الفكر السياسي
التحول السعودي بين وعود التحديث وكلفة القبضة الأمنية
يعيد مقال رأي مطوّل للكاتب مارك فرانك في مجلة ذا ريببليك إحياء الجدل حول “التحول السعودي” تحت قيادة وليّ العهد الأمير محمد بن سلمان: إصلاحات اجتماعية وثقافية واسعة من جهة، وفي المقابل تركيز غير مسبوق للسلطة، وتشدّد أمني، واعتماد اقتصادي خطِر على النفط والمشروعات العملاقة.
ويقدم المقال، المستند جزئيًا إلى أفكار الصحفية المخضرمة في “وول ستريت جورنال” كارين إليوت هاوس وكتابها الجديد “الرجل الذي سيصبح ملكًا: محمد بن سلمان وتحول السعودية” (2025)، صورة سلبية لميزان المخاطر في المملكة، ويطرح أسئلة حادّة حول الاستدامة والشرعية.
ويرى فرانك أن المرحلة التأسيسية لحقبة بن سلمان قامت على تفكيك مركزَي قوّة تاريخيين:
* الأمراء المنافسون داخل الأسرة المالكة، عبر حملة “الريتز-كارلتون” التي انتهت بتنازلات مالية وإقصاءات تنظيمية؛
* المؤسسة الدينية بتهميش “هيئة الأمر بالمعروف” وتخفيف القيود الاجتماعية سريعًا، خصوصًا على النساء والترفيه.
وقد منحت هذه الخطوات الإصلاحات زخماً، لكنها—وفق المقال—رفعت كلفة الحكم: ولاءات مهزوزة داخل العائلة، و”عقد اجتماعي” جديد يعتمد أقل على التوافق التقليدي وأكثر على القبضة الأمنية و”شرعية الأداء” الاقتصادي.
يستحضر المقال تشبيهًا حادًا لطبيعة الدولة الريعية: “بلدٌ يُسجَّل فيه المواطن عند الولادة ويُخدَم طيلة حياته، بينما يدفع النفط الفاتورة”.
ومع أن رؤية 2030 تعِدُ بتقليص هذا الإرث، إلا أن الاعتماد المفرط على الإنفاق العام والمشاريع الرمزية لم يُكسر بعد.
وينتقد فرانك ما يسميه نهج “بندقية الخرطوش”: إطلاق مبادرات ومشروعات عملاقة متزامنة—من مدن مستقبلية إلى سلاسل فعاليات—على أمل أن “يلتصق” بعضها بالجدار. النتيجة، بحسبه، تشتّتٌ في الأولويات وخطر تراكم التزامات رأسمالية باهظة لا تخلق إنتاجية كافية سريعًا.
ويضيف أن بنية سوق العمل ما تزال إشكالية: قطاع عام متضخّم، واعتماد واسع على العمالة الأجنبية في المهارات المتوسطة والدنيا، وثقافة عمل لم تُعالج جذريًا.
والتحدّي هنا مزدوج: تقليص فاتورة الدعم والوظائف الحكومية دون صدمة اجتماعية، وبناء قطاع خاص تنافسي قادر على امتصاص أعداد كبيرة من الداخلين الجدد لسوق العمل.
يوثّق المقال مركزة القيادة العسكرية والأمنية والاقتصادية تحت إشراف ولي العهد مباشرة، بعد إلغاء توازنات تقليدية داخل الأسرة. هذه المركزية سهّلت سرعة التنفيذ لكنها قلّصت، وفق فرانك، مساحات الفحص والمساءلة.
ويستشهد برؤية هاوس التي ترى أن “حُكم رجلٍ واحدٍ لكل شيء” يسرّع القرارات، لكنه يضخّم أخطاء التقدير عندما تغيب آليات تصويب مستقلة.
ويشير المقال إلى أن سجلّ حقوق الإنسان—من قضايا بارزة مثل اغتيال جمال خاشقجي إلى الاعتقالات والأحكام القاسية بحق معارضين ومغردين—يقوّض سردية الانفتاح الثقافي.
صحيحٌ أن الحفلات والفعاليات خلقت مشهدًا اجتماعيًا جديدًا، لكن فرانك يؤكد أن حرية التعبير والتنظيم ظلّت “خارج قائمة الإصلاح”، ما يترك صورة “انفتاح بلا نقد” وترفيه مقيّد بشروط سياسية.
على المستوى الجيوسياسي، يقرأ فرانك ابتعاد الرياض النسبي عن الارتهان لواشنطن وتوسيع الشراكات مع الصين وروسيا كجزء من طموح “قوة متوسطة مستقلة”.
لكنه يحذّر من كلفة السمعة في الغرب، ومن تناقضات إدارة العلاقات مع عواصم ديمقراطية تنتقد الحقوق، بينما تتعمّق الروابط مع قوى استبدادية. السؤال الذي يطرحه: هل يكسب هذا التموضع هوامش مناورة أم يُعرّض المملكة لـمخاطر محاور متقلّبة؟
وفي صلب السلبية التي يبرزها المقال: هشاشة الإيرادات النفطية وتقلّباتها. إذا خفّضت “أوبك+” الإنتاج أو هبط السعر عالميًا، تضيق القدرة المالية لمواصلة نسق المشاريع والفعاليات والدعم المتناثر، ما يجبر الحكومة على ترتيب قاسٍ للأولويات. هنا، يبرز خطر “الالتزامات الغارقة”: مشاريع صاخبة صعبة الإلغاء سياسيًا، لكن عوائدها بعيدة أو غير مؤكدة.
بناءً على رصد هاوس وتحليل فرانك، تتكدّس علامات استفهام سلبية حول المسار السعودي:
* هل تُترجم سياسات التوطين والتحفيز إلى إنتاجية حقيقية خارج النفط؟
* هل تتحوّل الاستثمارات في السياحة والترفيه إلى قطاعات ربحيّة قابلة للتمويل الذاتي أم تبقى معتمدة على الخزانة؟
* هل تُبنى مؤسسات حكم راسخة (قضاء مستقل، هيئات رقابة فعّالة، إعلام مهني) تضمن استدامة ما بعد “الرجل الواحد”؟
يخلص مقال “ذا ريببليك” أن قصة التحوّل في السعودية تحمل تناقضًا جذريًا: تحديث سريع في القشرة (قوانين، فعاليات، واجهات حضرية) فوق أرض مؤسسية رخوة (تركّز سلطة، هشاشة حقوق، اقتصاد ريعي يُعاد طلاؤه).
وإذا كان محمد بن سلمان—بحسب هاوس—”أفضل أمل لكبح التطرّف” والحفاظ على استقرار إقليمي، فإن ثمن هذا الرهان قد يكون تغوّل القبضة وإرجاء بناء قواعد الدولة الحديثة: فصل السلطات، سيادة القانون، وتنافسية الاقتصاد.
والنتيجة التي يخلص إليها فرانك قاتمة: إمّا أن تُسرِّع المملكة التحوّل المؤسسي الحقيقي وتضع سقفًا للرمزيّات باهظة الثمن، أو أن تجد نفسها أمام نقطة تصادُم بين طموح عالمي مُكلف واقتصادٍ لم يتحرّر بعد من جاذبية النفط وقيوده.
وفي الحالتين، ستبقى سلبيات الوضع—كما يرصدها المقال—محكًّا يوميًا لصدقية السردية الرسمية: هل هو تحوّلٌ مستدام… أم قفزةٌ في الظلام؟.
ارسال التعليق