياد عنها، إلا إذا تمكنت طهران من إقناع الرياض بالانضمام إلى محور المقاومة " وهذا سيناريو خرافي -، أو تأجيل التطبيع إلى حين. بالنسبة إلى إيران، فقد أثبتت قدرتها الفائقة على نسج علاقات مع تركيا وقطر و«حماس»، حتى في ذروة الخصام الدموي في سوريا، وهي ستعمل جهدها للحفاظ على علاقات مع الرياض، حتى في ظلّ الخلاف حول «الطوفان» والتطبيع، بل حتى لو ذهبت السعودية إلى التطبيع، فلا تستطيع الجمهورية الإسلامية فرض إيقاعها على الدول الأخرى.
سادساً، انهيار العرب :
ما يشجع الخليجيين على التطبيع، انهيار الحالة العربية، إثر حمامات الدم التي نزفتها المنطقة في حروب «الربيع العربي» وما تلتها من جولات، أدت إلى إضعاف الأمن الإقليمي وكل من سوريا ومصر وليبيا والسودان وتونس ولبنان ودول أخرى، بما يذكّر بالانهيار العربي الذي أعقب غزو صدام حسين للكويت في صيف 1990، الذي استُثمر غربياً وعربياً لفرض «اتفاقيات أوسلو» المذلة. وبالنسبة إلى الأميركيين، الذين أسهموا في إرهاق المنطقة، يجدر استثمار هذه اللحظة لرفع علم الاحتلال في الرياض، فيما العلاقات الاقتصادية والرياضية وتبادل الزيارات قطعت شوطاً مهماً بين الطرفين.
سابعاً: التوازن المختل:
مع إبراز «قناة العربية» الأصوات الناقدة للمقاومين في غزة، وخياراتهم السياسية ونهجهم الجهادي وتحالفاتهم الإقليمية، فإن أقصى ما يأمله الفلسطينيون أن لا ترتفع الإدانات من المنظومة الرسمية العربية على نحو يتجاوز ما شاهدناه في البيانات الحكومية، التي لا أحد يفهم منها شيئاً. فلا أحد في العالم يتوقّع من الرياض إعلان حظر نفطي، كما حدث في تشرين الأول 1973، أو مدّ «حماس» بالمال والسلاح والسند السياسي. ولا أحد يأخذ على محمل الجد المقولات السعودية عن إقامة «دولة فلسطينية»، عاصمتها القدس الشرقية، كمتطلّب استباقي لإقامة علاقات مع دولة الاحتلال، حتى في ضوء ما أثبته «الطوفان» من إمكانية ذلك، بل وأكثر. لكن بعض المتفائلين ما زالوا يأملون أن تعلن السعودية وضع التطبيع في الثلاجة، أو أن يعلن ولي العهد السعودي شخصياً ورسمياً إقامة دولة على حدود 67 كشرط مسبق للتطبيع!
ارسال التعليق