ما بعد طوفان الأقصى وتقلّبات مسار التطبيع
شكّلت معركة "طوفان الأقصى" حدّثًا تاريخيًا مفصليّا في المنطقة، ستبقى ارتداداته إلى أمد طويل يغيّر معه مجرى الأحداث المقبلة. لكن أول انعكاس له أنه أعاد إحياء القضية الفلسطينية بقوة، لتتصدر الاهتمامات من جديد. أما الارتداد الثاني، فكان أن أظهر فشل مشروع "دمج إسرائيل" بالمنطقة، وعرّى وفضح مشروع التطبيع و"السلام" المزعوم.
وفي إشارة واضحة للضربة التي وجهتها عملية طوفان الأقصى لمساعي التطبيع السعودي، قال وزير الخارجية الأمريكي أنتوني بلينكن بعد يوم من العملية، إن "عرقلة التطبيع المحتمل للعلاقات بين إسرائيل والسعودية ربما يكون من دوافع الهجوم الذي شنته حماس على إسرائيل". وهو ما عاد وكرره في مؤتمر صحفي حول نتائج زيارته للأراضي المحتلة.
ويمكننا القول جازمين بأن السعودية، بـ"ولي عهدها" أم بوزير خارجيتها وسائر ممثليها السياسيين، ما كانوا ليولوا أي اهتمام بمستجدات الساحة الفلسطينية، سوى من زاوية أفق استكمال مشروع التطبيع مع الكيان الاسرائيلي وارتدادات العملية عليه، والذي كان على رمي حجرة من إعلان تدشين العلاقات الدبلوماسية بين الطرفين؛ مع صفر تقديمات للفلسطينيين. وهو ما كان جليّا على لسان محمد بن سلمان في لقائه المشهور على شبكة فوكس نيوز، حين أعلن مستبشراً عن قرب التوصل للاتفاق "مع تحسين ظروف الفلسطينيين" متجاهلاً أكذوبة "حل الدولتين على أساس حدود ال67". وهو ما كان صادقا وحقيقيّا حينها عن النوايا السعودية.
توالت التصريحات السياسية من أبواب سعودية شتى لكنها تصبّ في المضمار عينه حتما؛ من تحييد الموقف السعودي عن إبداء أي موقف منحاز تماما للحق العربيّ ولا رافض لإسرائيل بما يتجاوز حد التنديد اللفظي. ولكن ما وراء الكواليس، كانت التحليلات تتوالى حول الموقف السعودي ومصير صفقة التطبيع. وتزامناً مع شبه الصمت الرسمي من الجانب السعودي واستبعاد استكمال الحديث السعودي المباشر –في التصريحات الرسمية وليس في المداخلات- عن مسار التطبيع، كانت التحليلات الغربية والتصريحات الأميركية، تفيد بحتمية استكمال المشروع. وفي واحد مما رشح من مواقف، تصريح المسؤول في البيت الأبيض، جون كيربي بأن هناك اهتمامًا من السعودية بالمضي قدماً في محادثات التطبيع مع اسرائيل، بعد اللقاءات التي أجراها وزير الدفاع السعودي خالد بن سلمان في واشنطن، لكن تركيز الجميع الآن هو على غزة.
لكن ما وراء الكواليس كلام آخر، إذ لا بد من التوقف عند المواقف الرسمية الأميركية من هذا الإعلان. وبين ذلك، تصريح مستشار الأمن القومي الأمريكي جيك سوليفان، الذي قال خلال إفادة بالبيت الأبيض إن جهود التطبيع لم تُرجأ، لكن التركيز منصب على تحديات عاجلة أخرى.
وقد يكون أصدق تصريح عن حقيقة الموقف السعودي صدر عن عراب التطبيع تصريحات تركي الفيصل خلال كلمة ألقاها في معهد بيكر للسياسات العامة بجامعة رايس في هيوستن الأميركية، إذ أدان "استهداف حماس للأهداف المدنية من أي عمر أو جنس التي تتهم به"، نازعًا عنهم صفة الإسلام إذ قال "مثل هذا الاستهداف يكذب ادعاء حماس بالهوية الإسلامية، الإسلام يحرم قتل الأطفال والنساء وكبار السن". هذا الموقف كان محل ترحيب إسرائيلي، إذ استشهدت به صفحة إسرائيل بالعربية التابعة لوزارة الخارجية الإسرائيلية، وتناقلته وسائل الاعلام الإسرائيلية، وخاصة فيما تعلق بالتطبيع السعودي، وقول الفيصل "إنني أدين حماس لتخريبها محاولة المملكة العربية السعودية للتوصل إلى حل سلمي لمحنة الشعب الفلسطيني".
وفي قراءة صهيونية حديثة، بقلم عضو في مجلس إدارة معهد ميتفيم ويدرس في قسم الدراسات الإسلامية والشرق أوسطية في الجامعة العبرية، يُقرّ بأن من شأن مثل هذه الصفقة أن تسمح للسعوديين بالتباهي بأنهم، على عكس دول اتفاقات إبراهيم، قاموا بالفعل بتعزيز القضية الفلسطينية. مشيرا إلى أنه هو إنجاز من شأنه أن يدعم القيادة السعودية في العالم العربي، وبالفعل هو "المكر" المتوقّع من ثعالب بني سعود.
وفي مقال لـ"إيلي بوده" في صحيفة جيروزالم بوست العبرية، الذي يقرّ بأنه من "المثير للدهشة أن السعوديين لم يتراجعوا عن عزمهم تعزيز التطبيع مع إسرائيل، على الرغم من الحرب مع حماس؛ ربما ليس من المستغرب، لأنهم كانوا يعلمون أن حماس وداعميها الإيرانيين هاجموا إسرائيل، من بين أسباب أخرى، لتقويض احتمالات السلام بين إسرائيل والسعودية. وقد أصدر السعوديون ثلاثة تصريحات إيجابية على الأقل لصالح التطبيع منذ بدء الحرب، لكنهم رفعوا سعرها. فبينما تحدثوا قبل الحرب بشكل غامض عن التقدم المحرز في القضية الفلسطينية، فإنهم يطالبون الآن بإقامة دولة فلسطينية، على الرغم من أنهم قد يقبلون بأقل من ذلك".
ويذكرالكاتب أربع قضايا رئيسية تمنع التوصل إلى اتفاق، ليس من ضمنها دموية المجازر التي ارتُكبت في غزة على يد "حليف السلام" المزعوم لآل سعود، إسرائيل:
العقبة الأولى ذو طبيعة معرفية. حيث أن التقييم المتنامي، والذي عززه يوم 7 تشرين الأول/أكتوبر على كلا الجانبين، هو أن حل الدولتين لم يعد قابلاً للتطبيق. إن إحداث التغيير في هذه النواحي هو عملية طويلة الأمد لإعادة تشكيل الذكريات الجماعية (القائمة على التقارب وليس على الجرائم) بطرق لا تشوه صورة الخصم ــ من خلال النظام المدرسي، ووسائل الإعلام، وغير ذلك من عوامل التنشئة الاجتماعية. على سبيل المثال، الآن حتى شهدنا تغيراً مهماً في تصوير اليهود وإسرائيل في الكتب المدرسية المصرية، بعد مرور 45 عاماً على معاهدة السلام مع إسرائيل، ومن الواضح أنها فترة طويلة جداً.
أما العقبة الثانية، فاعتبرها الكاتب مرتبطة بأصل وجود حماس، التي يصعب أن تكون جزءاً منالاتفاقية لضمانم ضبط ردة فعلها. ومجدِّدا الحديث عن أن طوفان الأقصى كان لتعطيل مسار التطبيع.
وفي إشارة إلى قناعة سعودية- صهيونية مشتركة، يضيف أن احتمالات "نزع سلاح حماس" سوف تعتمد على نتيجة الحرب وما إذا كانت ستخرج ضعيفة أو منتصرة، ليس فقط في ساحة المعركة، بل وأيضاً في التصور الفلسطيني." وفي كل الأحوال فإن الإسلاميين سوف يظلون يشكلون مركزاً أساسيّاً في المجتمع والسياسة الفلسطينية. وإذا قبِل الإسلام السياسي القواعد الجديدة للعبة، فقد يتمكن من الانضمام إلى العملية الانتخابية الفلسطينية..ومع ذلك، ستكون هناك حاجة إلى ضمانات دولية وعربية للدفاع عن قواعد اللعبة الجديدة هذه".
وتنبع العقبة الثالثة -وفقا لجوريزالم بوست- من جوهر الصراع مع الفلسطينيين: القدس واللاجئون. إنها قضايا حساسة ذات إمكانات متفجرة، وتتطلب من الجانبين تغيير تفكيرهما حول حدود الجدوى. ليست هناك حاجة إلى إعادة اختراع العجلة، حيث تم اقتراح العديد من الحلول الإبداعية على مدار سنوات من المفاوضات منذ اتفاقيات أوسلو.
أما العقبة الرابعة وربما الأكثر إلحاحاً فهي الجدول الزمني السياسي. تريد إدارة بايدن التوصل إلى اتفاق قبل انتخابات تشرين الثاني/نوفمبر 2024، في حين أن التغييرات الضرورية في القيادة الإسرائيلية الفلسطينية قد تستغرق وقتا أطول بكثير، هذا إذا حدث ذلك على الإطلاق. يرى آرون ديفيد ميلر، المحلل والمفاوض الأمريكي المخضرم في شؤون الشرق الأوسط، أن هناك بعدين زمنيين في الشرق الأوسط: بطيء وأبطأ. ويعتقد أن معايير السلام يجب أن تنتظر ولاية بايدن الثانية والحكومات الجديدة في إسرائيل والسلطة الفلسطينية.
وذيّلت المقالة المنشورة في الصحيفة العبرية، بأنه "نظراً لانشغال إسرائيل بالحرب في غزة والحرب المحتملة مع حزب الله، ومصير المختطفين لديها، وحماس، فربما ينظر الإسرائيليون إلى الحديث عن التطبيع السعودي والدولة الفلسطينية باعتباره ضرباً من الخيال. ومع ذلك، فإن التفكير المستقبلي والبدائل السياسية تخلق الأمل بمستقبل أفضل".
في المقابل، تقرأ أطراف المعارضة المتزنة في شبه الجزيرة العربية، بعد كل بيان سعودي، حقيقة المشهد وأبعاده. فقد وصف عضو الهيئة القيادية في "لقاء" المعارضة في الجزيرة العربية، الدكتور حمزة الحسن، البيان السعودي الأول عقب عملية طوفان الأقصى، بما دون المستوى والركيك والضعيف إذ يحاول أن يكون محايدًا. أما البيان الذي أعقب المجزرة، فجاء متأخرا، وإن كان بلهجة أقوى ولكن ليس بمستوى المصيبة.
معتبرًا أن ما قيل عن استقبل بلينكن ما هو إلا كلام، إذ أنه في الحقيقة السعودية مستاءة مما قامت به حماس، وكأن المعركة سعودية – إيرانية وليس معركة للحق الفلسطيني. مدللا بذلك ما كتب في وسائل الاعلام السعودية من هجوم على إيران وحماس، وكأن الأمر مؤامرة على مشروع التطبيع السعودي، والقول إن حماس عملية لإيران وإسرائيل، وأن الفلسطينيون أفشلوا مساعي السعودية لمنحهم دولة. وبالتالي فإن السعودية ترى أن مشروعها التطبيعي قد ضرب، وأن المشروع الإيراني المقاوم ينتصر ويتقدم، وهي كانت قد جاءت بالتطبيع تخفف من وهج المشروع المقابل بغض النظر عما إذا كان سيأتي للفلسطينيين بدولة أم لا. أما الآن، فمشروع التطبيع لم يعد مقبولًا.
ويؤكد أن ما يقال عن وقف التطبيع غير صحيح، والدليل تصريحات سوليفان وهجمات الذباب الالكتروني التي تتوقف إلا عند هول مجزرة المشفى وانفجار الشارع العربي بالمظاهرات الغاضبة، وذلك بتوجيه رسمي مخالف للتوجه السائد منذ 15 سنة بمهاجمة حماس. ويجري الدكتور الحسن مقارنة مع الموقف السعودية إبان حرب تموز، والموقف المشابه لها اليوم.
ارسال التعليق