كيف تعمل الرقابة في الإعلام السعودي
على مدى العقد الماضي، تباينت الآمال حول حرية الصحافة في العالم العربي. وكانت الانتفاضات العربية في عام 2011 نقطة تحول للناشطين، لكن حملات الأنظمة تركت العديد من الدول العربية في وضع أسوأ فيما يتعلق بحرية الصحافة. وتحافظ الدول العربية على مواقعها في أسفل مؤشرات حرية الصحافة، باستثناء تونس، حيث تحسن الوضع بشكل كبير خلال السنوات القليلة الماضية وفقًا لتقرير صادر عن مراسلون بلا حدود.
واكتسبت وسائل الإعلام الإخبارية في العالم العربي أهمية أكبر مع تطور حرب المعلومات بين قطر والسعودية حيث تحاول قناة "العربية" السعودية تحدي هيمنة "الجزيرة" القطرية على التغطية الإخبارية العربية، وقد أظهر "محمد بن سلمان" رغبة كبيرة في السيطرة على المعلومات التي تستهدف الشعب السعودي والجمهور العربي بوجه عام.
ويعد تعامل ولي العهد مع المعلومات حول اغتيال كاتب العمود في صحيفة "واشنطن بوست"، "جمال خاشقجي" مثالاً واضحًا على المدى الذي يبدو "بن سلمان" مستعدا للذهاب إليه للسيطرة على الخطاب العام السعودي فيما يتعلق بأمور الدولة. ولا تزال السعودية تحتل المرتبة الأولى بين الأسوأ في العالم في مجال حرية الصحافة والديمقراطية، وتسهم الرقابة السعودية على الإعلام في زيادة تآكل الحركات الديمقراطية في الشرق الأوسط، ومن الأهمية بمكان فهم تأثيرها بشكل صحيح. وتقدم دراسة تغطية السعودية لوفاة "خاشقجي" وتقرير محققة الأمم المتحدة "أغنيس كالامارد" حول الواقعة نظرة ثاقبة حول كيف تهدف السعودية إلى التأثير على الخطاب العام في العالم العربي لحماية مصالحها الاستبدادية.
آليات الرقابة السعودية
تعد وسائل الإعلام السعودية والإنترنت من أكثر خضوعا للرقابة في العالم، وهناك عدد قليل من المنافذ مملوكة مباشرة للحكومة السعودية. ومع ذلك، بسبب الطبيعة الصارمة للرقابة السعودية، يتم الحصول على أي معلومات حول العائلة المالكة من وكالة الأنباء السعودية (واس). كما تمارس الحكومة نفوذاً كبيراً على رؤساء تحرير المؤسسات الإخبارية لأن لديها اليد في تعييناتهم، وتقع المسؤولية النهائية عن أي محتوى منشور على هؤلاء المحررين. ويتم تقييد نشر المعلومات حول الحكومة من خلال العديد من القوانين، بما في ذلك قانون غامض لمكافحة الإرهاب صدر في فبراير/شباط 2014.
ويجعل الحجم الهائل للعائلة المالكة من الصعب تحديد مقدار الهامش الذي تتمتع به وسائل الإعلام المختلفة، لكن من الواضح أن جميعا لديها مصلحة في الحفاز على النظام القائم. وبشكل عام، من المفيد لوسائل الإعلام الامتناع عن انتقاد الحكومة لأن المسؤولين يمكنهم بسهولة إغلاق المنافذ أو استبعاد المحررين. في الواقع، تم استخدام كلتا الطريقتين لإسكات "خاشقجي" قبل أن يُمنع بشكل دائم من الظهور وسائل الإعلام السعودية في ديسمبر/كانون الأول 2016 بسبب انتقاداته للرئيس المنتخب آنذاك "دونالد ترامب".
وكما هو الحال مع أي نظام للرقابة، هناك حدود لقوة الأساليب السعودية. وبسبب الجهود الحكومية لتقييد المعلومات، غالبًا ما يتكيف المواطنون السعوديون من خلال البحث عن مصادر أخبار أجنبية للحصول على معلومات حول الأحداث المهمة، سواء كانت محلية أو دولية. وأصبحت السلطات السعودية على دراية تامة بهذه القضية؛ وفي أعقاب وفاة "خاشقجي"، لاحظ المتتبعون زيادة في عدد المواقع الإخبارية الخاضعة للرقابة في البلاد. ويعني ذلك أن الإعلام الخاضع للرقابة لا يزال يسهم في تشكيل معالم النقاش بطرق مهمة.
"خاشقجي" نموذجا
توفر التغطية السعودية لوفاة "خاشقجي" وتقرير محقق الأمم المتحدة "أغنيس كالامارد" فكرة جيدة عن كيفية عمل الرقابة السعودية. يكشف الجدول الزمني للتغطية الأحداث عن جانب مهم من الرقابة السعودية. وقد اختفى "خاشقجي" في 2 أكتوبر/تشرين الأول 2018، وبدأت تغطية قصته في الظهور فياليوم التالي. قامت "الجزيرة" بالإبلاغ عن الحادث في 3 أكتوبر/تشرين الأول، ولم تذكر أي منافذ سعودية الحادث حتى 4 من ذات الشهر، عندما نشرت وكالة الأنباء السعودية تقريرها. بعد إصدار الوكالة خبرها، قامت المنافذ السعودية بتغطية القصة من خلال إعادة نشر البيان الصحفي للوكالة. ويظهر هذا المثال أنه لم يكن هناك منفذ على استعداد للإبلاغ عن قضية "خاشقجي" قبل أن تحدد وكالة الأنباء الرسمية معايير التغطية. ويمكن ملاحظة هذا الاتجاه أيضًا في المقالات حول تقرير "أغنيس كالامارد". وتم إصدار البيان الصحفي الخاص بوكالة الأنباء السعودية في نفس اليوم الذي صدر فيه التقرير، وكانت التغطيات من قبل المصادر السعودية الأخرى مجرد تكرار لبيان وكالة الأنباء الرسمية، في تناقض مع القصص الأكثر شمولا التي نشرتها منافذ مثل "سي إن إن العربية" و"بي بي سي العربية".
وقد أشار البيان الصحفي الخاص بـوكالة الأنباء السعودية إلى ما حدث لـ"خاشقجي" بوصفه حادث "اختفاء". وحافظت المنافذ السعودية على هذا المصطلح مبدئيًا على الرغم من استخدام مصادر أخرى مصطلحات "القتل". وتم استخدام مصطلح "قتل" للمرة الأولى في 7 أكتوبر/تشرين الأول في بيان صحفي موجز لدحض الرواية التركية، وقد استخدم مقال في الشرق الأوسط هذا المصطلح في اليوم التالي. كما استخدمت "الجزيرة" مصلطح "اختفاء" بشكل عام في أعقاب وفاة "خاشقجي"، ولكن في مقالة في 7 أكتوبر/تشرين الأول استخدم مصطلح "اغتيال" للمرة الأولى. أصبح هذا هو المصطلح المعتمد الذي تستخدمه "الجزيرة" للإشارة إلى الحادث، ولكن لم تتبعه أي منافذ سعودية. وتشير التغطية السعودية عمومًا إلى خاشقجي ببساطة كـ"مواطن"، وبهذه الطريقة تقوم وسائل الإعلام في المملكة بإضفاء الشرعية على مستوى معين من سيطرة الدولة على قصة الرجل الذي يعد قبل كل شيء مواطنًا سعوديًا.
يمكن رؤية اتجاهات مماثلة في التغطيات الخبرية لتقرير "كالامارد". وفي حين أن وسائل الإعلام السعودية قد أشارت إلى "خاشقجي" كمواطن أو صحفي سعودي، إلا أن المنافذ الدولية وصفته عمومًا بأنه صحفي أو شخصية إعلامية. وتستحق هذه الاختلافات الصغيرة في المصطلحات عناية خاصة لأنها يمكن أن يكون لها تأثير خطير على كيفية تفسير القراء للروايات.
اختيار الحبكة والنغمة
يعكس اختيار القصة ونبرة التقارير السعودية أهدافا مثل تحريف الرواية أو الألهاء أو نزع الشرعية والتعاطف عن الضحية. كانت إحدى القصص التي أصبحت شائعة في الصحافة السعودية في الأيام التي تلت وفاة "خاشقجي" هي الطبيعة غير العادية إلى حد ما لعلاقة "خاشقجي" مع خطيبته "خديجة جنكيز". وزعمت العديد من المقالات إن أفراد عائلة "خاشقجي" لم يكونوا على دراية بمن هي "جنكيز" مما يعني أن "خاشقجي" كان يحاول إخفاءها عن أسرته. وعرض مقال آخر صورة لـ"بن سلمان" مع ابن أخ لـ"خاشقجي" في إشارة إلى أن عائلة القتيل برأت الأمير الشاب من المسؤولية عن القتل. وكانت هناك أيضًا العديد من المقالات حول المكالمات والاجتماعات التي غطت مكالمات مزعومة للملك "سلمان" ونجله مع أبناء "خاشقجي". وكان هذا كله يهدف لصرف الانتباه عن النقاش الأكثر جدية حول سبب وكيفية قتل "خاشقجي".
يعكس مقال نُشر في موقع جريدة "سبق" على الإنترنت بعد وقت قصير من نشر تقرير "كالامارد" الأمر ذاته. وكان مصدر المقال هو مديرة لجنة العلاقات العامة السعودية الأمريكية التي أشارت إليها الصحيفة بوصفخها ككيان أمريكي دون الإشارة إلى أن رئيسها السابق "سلمان الأنصاري" أُجبر على تسجيل المنظمة كوكيل ضغط أجنبي. في المقالة، سعت المديرة الحالية للجنة إلى نزع الشرعية عن "كالامارد" من خلال الادعاء بأنها منحازة لصالح جماعة "الإخوان المسلمون"؛ في الوقت نفسه، حاول المقال أيضًا صرف الانتباه عن قضية "خاشقجي" عن طريق الإشارة إلى وفاة رجل فلسطيني في تركيا، هو "زكي مبارك"، واتهام السلطات التركية بالمسؤولية عن وفاته، في نموذج صارخ على الانتقائية في اختيار المصادر والروايات. وتجدر الإشارة أيضًا إلى أن أي منفذ سعودي لم يشر إلى الاتهامات الموجهة لولي العهد "محمد بن سلمان" بالتورط في اغتيال "خاشقجي" رغم وجود اتهامات جدية من "كالامارد" ووكالة الاستخبارات المركزية.
كانت استراتيجية الإلهاء أكثر وضوحا في افتتاحيات معظم منافذ الإعلام السعودي. من المثير للاهتمام أن نأخذ في الاعتبار العديد من المقالات الافتتاحية التي نشرتها قناة "العربية"، والتي تقع على الخطوط الأمامية لحرب المعلومات مع قناة "الجزيرة" القطرية. وهدفت العديد من المقالات الافتتاحية على موقع "العربية" إلى الطعن في وسائل الإعلام الأجنبية بشكل مباشر واتهامها بالتحيز. (على سبيل المثال، حاول الصحفي السعودي ممدوح المهيني تأطير تغطية الجزيرة كجزء من السياسة الخارجية المناهضة للسعودية في افتتاحية بعنوان: لماذا يهتم الإعلام القطري المنتمي للإخوان المسلمين بقضية خاشقجي؟). صحيح أن هناك عداء بين قطر والسعودية في الوقت الحالي وأن الإعلام القطري يستهدف بشكل عام السعودية بشكل غير موات، ولكن يبدو أن هذا النوع من المقالات يتعلق بالإلهاء أكثر من التحليل.
وتساءل "المهيني" مرة أخرى عن وسائل الإعلام الأجنبية في مقال آخر بعنوان "ما هي مشكلة الإعلام اليساري مع السعودية؟". وحذف هذا المقال لصرف الانتباه عن الأسئلة الأساسية لقضية "خاشقجي" من خلال مقارنة وسائل الإعلام الأمريكية اليسارية مع وسائل الإعلام القطرية ومواصلة طرح الأسئلة حول خلافات وسائل الإعلام اليسارية مع إدارة "ترامب" والإدارات الجمهورية بشكل عام.
في افتتاحية أخرى، افترض الصحفي المصري "أسامة سرايا" أن قضية "خاشقجي" هي مجرد غطاء للسماح للجهات الأجنبية بانتقاد الرياض. وفي مقال بعنوان "خاشقجي... القصص الخاطئة" انتقد "سرايا" ما اعتبره تغطية زائفة لقضية "خاشقجي". وعند النظر في هذه المقالات، فإننا نحصل على صورة مفيدة لكيفية عمل قناة العربية بشكل صريح لنزع الشرعية عن المصادر الإعلامية التي لا تتطابق مع المصالح السعودية، مع صرف الانتباه عن الأسئلة المركزية لقضية "خاشقجي".
تتناقض هذه الأمثلة بشكل حاد مع أي تغطية تقدمها وسائل الإعلام الغربية والعربية الأخرى. وهذا لا يعني أن وسائل الإعلام السعودية تجاهلت النطاق الدولي للقصة. وعلى وجه الخصوص، تصدرت تصريحات الرئيس "دونالد ترامب" ومستشار الأمن القومي "جون بولتون" عناوين الصحف هناك، وركزت التغطيات الخبرية على تعليقات "ترامب" حول الرغبة في الحفاظ على العلاقة مع السعودية وإلقاء اللوم بشأن الحرب في اليمن على إيران. وغطى مقال آخر في "الشرق الأوسط" تعليقات "بولتون" التي تشير إلى أن أشرطة مقتل "خاشقجي" لم تقدم أي دليل حقيقي على ارتكاب الحكومة السعودية للجريمة. وعلى الرغم من أن التعليقات الناقدة للسعودية جاءت من جانبي الكونجرس الأمريكي بعد وفاة "خاشقجي"، إلا أن المنافذ السعودية لم تبد أي اهتمام بالإبلاغ عنها. على النقيض، خصصت المؤسسات الإخبارية السعودية مساحة كبيرة للإبلاغ عن التعليقات الحكومية التي تدعو إلى وضع حد لتسييس القضية.
الرقابة السعودية والعالم العربي
مع تقدم حرب المعلومات بين قطر والسعودية، سيستمر الخطاب العام في الشرق الأوسط في المعاناة من العواقب. تتم قراءة ومشاهدة المؤسسات الإعلامية السعودية مثل الشرق الأوسط والعربية على نطاق واسع في العالم العربي، مما يعني أن الحكومة السعودية يمكنها أن تحدد بشكل جزئي معالم الجدل السياسي في المنطقة. ويعد هذا مصدر قلق عميق لأن الحكومة السعودية لم تبد أي اهتمام بدعم حرية الصحافة والديمقراطية في العالم العربي.
وقد جعلت إدارة "ترامب" الأمور أسوأ من خلال الفشل المستمر في انتقاد "بن سلمان" أو الحكومة السعودية لدورها في وفاة "خاشقجي". وقد ساعد هذا الفشل على هروب ولي العهد من المساءلة الحقيقية. بالإضافة إلى ذلك، زودت واشنطن المنافذ السعودية بعروض من مسؤولين أمريكيين رفيعي المستوى أظهروا التأييد للحكومة السعودية.
توضح هذه الأنماط بعض الطرق التي تمارس بها الحكومة السعودية على وسائل الإعلام في جميع أنحاء الشرق الأوسط. وقد حدد "خاشقجي" نفسه العلاقة الخطيرة بين الإعلام العربي والأنظمة القمعية في مقالته، التي نشرت بعد 14 يومًا من وفاته. في المقال، يجادل "خاشقجي" بأن الديمقراطية ليس لديها أمل كبير في كسب الأرض في المنطقة بينما يتم سجن الصحفيين ويؤكد على رؤيته لأهمية الضغط من أجل حرية الصحافة في جميع أنحاء المنطقة مع محاسبة القادة على جرائمهم.
ومن أجل الحد من زحف القيود المفروضة على الصحافة السعودية، يجب على المجتمع الدولي أن يكون ثابتًا في إدانته للرقابة السعودية ومقتل "جمال خاشقجي" خارج نطاق القانون. يوجب أن تكون هناك ردود ملموسة من المسؤولين الأمريكيين. سيكون من الحكمة أن يواصل أعضاء الكونغرس كفاحهم لإنهاء الدعم للحرب التي تقودها السعودية في اليمن وربما الضغط لمنع السعودية من استضافة قمة مجموعة العشرين العام المقبل. في الوقت نفسه، يجب على القادة الدوليين أن ينتقدوا استخدام "بن سلمان" لقوانين الأمن القومي بشكل غامض لتعزيز قبضته على الصحافة السعودية. ويجب على المجتمع الدولي تقديم دعم ملموس للصحفيين والمعارضين الذين يناضلون من أجل حرية الصحافة في الدول العربية من خلال منحهم اللجوء أو وسائل الحماية الأخرى. كانت وفاة "جمال خاشقجي" مأساة كبيرة لكل من يناضل من أجل حرية الصحافة، ولا يمكن للمجتمع الدولي أن يترك نظراء "خاشقجي" دون حماية.
ارسال التعليق