هل قوضت السلطات السعودية القيم المركزية للحج؟
بقلم: أحمد سيف النصر...يأتي نحو مليوني إنسان من كل ركن من أركان المعمورة إلى نفس المكان وفي نفس الزمان لزيارة بيت الله وأداء فريضة الحج، في أعظم وأهم تجمع إسلامي عالمي سنوي. وفي حين أن الحج يمثل الإسلام في أفضل صورة عالمية وأكثرها تعددية ومساواة، إلا أنه لم يعد -كما كان في الماضي- أقوى تذكير على تجاوز الفروق العرقية والطبقية وتحقيق الوحدة والمساواة بين جميع المسلمين ومصيرهم المشترك.
أصبح الحج اليوم مجرد سلعة أو مشروع تجاري وأداة لتأكيد السيطرة والهيبة وتحقيق مكاسب سياسية، فضلًا عن تشديد القبضة الأمنية على أهم تجمع إسلامي سنوي في مكان مفترض أن يشعر فيه المسلمون بأكبر قدر من الحرية، وكأن الأرض المقدسة باتت ملكية شخصية، وهو ما أدى إلى تقويض القيم المركزية للحج.
على مدار التاريخ ظلت حرمة البيت الحرام وخدمة حجاجه من جميع الطبقات أمرًا في غاية الإجلال، إلا أن الحكومة السعودية غدرت بتعاليم الإسلام وعادات العرب، فالحج الآمن وتمكين الجميع من أداء فريضتهم وضمان سلامتهم دون تمييز أو تحيز لم يعد حقًا لجميع المسلمين. وفي حين أن الحجاج في الماضي كانوا يموتون في طريقهم إلى مكة بسبب المرض وقطاع الطرق، أما اليوم، فيسافرون براحة وأمان ليموتوا في الأرض المقدسة بسبب إهمال السلطات السعودية.
فرغم أن كل موسم حج خضع بشكل متزايد لرقابة السلطات السعودية، لكن كل عام تقريبًا نشهد كارثة جديدة في موسم الحج، ووفقًا للإحصاءات السعودية الرسمية، فمن عام 2002 إلى عام 2015، مات 90 ألفًا و276 إنسانًا خلال أداء فريضة الحج والعمرة من أكثر من 100 دولة. وهذه الأرقام التي تؤرخ لـ14 عامًا من مسلسل وفيات الحجاج والفضائح التي لا نهاية لها تخطف الأنفاس وتفطر القلب.
فغالبية هذه الوفيات كانت بسبب حوادث الحج الشائعة، كانهيار المباني والرافعات على الحجاج أو الحرائق والتدافع والاختناق، أو ما حدث هذا العام من الحرارة الشديدة، وعدم تقديم الرعاية الطبية للحجاج وتركهم يموتون في الشوارع دون تقديم أي مساعدة، والتي كانت في كثير من الأحيان مقصودة.
بالتأكيد لم تكن فاجعة الحجاج الأخيرة سوى واحدة من عدة كوارث على مدى العقود التي أدارت فيها السعودية موسم الحج، وبعد أسبوع من تكتم السلطات السعودية على كارثة الحج هذا العام واعتقال بعض النشطاء بسبب حديثهم عن مقتلة الحجاج، شنت حسابات على مواقع التواصل مع مشاهير تابعين للنظام السعودي حملات إلكترونية لإنكار الكارثة، بالضبط مثل حادثة مقتل خاشقجي.
لكن في نهاية المطاف اضطرت السلطات السعودية للاعتراف حتى الآن بوفاة 1301 حاج – بخلاف المفقودين – بعد تداول الكثير من الفيديوهات، لكنها تملصت من الكارثة وألقت اللوم على رقاب الحجاج واعتبرت “الحج بلا تصريح” ذريعة لإهمالها، في غياب تام لاحترام الموتى وقدسية المكان والزمان.
جنون أسعار الحج يدفع بعض المصريين للسفر بتأشيرات سياحية:
في الواقع، ترتبط وفيات الحجاج بعدم المساواة، حيث أظهرت الظروف المؤسفة التي شهدها الحج هذا العام، أن أكثر فئات الحجاج ضعفًا هم الأفقر، فمستويات الوفيات الأعلى بين الحجاج كانت من البلدان الفقيرة، ومعظم هؤلاء الحجاج لم يتحملوا مصاريف “الحج الرسمي”.
لقد خذلت المؤسسات الرسمية لإدارة الحج في السعودية الحجاج الضعفاء، وسمعنا حكايات كثيرة عن سوء المعاملة والإهمال الذي عانى منه الحجاج على أيدي الشرطة السعودية، وغياب أبسط الخدمات الضرورية، مثل سيارات الإسعاف، رغم المبالغ الباهظة التي فرضتها السلطات السعودية للحج هذا العام.
تأميم الحج.. كيف تغير معناه؟
لطالما ألهب الحج فكر كل جيل من الحجاج المسلمين الذين عادوا إلى ديارهم من مكة وهم عازمون على سرد تجاربهم، فمنذ القرن السابع، كان الحج إلى مكة هو الموضوع الرئيسي في أدب الرحلات الإسلامية. من روايات سفر ابن جبير وناصر خسرو وابن بطوطة، إلى محمد علي أفندي ومحمد أسد ومالكولم إكس والليدي إيفلين كوبولد وغيرهم كثير من رجال الدول ومؤلفين مشهورين وحجاج عاديين.
ورغم أن هؤلاء الحجاج ينتمون إلى أعراق مختلفة وخلفيات ثقافية واجتماعية واقتصادية وحتى طائفية متنوعة، تنتهي تجربتهم بنفس الطريقة ونفس المشاعر المتشابهة. إن ما دونه الحجاج عن تجربتهم يتمحور حول عظمة الحج في توحيد المسلمين من مختلف الأجناس والطبقات الاقتصادية، وهذا ما ترك الكثيرين يشعرون بالوحدة والمساواة والتضامن مع إخوانهم المسلمين.
إنه لأمر مدهش حقًا أن نرى كيف يمكن لتجربة على مدار كل هذه الأزمنة أن تنتهي بنفس الطريقة، إن ثبات الحج عبر التاريخ لا يشبه أي حج آخر في العالم. ففي نهاية المطاف، توالت إمبراطوريات ودول مختلفة على إدارة الحج، ولم تتغير فلسفة الحج طلية 14 قرنًا.
لقد سجل كثير من الحجاج القدماء سردًا مفصلًا وغنيًا عن تجربتهم في الحج، على سبيل المثال، ينظر محمد إقبال للحج على أنه صحوة وإعادة تجديد للأمة، ويعتبر الحج أكثر من مجرد رحلة روحية لإعداد الأفراد للحياة الآخرة، فهو برأيه بمثابة صحوة جماعية تلهم المجتمع الإسلامي بأكمله لإعادة تجديد نفسه واستعادة دوره في التاريخ.
في حين وصف المفكر الثوري الإيراني علي شريعتي الذي كتب في السبعينيات، الحج بأنه تجربة تختفي فيها الفروق بين الناس، ومن رأيه فالحج يحشد الأمة ويسعى إلى إعادة توزيع السلطة والثروة على أعضائها الأضعف، كذلك يعتبر شريعتي أن الحج هو أفضل وقت لانتقاد الظلم.
أما مالكوم إكس الذي أدى فريضة الحج بعد انفصاله عن جماعة أمة الإسلام البدعية ليصبح مسلمًا سنيًا، فيعطينا نظرة ثاقبة لتجربة الحج التي لا يمكن تكرارها اليوم، ففي رسالته من مكة بتاريخ 20 أبريل/نيسان 1964 لأحد أصدقائه، يشعر المرء حقًا بمدى الألفة والاطمئنان الذي شعر بهما الحاج مالكولم وكيف وفرت تجربة الحج في ذلك الوقت فرصة فريدة للحجاج للتفكير بشكل نقدي في حياتهم وكذلك عن المجتمعات التي يعيشون فيها، كتب مالكوم:
“قد تصدمك هذه الكلمات وهي تصدر عني؛ إلا أن ما خبرتُه في رحلة حجي هذه، حملني على أن أعيد ترتيب كثير من أفكاري الماضية، وأن أطرح جانبًا بعض نتائجي السابقة… ففي غضون الأيام الأحد عشر التي أنفقتها هنا، طعمتُ طعامي من طبق مشترك، وشربتُ شرابي من كوبٍ مشترك، وأويتُ مع إخوتي المسلمين إلى فراشٍ واحد، عابدين إلهًا واحدًا لا شريك له… كنا بحق إخوة في الله، إيمانهم بإلهٍ واحد أزال من عقولهم وسلوكهم ومواقفهم ما خالطها من غشاوات.. لم يسبق لي أن شهدت مثل روح الأخوة الحقيقية الغامرة التي يمارسها الناس من جميع الألوان والأجناس هنا في هذه الأرض المقدسة”.
من المثير حقًا أن نرى اليوم كيف تغير الحج في ظل حكم السعوديين وكيف أصبحنا بعيدين عن جوهر الحج الذي عاشه أجدادنا، وكيف تغيرت الديناميكا الروحية والسياسية للحج اليوم بشكل عميق، واختفت هذه المشاعر التي عاشتها الأجيال الماضية من تاريخ الإسلام في واقعنا اليوم وبات الحج يفقد معناه بشكل تدريجي.
في الواقع بدأ الحج يتغير منذ أواخر القرن العشرين، فقبل خمسينيات القرن الماضي، نادرًا ما تجاوز عدد الحجاج 200 ألف، ومع تطور وسيلة سفر الحجاج من الجمال والمراكب الشراعية إلى السكك الحديدية والسفن البخارية والسيارات، صار الحج أسرع من أي وقت مضى.
إلا أن طائرات جامبو والانتشار السريع للطيران المدني أحدث ثورة في الحج، وبدأت ظروف الحج تشهد تغييرًا جذريًا لدرجة أنه في غضون بضعة عقود فقط، قفز عدد الحجاج من 300 ألف في الستينيات، إلى 700 ألف في السبعينيات، ثم 900 ألف في الثمانينيات. وبحلول الألفية، تجاوز عددهم بانتظام المليون، وطوال القرن الحادي والعشرين ارتفع العدد بشكل مطرد إلى ما يقرب من 1.8 مليون. لكن الإشكالية أن تكاليف السفر الجوي للحج لم تعد في متناول معظم الناس، كما أصبحت تجربة الحج مختلفة اجتماعيًا وسياسيًا واقتصاديًا عما كانت عليه من قبل.
وبحلول الثمانينيات، نظرت العائلة المالكة السعودية إلى الحج كوسيلة اقتصادية لتنويع مصادر اقتصادها المعتمد على النفط، لكن الأسوأ أنها فرضت سطوتها بشكل متزايد على الحج، وبعد أن حافظ الحج تاريخيًا على استقلاليته، أدارته السعودية بشكل أكثر شمولًا في خطوة تهدف إلى إضفاء الشرعية على نظام الحكم والتلاعب بالحج لخدمة سياسات العائلة المالكة.
ومع استشعارهم للفرصة الاقتصادية الجديدة، شرع السعوديون في توسيع سريع لمواقع الحج وإعادة تشكيل مكة بشكل قاسٍ، فهدموا بالكامل معظم الأحياء والمعالم التاريخية من العصر النبوي إلى العصر العثماني، واستبدلوها بمراكز التسوق وعدد من الفنادق الشاهقة التي تتجاوز إمكانيات الحجاج العاديين، ومنذ ذلك الحين، بلغت مخاطر الحج ومآسيه مستويات قياسية.
مكة المدينة المقدسة – هبة رؤوف عزت:
لقد غابت النظرة الحميمة لتاريخ وثقافة الحج، وتشير التقديرات إلى أن السعودية خلال الـ20 سنة الماضية، هدمت 95% من التراث الثقافي في مكة حتى تلك المباني التي يعود تاريخها إلى زمن النبي محمد، ومن بينها، بيت السيدة خديجة وعدد من المساجد، بجانب نسف جبل كامل بالديناميت وهدم قلعة أجياد في عام 2003، التي بناها العثمانيون لحراسة مكة، ليتم استبدالها ببرج مكة العملاق الذي يبلغ ارتفاعه 601 متر، وهو ثاني أطول برج في العالم بعد برج خليفة في دبي.
قلعة أجياد قبل الهدم وهي تظهر خلف الكعبة سنة 1889م.
وبصرف النظر عن الكعبة والمسجد الحرام، لم يتبق في مكة مكان له أي إحساس بالتاريخ، لم يترك آل سعود أثرًا يدل على ماضي مكة العريق، لذا ذعر كثير من المسلمين من اختفاء مكة التاريخية وتدمير مئات المباني والمعالم الأثرية لإفساح المجال للمشروعات الاقتصادية والفنادق الفاخرة ومراكز التسوق الفخمة التي لا تعد ولا تحصى، وحسب الدكتور عرفان العلوي مدير مؤسسة التراث الإسلامي، فقدت مكة ما بين 400 إلى 500 موقع تاريخي، ويضيف عرفان: “لا أحد لديه الشجاعة للوقوف وإدانة هذا التخريب الثقافي”.
تشويه قبلة المسلمين.. لماذا تتحول مكة للاس فيغاس؟
ومع الوقت أصبحت مكة واحدة من أغلى المناطق العقارية في العالم، ويمكن أن يكلف المبيت في أحد فنادق أبراج البيت أكثر من 5000 دولار لليلة الواحدة، وهذا حافز كبير لآل سعود لهدم أثر عمره قرون من أجل استبداله بفندق وجعل مكة لا تتوافق مع هويتها.
إن فكرة تحديث الحج أدت إلى تجربة مختلفة تمامًا عما كان عليه الحج قبل 50 عامًا، ويجادل العديد من المعماريين إلى أن هدم التراث الأثرى لمكة تحت هوس المال والنزعة الاستهلاكية، واستبداله بالإنشاءات الجديدة، أفقد الحج معناه الحقيقي، فالحاج اليوم يرى مكة مدينة تجارية تهيمن على أفقها المباني الشاهقة التي تطل على بيت الله. اغتصبت رأسمالية آل سعود روحانية المدينة المقدسة.
كذلك أصبحت المدينة المنورة محاصرة بمجموعة من ناطحات السحاب المبهرجة والاستهلاك المهووس ومراكز التسوق والفنادق الفاخرة، في تناقض صارخ مع طبيعة المدينتين، ومن السخرية أن العثور على ماكدونالدز وستاربكس في مكة أسهل من العثور على المنزل الذي ولد فيه النبي محمد.
الأسوأ مما سبق، هو التميز في الخدمات المقدمة للحجاج، كعروض وباقات الحج وجودة الإقامة ومستويات الخدمة في أثناء الحج، التي تقوم على أساس عدم المساواة الاجتماعية والاقتصادية، فالحج أصبح يعتمد على الباقة المختارة ونوعية وسائل النقل الجوي وأماكن الإقامة في الفنادق من نجمة واحدة إلى 7 نجوم.
وفي حين توفر بعض العروض إقامة مشتركة تتكون عادة من 5 أشخاص في غرفة واحدة، توفر شركات أخرى “برنامج الحج بلس والفي آي بي” الذي يحتوي على فنادق 7 نجوم وخدمات متميزة لاستيعاب الأثرياء الذين يرغبون في تجربة الحج الفاخر ولا يريدون الانتظار للحصول على تأشيرة.
أصبح بيت الله محاطًا بوحشية بالمباني الخرسانية القبيحة التي تعرض الرؤية السعودية لمكة. وهذه المباني البشعة مبنية على المواقع الثقافية ذات الجمال الهائل والتاريخ الطويل.
ونتيجة لذلك، أصبح الحج اليوم ملعبًا للأثرياء وعملًا تجاريًا يقوم على عدم المساواة بين الحجاج من مختلف البلدان، فبدلًا من أن يكونوا متحدين في العبادة ومتساويين في المكانة، ينقسم الحجاج حسب طبقاتهم الاجتماعية وحجم حزمة أموالهم والرعاية الفاخرة المقدمة لهم.
ويمكن اليوم للحجاج الأثرياء التمتع برحلات جوية متميزة والإقامة في شاليهات وأماكن فاخرة أكثر أمانًا وصحة، بجانب الإضافات والرفاهيات غير الضرورية التي تروج لها وكالات الحج السعودية التي اكتسبت قوة وثروة هائلة، من المؤسف أن يسوق الحج طبقًا لأهواء وأذواق المستهلك!
فالسعودية اليوم تقدم حجًا مرحًا سعيدًا يسعى لجذب الأغنياء، ويركز على التكيف مع متطلبات الإنسان المادية، بدلًا من التحجيم والتخفف من الدنيا، وبالتالي لا يختفي التمايز الاقتصادي بمجرد دخول الحجاج إلى مكة، فلم يعد الحج تذكيرًا للمؤمنين بأنهم يتميزون بدرجة تقواهم لا بأموالهم، وهذا حقيقة يتناقض مع تجربة الحج الأصيلة، ففي العصور القديمة كان جميع الحجاج بمن هم في أعلى وأسفل الترتيب الهرمي يقيمون في الخيام، وجميعهم يتعرضون لنفس المخاطر، ومن هنا كان الشعور بالمساواة غالبًا عليهم.
ما الذي يتمتع به حجاج الـVIP بالمقارنة مع الحجاج العاديين؟
إن التغييرات التي طرأت على الحج لم تجعله أكثر ملاءمة وراحة بقدر ما انتهكت قيمه الأساسية واغتصبت روحانيته، كما أدت إلى زيادة حدة الاختلافات الاجتماعية، فالتوسع والتطوير اللذان قادتها السعودية للمدن المقدسة لم يتم بطريقة تستوعب الحفاظ على هوية وتاريخ المدينتين والأخذ في الاعتبار تجربة الحج الحقيقية التي أطلق عليها المسلمون القدماء “رحلة العمر”.
للأسف لم يتم التفكير وفق ما قد يراه الدين، بقدر ما يراه السوق وقيمه، ولذا أصبحنا أمام حج خاضع لقيم السوق الرأسمالية والماركات التسويقية، وبدأ الناس يشيرون بسخرية إلى مكة باعتبارها لاس فيغاس وديزني لاند الجديدة، بعد أن كان يرمز لها في الماضي كعاصمة الإسلام.
القرامطة الجدد: من له الحق في الحج؟
رغم أن الإسلام لا يمنح أحدًا السلطة للوقوف في طريق المسلم الذي يرغب في زيارة بيت الله، وبحسب العالم الموريتاني محمد الحسن ولد الددو فمن واجب كل مسلم قادر أداء فريضة الحج ولا يجوز لأي جهة منعه من أداء الفريضة.
لكن في كل موسم حج، يُطرح سؤال من هم المسلمون الذين يمكنهم الذهاب إلى الحج؟ إن القاعدة التي أرستها السعودية هي حاج واحد لكل 1000 مسلم في البلدان المختلفة، وهذا ما تم الاتفاق عليه في منظمة التعاون الإسلامي عام 1987، لكن عملية الاختيار لنظام حصص الحج ظلت غامضة. يشير العديد من المراقبين إلى أن المملكة أبقت نظام الحصص غامضًا من أجل استغلاله كأداة سياسية لمكافأة حلفائها ومعاقبة خصومها بناء على مواقف سياسية لا علاقة لها بالحج أو الدين.
نازلة جديدة تستدعي أن يجتمع لها العلماء:
وفي الواقع تستخدم السعودية الحج كسلاح لمعاقبة المعارضين السياسيين والصحفيين والعلماء الذين انتقدوا النظام السعودي، وفي أحيان كثيرة تستخدمه لكسب الولاءات السياسية ومكافأة الطغاة والمؤيدين المخلصين، علاوة على ذلك، يمكن للسعودية أن تعرقل إصدار التأشيرات، على سبيل المثال، في وقت الحصار السعودي لقطر، مُنع الحجاج القطريون من أداء فريضة الحج وواجه العديد منهم صعوبات في الحصول على تأشيرات.
كذلك كشفت بعض التقارير كيف تم إغراء بعض الأشخاص بدخول السعودية في أثناء موسم الحج ليتم إخفائهم قسرًا أو اعتقالهم نيابة عن حلفاء المملكة المستبدين وتسليمهم إلى الأنظمة القمعية، مثلما حدث مع تسليم الحجاج الإيغور إلى الصين.
وبعض الحجاج تعرضوا للملاحقة الأمنية، وهو ما يشكل انتهاكًا لحرمة الشهر الحرام. من المثير للسخرية أن المكان الذي تمتع فيه المسلمون تاريخيًا بحقوقهم كاملة، هو اليوم مكان خطير للعديد من الناس، فحتى في زمن الجاهلية لم يُمنع أحد من زيارة بيت الله أو التضييق عليه مثل اليوم.
إفساد الحج: ماذا يريد ابن سلمان؟
تاريخًا، كان الحج مهمًا لأهل مكة الذين اعتمدوا إلى حد كبير على الدخل الناتج من الحج. وحتى اكتشاف النفط في السعودية، كان الحج هو المصدر الرئيسي للدخل لكثير من أهل مكة، وجاء هذا الدخل من توفير السلع والخدمات للحجاج، لكن لم تطغ التجارة على الحج بحيث تصبح هي القيمة المركزية للحج.
واليوم يساهم موسم الحج في تحقيق مكاسب اقتصادية كبيرة للاقتصاد السعودي، ويدر إيرادات بالمليارات كل عام، وبالتالي تفاني السعودية في تطوير الفنادق الجديدة ومرافق النقل وغيرها من المرافق بجانب وضع قيود على الحجاج، هو بالأساس لإعادة التحكم في مكة وتنمية قطاع الاقتصاد الذي ينظر للحجاج بوقاحة كرقم اقتصادي دون أي اعتبارات دينية، أو ما تعتبره السعودية جزءًا من رؤية 2030 لجذب 30 مليون زائر للحج والعمرة سنويًا بحلول عام 2030.
تعليمات مشددة بعدم ذكر غزة والأقصى في خطبة عرفة:
إن رؤية ابن سلمان للحج هي رؤية غارقة في شرك المال والثروة وابتلاع الحج في قالب الثقافة الاستهلاكية وما يرتبط بها من إعلاء القيم المادية. وقد بات التلاعب السياسي والاقتصادي بالحج على أشده في عهد ابن سلمان، فقد عسكر الحج واستغله إلى أقصى درجة مربحة، ووضع قيودًا جديدة على الحجاج وحركتهم، ومنعهم بأي شكل من إظهار تضامنهم مع القضايا المخالفة لتوجهات السعودية.
وحتى عند أهم حدث في أثناء الحج، وهو وقوف الحجاج بعرفات وحضور الخطبة السنوية، فبدلًا من تذكير آلاف الحجاج في هذا اليوم بقضاياهم الرئيسية، أو حتى بث مفاهيم عن هموم الأمة وإصلاح الواقع، أصبحت الخطبة تستخدم للترويج للظلم، وفرصة تسويقية للإشادة والشكر والتهنئة للحكام السعوديين ومدى كرمهم، والخطورة هنا ليست فقط في التنصل من قضايا الأمة، إنما في تقديم حج مهادن ومتصالح مع الاستبداد وليس في مواجهة معه.
لذا لم يعد مستغربًا أن يتم تهميش القضايا الكبرى للمسلمين مثلما يجري اليوم في غزة. ومن الملفت أن هذا النمط من الحج الذي يدعي رفض العلمانية والتسييس، إنما في الحقيقة يمارسهما بكل وضوح، وقد يستخدم الدين أيضًا لتبرير هذه الممارسة. فخطبة الحج اليوم ليست مسيسة بما يخدم مصالح مسلمي العالم، إنما مسيسة بما يخدم مصالح آل سعود.إصلاح الحج
إن الرؤية السعودية الحالية ترتكز على إدماج الحج بالكامل مع القيم الرأسمالية والاستهلاكية الغربية، والترويج للحج من أجل زيادة الإيرادات ودعم الاقتصاد والنظام السياسي، بجانب انتهاك حقوق المسلمين في الوصول إلى البيت الحرام دون قيود، ولا شك أن كل هذا يهدم الافتراضات الراسخة بشأن طبيعة الحج، وتجعل صورته في غير موضعها.
لقد أظهرت الدورات الموسمية من الفضائح والجنازات الجماعية المتكررة وخاصة الموسم الأخير، أن المشكلات ساحقة لدرجة أنه لا يمكن ترك الحج لدولة واحدة حتى لو كانت غنية كالسعودية، نحتاج إلى سياسة حج عالمية تراعي مصالح المسلمين بكل فئاتهم وتعيد جوهر الحج المتمثل في الوحدة والمساواة. لا بد أن يكون هناك مستوى واحد من الخدمة للغني والفقير بدلًا من أنواع الحج الحالية.
فلماذا لا تشارك المجتمعات المسلمة في القرارات المتعلقة بتنظيم وإدارة الحج، بدلًا من أن يصبح الحج محمية سيادية وامتيازًا مطلقًا لعائلة نصبت نفسها خادمة عليه ومنحت نفسها ألقابًا دينية مجيدة، وتتحكم اليوم في ملياري مسلم في جميع أنحاء العالم تضيق عليهم أو تمنع بعضهم من أداء فريضة الحج.
وفي الواقع، تصاعدت المطالبات الشعبية من كل الاتجاهات لإجراء إصلاحات واسعة لإدارة الحج، وقد انتشرت هشتاغات #كارثة_الحج و#الحج_ليس_أمن و#إهمالهم_قتل_الحجاج، ويبدو أن أفضل طريق لإصلاح الحج هو من خلال استبدال السيادة السعودية المطلقة على المدن المقدسة بإدارة جماعية من الدول الإسلامية، إن الحج ينتمي لجميع المسلمين، وليس لفئة واحدة تستخدمه لخدمة أغراضها ومصالحها المتغيرة.
من المؤسف أن العديد من الدول الإسلامية تخشى المطالبة بهذا الحق أو حتى نقد موسم الحج – باستثناء تركيا وإيران – بسبب العواقب الدبلوماسية والخوف من خفض السعودية لحصتهم من الحجاج أو رفض منح تأشيرات، تمامًا كما فعلوا مع بعض الدول.
للأسف تزداد الفجوة المتسعة بين مُثُل الحج والواقع المأساوي كل يوم، ما بين تدمير هوية مكة، وعدم كفاءة مديري الحج، والقمع الشديد لممارسات الحجاج، والتلاعب بنظام الحصص، وبالتالي لا عجب أن تتزايد المطالبات بتدويل الحرمين الشريفين ووضعهما تحت وصاية تحترم حرمتهما وتحفظ كرامتهما، بعيدًا عن الاستغلال وملوثات التجارة.
على أقل تقدير، تجبرنا تجربة السعودية على إعادة النظر في أبسط افتراضاتنا عن الحج، ولكي لا يكون لدينا في المواسم القادمة 90 ألفًا و276 وفاة أخرى مثلما حدث في المواسم الـ14 الماضية. وإذا أراد المسلمون الحفاظ على موسم الحج فعليهم أن يبدأوا في التحرك اليوم قبل فوات الأوان.
ارسال التعليق