أزمة أوكرانيا... هل دمرت واشنطن الثقة مع حلفائها؟
لا شك أن زيلينسكي لم يكن ولن يكون آخر ضحية لخيانة واشنطن وإهمالها في السياسة العالمية، يُعتقد الآن أن على الجميع، القريبين والمقربين من أمريكا ، إعادة النظر في سياساتهم والتخلي عن ثقتهم العمياء في الولايات المتحدة.
عندما تحدث دونالد ترامب عن تراجع قوة أمريكا ومكانتها خلال الانتخابات الرئاسية الأمريكية عام 2016، رفض المراقبون السياسيون ووسائل الإعلام المرتبطة بالرأسمالية حديثه ووصفوا كلامه بأنه غير معقول ومجنون.
لكن من ينكر هذه الحقيقة في الساحة السياسية الأمريكية هم قلة في الواقع، أصبح خطاب ترامب بشأن التوجهات الأمريكية الجديدة لتشويه سمعة الولايات المتحدة وفقدان قدرتها كقوة مهيمنة، واضحة ومقبولة الآن أكثر من أي وقت مضى.
لا شك أن ترامب محق في أنه لا أحد على المسرح العالمي يعول على الولايات المتحدة ووعود رؤسائها، كما أنه يدرك جيدًا أنه، على عكس الماضي، لا يثق الحلفاء الأوروبيون الآخرون وكذلك خصوم الولايات المتحدة في النظام العالمي الذي تدعو اليه الولايات المتحدة أو يخشونه.
لكن السؤال الآن هو لماذا أصبحت تصريحات ترامب الأخيرة كرئيس متطرف دون أي تجربة سياسية أو خبرة مقبولة الآن؟ ربما من الأفضل إلقاء نظرة على ما هي العلة الرئيسية لتراجع مكانة أمريكا العالمية قبل الإجابة على هذا السؤال؟
أمريكا.. فقدان "الثقة":
لعقود من الزمن، كانت شبكة الحلفاء الإقليميين حول العالم إحدى ركائز القوة العالمية للولايات المتحدة، لكن في العقد الماضي، لا سيما في السنوات الأخيرة، برزت عدة أحداث مثل انسحاب واشنطن الفاضح من أفغانستان وتسليم حكومة أشرف غني لطالبان؛ وترك القوات الكردية السورية وحيدة في مواجهة الهجمات العسكرية التركية في شمال سوريا، والتي كانت في السنوات التي تلت 2014 أداة لتنفيذ الرغبات الامريكية في شرق سوريا؛ وما حدث أخيرا مع حكومة الرئيس الأوكراني فلاديمير زيلينسكي الموالية للغرب في مواجهة إطلاق عملية روسية خاصة في البلاد؛ برزت تلك الاحداث كتطورات خطيرة أدت إلى تقليص مكانة واشنطن ومصداقيتها مع حلفائها إلى الحد الأدنى.
في الماضي غير البعيد، في السنوات التي أعقبت انهيار الكتلة الشرقية (1991) وحتى في العقود التي تلت ذلك، كان دعم الولايات المتحدة لأوروبا وجميع حلفائها خلال الحرب الباردة ضمانًا لإنهاء أي حركة سياسية قريبة من الشرق، لأنه كان من المفترض أن تكون واشنطن مستعدة لدعم حلفائها في أي حال، وهذا أدى إلى قبول قيادة واشنطن على نطاق واسع، لكن قصة خيانات واشنطن المتكررة وتخاذلها مع حلفائها على المسرح الدولي لم تسقط هيبة واشنطن فحسب، بل دقت أيضًا جرس الإنذار للحكام الذين ربطوا أمنهم القومي بالولايات المتحدة.
أوكرانيا هي آخر ضحية لخيانة الغرب وحلف شمال الأطلسي:
حتى عندما كان أشرف غني ومسؤولون حكوميون أفغان آخرون في طريقهم إلى المطار ومغادرة البلاد في يوم سقوط كابول في 15 أغسطس 2021، مع حقائب مليئة بالدولارات؛ كان الشيء الوحيد الذي يدور في أذهانهم باستمرار هو كيف تصبح أمريكا التي جاءت إلى بلدهم في عام 2001 مع كل التكاليف المالية والعسكرية والإنسانية لهزيمة من يسمونهم الإرهابيين اتفقت الآن مع الأعداء نفسهم وخذلنا نحن شركاؤه ومقربوه. ربما يمكن القول إن حياة أفغانستان وشعوب الشرق الأوسط وآسيا ليست ذات قيمة تذكر بالنسبة لواشنطن والأنجلو ساكسون، وكانت هذه الخيانة للأفغان ممكنة. لكن يبدو أن هذا التفسير كان خاطئاً أيضا، والآن تم الكشف عن روح أمريكا الشريرة والخائنة للجميع.
عندما قال الرئيس الأوكراني فلاديمير زيلينسكي في أول خطاب متلفز له منذ بدء العملية الروسية الخاصة بوجه حزين إنه أصيب بخيبة أمل بعد التحدث إلى القادة الغربيين، وقال "لا أرى أحدا يقاتل إلى جانب أوكرانيا، أصبحت خيانة الحلفاء جزءًا لا يتجزأ من طبيعة السياسة الأمريكية." في كل مرة يظهر فيها زيلينسكي خلف عدسة الكاميرا ترى بوضوح وجهه المرتبك من الخيانة الأمريكية، ولا يمكنه أيضاً أن يخفي حزنه من أن جر بلاده إلى هاوية الحرب لم يحصل إلا بسبب تصديقه بوعود البيت الأبيض المستمرة. نعم! من المؤكد أن المسؤولية عن الأزمة الحالية تقع على عاتق الولايات المتحدة وبايدن، لأن ساسة واشنطن والبيت الأبيض هم من حرضوا أوكرانيا باستمرار على تسليم أمن حدودها الشرقية إليهم خلال العام الماضي، وما لا شك فيه أن بايدن وقادة البيت الأبيض الآخرين كانوا يحثون زيلينسكي على الانضمام إلى الناتو، لكنهم الآن لا يرسلون سوى خوذات حرب إلى قواته! لا شك أن زيلينسكي لم يكن ولن يكون آخر ضحية لخيانة واشنطن وإهمالها في السياسة العالمية. ويجب على كل عاقل بعد هذا، خصوصاً القريبين والمقربين من حلفاء أمريكا، إعادة النظر في سياساتهم والتخلي عن ثقتهم في الولايات المتحدة. من أجل معالجة هذه القضية، وملاحظة مختلف الجهات الفاعلة العالمية التي اعتمدت في أمنها ووجودها على واشنطن.
خوف الدول الخليجیة المتزايد من الثقة بالولايات المتحدة:
ما لا شك فيه أن التطورات الأخيرة في أوكرانيا وأفغانستان، والتي كانت خيانة وإهمال الأمريكيين ملموسة فيها، تسببت في قلق أكبر من أي منطقة أخرى بين دول الخليج العربية.
أصبحت الأنظمة الموروثة العربية في منطقة غرب آسيا متحالفة بشكل متزايد مع الولايات المتحدة على مدى العقود الماضية، خاصة منذ نهاية الحرب الباردة (1991)، ولديها شراكات استراتيجية أمنية وسياسية واقتصادية مع واشنطن. من خلال سماحها ببناء قواعد عسكرية أمريكية على اراضيها، سلمت هذه الدول بشكل أساسي سيادتها الأمنية والدفاعية إلى واشنطن، لكن التطورات في المنطقة على مدى السنوات القليلة الماضية أظهرت بوضوح، أن أنظمة الدفاع التي تسيطر عليها الولايات المتحدة ضعيفة للغاية، ومن ناحية أخرى، في حال حدوث أزمة، تبدو واشنطن غير مستعدة لدعمهم بأي شكل من الأشكال.
الثقة بواشنطن وحلقة الأمن المفقودة في شرق آسيا:
إضافة إلى مشيخات الخليج الفارسي في الشرق الاوسط، دقت أزمة أوكرانيا ناقوس الخطر لحلفاء الولايات المتحدة الآخرين أيضًا، وخاصة اليابان وتايوان وكوريا الجنوبية وغيرها. على مدى العقد الماضي، وفي سياق عقيدة الشرق، أصبح احتواء توسع الصين في منطقة شرق آسيا من أولويات السياسة الخارجية للولايات المتحدة. إلا أن وفي الوقت نفسه، فإن دولًا مثل اليابان وكوريا الجنوبية وتايوان ومنطقة هونج كونج المتمتعة بالحكم الذاتي وحتى فيتنام، أكثر قلقًا بشأن آفاق التعاون ودعم واشنطن لها في مواجهة التهديدات القائمة. حتى واشنطن أدركت ذلك في الأشهر القليلة الماضية، في مقابلة مع ABC News في 19 أغسطس 2021، صرح الرئيس الأمريكي جو بايدن أن الوضع في تايوان مختلف عن الوضع في أفغانستان، وكأن واشنطن قد وقعت علانية اتفاقية تعاون عسكري مع تايوان. لكن الحقيقة هي أنه في حال حدوث غزو صيني لتايوان أو تحرك عسكري كوري شمالي ضد اليابان وكوريا الجنوبية، فإن السيناريو المحتمل هو النهج نفسه الذي اتخذه الغرب تجاه أوكرانيا.
أكراد العراق وسوريا، الضحايا الدائمون للثقة بأمريكا:
إضافة إلى الجهات الحكومية، هناك لاعب مهم آخر أصبح متشككًا بجدية بشأن مستقبل علاقاتهم وتعاونهم مع الولايات المتحدة نتيجة للتطورات الأخيرة في أفغانستان وأوكرانيا، وهو أكراد العراق وسوريا.
اعتمدت حكومة إقليم كردستان العراق، على سياسات واشنطن طوال السنوات منذ عام 1991، ولكنها دائما ما تلقت ضربات الخذلان من واشنطن مرارًا وتكرارًا، إلا أن الاحداث تتنبأ أنه لا مكان أبداً للأكراد في قائمة أصدقاء أمريكا، إضافة إلى أكراد العراق، اعتمدت قوات سوريا الديمقراطية التي يقودها الأكراد بشكل كبير على الدعم الأمريكي في السنوات منذ 2014، مع دور يتماشى مع إرادة واشنطن في الاحداث الميدانية السورية، ووقع الأكراد السوريون ضحية للخيانة الأمريكية على مرحلتين وهما الغزو التركي لعفرين عام 2018 ومنطقة شرق الفرات عام 2020، لكنهم وعلى الرغم من هذا الإذلال العلني الذي تعرضوا له من قبل الأمريكيين، يرفضون أيضًا التعاون مع الحكومة المركزية في مسار الأحداث الجديد.
التطورات الأخيرة في أوكرانيا والهروب الكارثي للأمريكيين من أفغانستان يمكن أن يسببا قلقًا أكبر لأكراد العراق في سوريا أكثر من أي حليف آخر في العالم. إن الأمريكيين، الذين سيضحون بدولة مستقلة وهيئة حكم خاضعة لهم بعد عام 2020، سوف يتخلون بسهولة عن الأكراد، الذين كانوا وكلاء لهم على المستوى دون الوطني.
الأمريكيون العراقيون وسراب الثقة بأمريكا:
إضافة إلى الأكراد في شمال العراق، يدعم بعض السياسيين العراقيين سياسات التقارب والثقة في البيت الأبيض بموجب اتفاقيات مثل اتفاقية بغداد وواشنطن الاستراتيجية.
في الحقيقة هم يحاولون تأمين الاستقرار لمواطنيهم والبقاء في السلطة من خلال وضع كل بيضهم في السلة الأمريكية. لكن الوقائع في أوكرانيا وأفغانستان ذكّرتهم بوضوح بالحقيقة الأليمة المتمثلة في أن الثقة في واشنطن قد لا تكون مثمرة في الواقع، ليس فقط للعراقيين ولكن أيضًا للقادة المرتزقة العرب في المنطقة، ولن يكون شيئاً غير ذلك.
ارسال التعليق