تطبيع ما بعد التطبيع
بقلم: يوسف الدموكي...
موجة جديدة من التطبيع تجرف وجه المواطن العربي في ظل احتلال إسرائيلي لفلسطين، وإبادة جماعية لغزة، وغزو بري للبنان، وقصف جوي لدمشق، واستهداف صاروخي لبغداد، وغارات نارية فوق اليمن، ربما قارئ هذا السطر من زمن قادم سيذهل من المفاجأة، ويصعق من هولها، من فعل بكم هذا؟ لكن ما قوله إذا عرف أن من شن العدوان على تلك البلاد مجتمعة، ويعلنه في ليلة واحدة، هو "كيان" شبه دولة، دخيل، محتل، يتوسط جغرافيا أعدائه، فلا تحيط به دولة أوروبية واحدة، ولا تربطه صلة بمدينة أوروبية ولا أميركية إلا إذا مر بالأجواء العربية أولاً، تخيل بلطجياً مسخاً واقفاً بحربته وسط خمسين رجلاً ضخماً، يضرب كل واحد منهم حتى يقتله، ولا يحرك البقية شيئاً إلا مصمصة شفاههم.
تلك البيانات التي كانت تصدر حتى وقت قريب، قبل سنوات، إذا اعتدى الاحتلال على دولة ولو بغارة واحدة، لم تعد موجودة أبداً، ناهيك عن التمثيليات الساذجة في أوقات العدوان بسحب السفراء وطرد السفراء، كل ذلك ليس موجوداً أيضاً، تلك المعارك الكلامية، واجتماعات جامعة الدول العربية، وقرارات دول مجلس التعاون الخليجي، وقمم العالم الإسلامي، وكل تلك الشكليات المبتذلة لم تعد تجدها أصلاً، في ظل حرب إسرائيلية معلنة، في التصريحات، دون مواربة في الغرف المغلقة، على الوطن العربي بأكمله، وأن دولة ستتلو الدولة، وعاصمة ستسقط بعد عاصمة، والعرب يلزمون الصمت، رغم الشعوب التي تغلي من الداخل.
تطبيع يهدف إلى أن يكون ذلك الألم العربي المراق، وتلك الأشلاء الممزقة في كل اتجاه، وتلك الأوطان المهددة بكل ضربة، وآلاف الضحايا الذين يستشهدون كل يوم وليلة في غزة ولبنان وغيرهما هم مجرد نتيجة عادية ومتوقعة ومنتظرة، لا تستدعي العجلة
شكل جديد لم نكن نعرفه من أشكال التطبيع، تطبيع غير معلن، لكنه ضمني ومطبَّعٌ معه، "تطبيع نفسي"، تطبيع الشؤون المعنوية، تطبيع جمعي بمجهودات المستوى الرسمي، تطبيع يهدف إلى أن يكون ذلك الألم العربي المراق، وتلك الأشلاء الممزقة في كل اتجاه، وتلك الأوطان المهددة بكل ضربة، وآلاف الضحايا الذين يستشهدون كل يوم وليلة في غزة ولبنان وغيرهما هم مجرد نتيجة عادية ومتوقعة ومنتظرة، لا تستدعي العجلة، ولا بيانات حكومية، ولا مؤتمرات صحفية، ولا إطلالات خطابية استعراضية، لا شيء يدعو إلى القيام من العرش إلى المنصة، المهم أننا بخير، وأن بلادنا تهنأ في مواسمها وعواصمها، دون كدر.
ذلك اللون من التطبيع هو أخطر من التطبيع المعلن، في وجوهه كلها، أخطر من التطبيع السري تحت الطاولة، التطبيع مع الدم، مع المجازر، مع المذابح الإسرائيلية، مع أن يصل العدو باب بيتك فلا تستشعر الخطر ولا الحمية ولا المقاومة، لأنه طمأنك أنك أحد رجالهم، والحقيقة أن الشيطان يعد، وما يعدهم الشيطان إلا غروراً، فكل غزو سمحت به لبيت أخيك سيصل بيتك، والجدار الذي يُهدم في دار جارك هو جدار مشترك معك، ستجد نفسك في العراء مع غارة تصيبه ذات يوم، وحينها لن يلتفت إليك أحد، لأنك قدت تطبيعاً جماعياً يفيد بأن النار التي تلتهم الغرفة الأخرى لا تهمني في شيء ما لم أرها في قلب غرفتي، حتى لو مات أطفالك اختناقاً، وهم ينادونك أن توقف المهزلة.
كل هؤلاء المطبعين سيلتهمهم تطبيعهم ذات يوم، ويأكلهم الكلب الذي سمّنوه.
ارسال التعليق