استثمار ال سعود برفيق الحريري (1/3)
بقلم: يارا بليبل...
لم يكن اتفاق الطائف (1989) في لبنان حاكمًا على المستوى السياسي فقط من خلال مبدأ تقاسم السلطة بين الطوائف وزعمائها، وإنما كان حاكمًا أيضًا على المستوى الاقتصادي، منذ مرحلة الوجود السوري وإعادة الإعمار. فاتفاق الطائف الذي وضع حدًّا للحرب الأهلية اللبنانية (1975-1990) أعطى سوريا حق الوصاية على لبنان، وجعلها صاحبة النفوذ الأول والمباشر فيه لفترة طويلة، كما جعلها أيضًا المشرف والحامي لعملية إعادة الإعمار المدرَّة "للأموال"، والتي كان “للمملكة العربية السعودية” دور بارز فيها عن طريق الاستثمارات الطائلة التي قامت بها، من خلال الثقة التي أولتها لرئيس الوزراء اللبناني الأسبق، رفيق الحريري؛ حيث كانت أولويات دمشق المتعلقة بتوازناتها الداخلية، وموقعها الإقليمي وعلاقاتها الدولية، هي المحدد لكيفية إدارتها الملف اللبناني عبر ورقتي "المقاومة"، التي لعب فيها حزب الله دورًا أساسيًّا، وورقة "إعادة الإعمار" والبناء الاقتصادي والمالي، التي قادها الحريري.
ركيزتي النظام الإقتصادي: "سلام" وإعادة الإعمار:
تفسر الحرب الأهلية وآثارها التحوّلات المناطقية في لبنان خلال الفترة الحديثة، حيث تحمل عبارة "إعادة الإعمار" دلالات تاريخية- سياسية ترتبط بما حصل بعد اتفاق الطائف، لجهة سيطرة الحريرية السياسية والاتجاه الذي لبنان فيه بعد عام 1992.
عند تسلمه الحكم تقدّم الحريري بمشروع إعمار تحت عنوان "أفق 2000" له ركيزتان: سياسة إعمار تقوم على تنمية مديونية الدولة، وإعادة بناء وسط بيروت التجاري كمركز تجاري ومالي ودولي. وعد الحريري اللبنانيين بإعادتهم إلى مستوى المعيشة الذي كان لهم في العام 1974، واستعادة دور لبنان الطليعي في اقتصاديات المنطقة، وتحقيق معدل نمو اقتصادي بنسبة 9.3% خلال عقد من الزمن.
حقيقة الأمر أن رفيق الحريري كان يراهن على سلام عربي-إسرائيلي وشيك يعدّ لبنان لدور اقتصادي جديد في المنطقة، مدعوم من الأنظمة الخليجية، إما بما هو مركز مالي وتجاري لمنافسة الدور المتوقع للاقتصاد "الإسرائيلي" في المنطقة زمن السلام وإما بما هو ممر اقتصادي للتطبيع الاقتصادي مع الكيان من قبل الأنظمة النفطية العربية.
يقول هانس باومان، في كتابه " المواطن الحريري: إعادة إعمار لبنان النيوليبرالية"، إنّ مشروع رفيق الحريري لإعادة الإعمار بعد الحرب لم يكن مجرّد عودة إلى ليبرالية اقتصاد ما قبل الحرب، بل هو غيّر الاقتصاد السياسي في لبنان. فقد استعمل الحريري في تطبيق سياساته، تكنوقراط على رأس مؤسّسات حكومية رئيسية مثل وزارة المال والبنك المركزي، ومجلس الإنماء والإعمار. ما ميّز هؤلاء التكنوقراط، أنّهم كانوا موظّفين سابقين في شركاته أو عاملين سابقين في المصارف الدولية وصندوق النقد والبنك الدوليين. هؤلاء جسّدوا النيوليبرالية معتمدين على الرعاية السياسية للحريري الذي وفّر رأس المال المالي والسياسي، بينما هم كانوا يوفّرون رأس المال الثقافي. هكذا حوّل الحريري المؤسسات المذكورة إلى أدوات رئيسية معنيّة بإعادة إعمار وسط بيروت وتثبيت سعر صرف الليرة اللبنانية.
ولعل أكبر مبارزة تتعلق بالنزاعات القائمة على الريوع التي يديرها النظام الطائفي في لبنان، تمثلت في قضية الاستحواذ على الفائض بين رئيس الجمهورية السابق إميل لحود ورئيس مجلس الوزراء رفيق الحريري، في ولايته الثانية، التي دارت مدار خصخصة الهاتف الخلوي. فالأول أصرّ على ملكية الخلوي من قبل الدولة والثاني على خصخصته.
في هذا المضمار، نوجز بالقول بأن مشروع رفيق الحريري تم عن طريق شراكة بين مصرفيين ومقاولين ومستوردين وزعماء الحرب في ظل اندماج متزايد بين رجال الأعمال والسياسيين وبين السلطة الاقتصادية والسلطة السياسية، حيث تم تنفيذ المشروع بتجاهل تام لأي دروس يمكن استخلاصها من الحرب الأهلية.
وتمخض عن سياسات الحريري الأب سياسات شكلت ركيزة أساسية لمجمل الأزمات الواقع لبنان فيها، انطلاقا من المديونية وتبنيها نهجا، وتهكيش القطاعات الانتاجية، تعزيز البنى الاحتكارية، مباركة الفورة العقارية والمصرفية، خصخصة جزئية لقطاعات التعليم والاستشفاء والنقل وخدمات البريد، تبني نظام ضريبي مجحف وغير عادل، وغيرها من السياسات التي ينادى اليوم بضرورة التخلي عنها في سبيل الخروج من عنق الزجاجة.
نشر الفكر الوهابي :
شهد العقد الماضي تنامي الشعور بالتهميش الاجتماعي والاقتصادي والسياسي لدى جزء من الطائفة السنّية في لبنان. وقد حدا هذا الشعور بالكثير من السنّة إلى الابتعاد عن الدولة والبحث عن مصادر بديلة للدعم والحماية، بما في ذلك الانضمام إلى بعض الجماعات المتطرفة التي تقدم الخدمات أو العمل مع الشبكات الإجرامية في مقابل المال.
في العام 1988، أنشأ سالم الشهال "جمعية الهداية والإحسان"، التي شكلت الإطار الرسمي للحركة السلفية وكان عملها يشمل الجوانب الدعوية والتربوية من جهة، والعمل الاجتماعي من جهة أخرى، بهدف سد حاجات أهل السنة في هذين المجالين.
وقد انصرف، وبدعم سعودي واضح وكبير، إلى تأسيس العمل الدعوي السلفي عبر المدارس الدينية، والتسجيلات الإسلامية، وكفالة الأيتام، وبناء المساجد، وتأسيس إذاعة القرآن الكريم، وغيرها من النشاطات. وانتشرت خدمات الجمعية من أقصى شمال لبنان إلى أقصى جنوبه، إلى أن أصدرت السلطات اللبنانية قرار حلها عام 1996؛ بسبب ما ادّعته من "إثارة النعرات الطائفية في بعض الكتب التي تعتمدها الجمعية في معاهدها الشرعية"، وكانت حجتها في ذلك أن أحد الكتب المقررة للتدريس في المعهد ضم فقرة عن فرقة النُّصيرية باعتبارها فرق ضالة خارجة عن الدين بسبب معتقداتها المسيئة للإسلام.
يعتبر تاريخ حل جمعية الهداية والاحسان عام 1996 بقرار سوري-لبناني محطة فاصلة في تشظي العمل السلفي المنظم وانشطاره؛ وقد أعقب حلّ الجمعية ظهور جمعيات ووقفيات عديدة، أسسها تلامذة الشيخ الشهال، وراح الكل ينافس الكل على كسب الشارع الإسلامي. وما عزّز هذا التحوّل هو كثرة الجمعيات والهيئات والشخصيات الخليجية الداعمة ماليًا وعقائديًا لهذه الوقفيات والجمعيات السلفية.
يذكر أنه في العام 1992، تأسس معهد الإمام البخاري في قضاء عكار، شمال لبنان، بتمويل ودعم سعودي. أتى ذلك بعد 15 سنة من الحرب الأهلية. وكان الهدف من وراء اختيار منطقة عكار، احتوائها على أغلبية سكانية من الطائفة السنية وللحرمان التي تعيشه المنطقة وأبناءها لناحية الإنماء والتعليم.
عمل المعهد منذ إطلاق صفوفه الدينية، عام 1995، على استقطاب أبناء المنطقة ونشر الدين الوهابي لترسيخه في النفوس، وقد برزت صلة المعهد بـ"السعودية" من خلال إرساله للطلاب إلى جامعات مكة والمدينة المنورة لتلقينهم المفاهيم الوهابية.
لم يكن عرض السفر إلى "المملكة" بكل مغرياتها في ذهن الشباب السني المحروم تاريخيا من أبسط مقومات العيش بالقرار الصعب، حيث استطاع المعهد جذب العديد من الشبان "السنّة" طمعاً بالمميزات المنتظرة من سفر يلازمه تأمين لكافة الخدمات الضرورية، بالإضافة إلى تقديم مقابل مادي شهري يلبي احتياجاتهم.
نهاية الغموض:" أقلمة" لبنان:
أسفرت الديناميكيات الإقليمية في تقويض التوازن الطائفي، وما يتضمنه من التباسات كثيرة منذ أيام اتفاق الطائف. حيث بدأ الإجماع الدولي حول وصاية سورية الفعلية على لبنان بالتآكل بعد العام 2001، وما لبث أن أصبح موضع شك علنا. فقد كانت النقلة النوعية في واشنطن بعد هجمات 11 سبتمبر/أيلول وغزو العراق في العام 2003 نقطتي تحوّل حاسمتين. وعلى الصعيد الإقليمي، تسبّب انسحاب "إسرائيل" الأحادي من لبنان في مايو/ أيار 2000، ثم وفاة حافظ الأسد في يونيو/ حزيران من العام نفسه في بروز مشهد لبناني جديد أصبحت فيه فكرة حزب الله مصدرا للخلاف.
وفي الوقت نفسه، كانت سورية تشع بقلق متزايد من التطورات في المنطقة، وتخشى من أن يكون بشار الأسد هو التالي بعد سقوط نظام صدام حسين في العام 2003. وتأكد تصوّر الأسد بأن نظامه بات مطوّقاً ومحاصراً عندما تم في سبتمبر/أيلول 2004ـ، تمرير قرار مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة الرقم 1559 الذي كان نتاج "طبخة" لبنانية-سعودية-فرنسية-أميركية-إسرائيلية. والكل كان يسعى لتحقيق مكاسب ما.
من جهة "السعوديّة"، فدورها ضروري لأن رفيق الحريري لم يُقدم على أي خطوة في السياسية الخارجيّة (وحتى في السياسة الداخليّة وشؤونها، كما روى الياس الهراوي في أكثر من حديث) من دون التنسيق أو الموافقة من الحاكم السعودي (ينطبق هذا على مسلك سعد بن رفيق، أيضاً طبعاً). و"السعوديّة" تعلم ـــــ مثلما تعلم كل الأنظمة العربيّة، وخصوصاً تلك التي تسعى للتوريث ـــــ أن أقرب طريق إلى قلب واشنطن يمرّ عبر تل أبيب. ومثل فرنسا، فإن "السعوديّة" كانت تسعى لإرضاء واشنطن بعد غزو العراق. ليس لأنها عارضته ـــــ هي لم تعارضه إلا بلطف ولفظيّاً فقط إذ إنها قدّمت تسهيلات عسكريّة واستخباراتيّة للقوّات الأميركيّة الغازية ـــــ بل لأنها لم تؤيّده جهاراً، وخصوصاً أن آل سعود جهدوا لإرضاء واشنطن بكلّ الوسائل بعد 11 سبتمبر/أيلول. وعلمت "السعوديّة" لا شك أن انسحاب القوات السوريّة ونزع سلاح حزب الله، وسلاح أهل المخيّمات، يلخّص وبإيجاز كل المطالب الإسرائيليّة في لبنان. كلّها من دون استثناء.
أما "إسرائيل"، فقد زهت عبر دبلوماسيّيها بدورها في توليد القرار 1559 بعد اغتيال الحريري، إلا أن الصحافة الإسرائيليّة نقلت عن مسؤولين أميركيّين طلبهم من الحكومة الإسرائيليّية عدم الترويج للدور "الإسرائيلي" في توليد القرار خشية إحراج حلفاء أميركا في لبنان. وإسرائيل قدّمت لرؤيتها للبنان من خلال القرار. أي إن القرار هو نسخة معدّلة واستهلاليّة عن اتفاق 17 مايو/أيّار الإسرائيلي الصنع.
لكن دور رفيق الحريري هو الدور الأبرز لأن القرار كان يحتاج إلى تغطية من شريك لبناني يتمتّع بشرعيّة شعبيّة لم يتمتّع بها أمين الجميّل عام 1982. لكن رفيق الحريري لم يكن في وارد المجاهرة بدوره. على العكس: لجأ إلى الخديعة عبر نفي دوره وإعلان معارضته لقرار شارك هو في طبخه من حيث نقش العبارات بطريقة تتوافق مع رؤيته للواقع اللبناني. وقد وصف مسؤول في الأمم المتحدة في حديث مع جريدة الـ"تايمز" اللندنيّة (18 مارس/آذار، 2005) القرار 1559 بـ"طفل" الحريري، وأضاف أنه كان "فخوراً جدّاً به".
كان هذا حال المناخ السياسي الذي أحاط باغتيال الحريري في فبراير/ شباط 2005. ولاشكّ أن هذا الاغتيال شكّل ضربة شبه قاتلة للتوازن القائم في لبنان بعد العام 1990. إذ كان ذلك أول وأقوى زلزال في عملية التوازن بين السنة والشيعة، والتي نجحت سورية في إدارتها حتى ذلك الحين. كما أن اغتياله أنهى الإشراف السوري على بنية الحكم الذي كان سائدا حتى ذلك الوقت في لبنان. وفي هذا السياق، أسفر اغتيال الحريري عن موت اتفاق الطائف سريريا.
هذا الانقلاب المفاجئ غيّر بالكامل تقريبا آليات التنافس الطائفي في لبنان، من خلال القضاء على واحدة من ركائزه المحلية الرئيسية، الحريري، ومن خلال إضعاف دور سوريا باعتبارها الحاكم الإقليمي الرئيسي في البلاد، الأمر الذي عد مجالا شاغرا جاهزا لأن يملؤه آل سعود، بالتوازي مع ارتفاع أسهمها وأسهم حلفائها شعبيا بعد عملية الاغتيال، وقيام ما سميّ "ثورة الأرز" ونُظمت احتجاجات شعبية ضد الوجود السوري في لبنان، وتحت ضغط دولي متزايد سحبت سوريا قواتها في أبريل/ نيسان 2005.
سقط الحريري وخرجت سوريا من لبنان. كان لا بد من أكثر من غازي كنعان. كبرت أدوار السفراء والقناصل في بيروت من جيفري فيلتمان وبرنار إيمييه إلى غيرهم من سفراء العرب، ولا سيما سفير السعودية في لبنان. مات فهد بن عبد العزيز في صيف عام 2005 وحلّ محله عبد الله الذي أولى عناية استثنائية لسعد الحريري وحلفائه اللبنانيين.
ارسال التعليق