تويتر كذراع نفوذ سعودي… من وادي السيليكون إلى زنازين الرأي
لا تعد العلاقات العميقة بين تويتر/إكس والسلطات السعودية قصة “استثمار عابر”، بل مسارٌ منظّم يجمع بين شراء النفوذ في وادي السيليكون وتسليح المنصّات لقمع المعارضين.
إذ خلف لافتات “رؤية 2030” وادّعاءات التحديث، بنت الرياض شبكة نفاذ مالي–أمني جعلت تويتر “موردًا إستراتيجيًا”؛ شركة عالمية تُستَخدم أدواتها في الداخل لتكميم الأفواه وفي الخارج لمطاردة المنتقدين.
ولأعوام، كان الأمير الوليد بن طلال أكبر مساهم خارجي في تويتر. بعد حملة الريتز (2017) التي أُعيد عبرها توزيع الملكيات والنفوذ داخل المملكة، صار واضحًا أن الحصص الإستراتيجية لا تتحرك خارج إرادة مركز القوة الجديد.
ومع صفقة إيلون ماسك (2022)، تحوّلت الملكية إلى شركة خاصة بتركيبة مساهمين متوارية خلف السرية القانونية، بينما ظل المستثمر السعودي ركيزة مالية وسياسية في الكيان الجديد.
هكذا يتبدّى المنطق: رأس مالٌ سعوديّ يضمن مقعدًا دائمًا في غرفة التحكم، حيث تُصاغ سياسات “السلامة” والتعديل على المحتوى والوصول إلى البيانات.
القصة الأخطر ليست في الشيكات الكبيرة، بل في زرع العيون داخل تويتر. الاتهامات الأميركية وثّقت كيف استُخدم موظفون من داخل الشركة للوصول إلى بيانات حساسة (عناوين البريد والهواتف والرسائل الخاصة، وحتى عناوين الـIP) تخص معارضين وصحفيين سعوديين. قُدِّم أحمد أبو عمو للمحاكمة وأُدين، فيما فرّ علي الزبارة واستُقبل لاحقًا في مؤسسات تابعة للديوان.
هذا ليس “تجاوز موظف”، بل منهج دولة بوليسية: شراء مقابس التأثير، ثم توظيفها لاختراق الخصوصية ومطاردة المختلفين. لذلك لم يعد تويتر “ساحة مساواة”، بل ساحة اصطياد تُفرَغ فيها دفاتر الأمن من الأسماء المستعارة حتى تتحول إلى أجساد في أقبية التحقيق.
ووراء “الهندسة المالية” وجولات المستثمرين، هناك بشرٌ يدفعون. عبدالرحمن السدحان، عامل الإغاثة الذي أُدين بـ20 عامًا بسبب نشاط ساخر على تويتر، صار رمزًا لوحشية المطاردة الرقمية حين تُترجم إلى أحكام قاسية وغيْب قسري.
وعلى الضفة الأخرى من الأطلسي، كان اغتيال جمال خاشقجي ذروة منحدر القمع العابر للحدود: منصةٌ تُلتقط فيها الإشارات، وجهازٌ أمنيّ ينجز المهمة. هذا هو المعنى الحقيقي لـ“سيادة البيانات” حين تُباع للمستبدّ: أن تتحول التغريدة إلى تذكرة عبور نحو زنزانة أو مقصلة صامتة.
لماذا يسهُل هذا كله؟ لأن وادي السيليكون لا يرى حرجًا في فتح الأبواب لرأس المال السلطوي ما دام يعِدّ بعوائد وفيرة. شركات رأس المال المخاطر، وصناديق التقنية، ومكاتب الاستثمار في سان فرانسيسكو وبيرلو ألتو، تستقبل الأموال السعودية وتبيّض سمعتها التقنية: تمويل ضخم لأوبر، حصص في سناب، استثمارات في صناديق البنية التحتية، وعلاقات خاصة مع كبار اللاعبين.
المعادلة بسيطة: أنظمة مراقبة تبحث عن أدوات أحدث للبقاء، وصناعة تقنية تبحث عن سيولة بلا أسئلة. بين الطرفين، تُطوى مبادئ “حرية التعبير” تحت سجاد غرف المؤتمرات.
وقد قدّم إيلون ماسك نفسه “مُحرِّرًا” للمنصّة من “بيروقراطية وادي السيليكون”. في الواقع، ورث فضيحة التجسس، وورث معها شبكة المستثمرين التي تضم رأس المال السعودي. ومع الخصخصة، ازداد الضباب: لا إفصاحات منتظمة، لا مساءلة فعلية، وأحكام قضائية تُدار في ساحات مريحة.
شعارات “الحياد” و“السوق المفتوحة للأفكار” تنهار أمام أول اختبار: حين يتقاطع المحتوى مع مصالح المموِّلين، تصبح القرارات التحريرية والأمنية أقرب إلى تحسين محفظة نفوذ منها إلى صيانة ساحة عامة.
أين لجنة الاستثمار الأجنبي في الولايات المتحدة (CFIUS) من صفقة تجمع بنية تحتية معلوماتية حساسة وممولين ذوي سجلّ قمعي؟ الأسئلة طُرحت، والتحقيقات المتوقعة لم تظهر إلى العلن.
في المقابل، يواصل رأس المال الخارجي تثبيت أقدامه في قلب شركة تتحكم بـتدفّق الأخبار والآراء والسمعة الرقمية للفواعل السياسية. أيُّ أمن قومي ذاك الذي يغضّ الطرف عن إمبراطورية مراقبة تستثمر داخل المنصة التي يتراسل عبرها مسؤولون ومعارضون وصحفيون؟
وعليه فإن السعودية لم “تستثمر” في تويتر؛ اشترت حقّ تعديل بيئته. من أنابيب المال إلى مخارج البيانات، ومن مكاتب سان فرانسيسكو إلى غرف تحقيق الرياض، تَحوّل الموقع إلى واجهة براقة لمنطق الدولة البوليسية: المال يفتح الأبواب، والاختراق يجلب الرؤوس، والدعاية تُعيد صياغة الواقع.
لهذا، فإن أي كلام عن “تحديث” و“انفتاح” في ظل هذه المنظومة هو تزيين لفظي لآلة قمع متعولمة. المطلوب الآن واضح:
إفصاح كامل وملزم عن هياكل ملكية “إكس” واتفاقات المساهمين ذوي الصلة الحكومية.
تحقيق مستقل في كل حالات تسريب بيانات معارضين، مع تعويضات لضحايا المطاردة الرقمية.
حواجز مؤسسية تمنع تضارب المصالح بين الممولين السلطويين ووظائف الإشراف على المحتوى والأمن.
إعادة تعريف المنصّات الكبرى كبنية تحتية ديمقراطية، لا كحظائر خاصة يُعاد تشكيلها على مقاس الديكتاتوريات المموِّلة.
حتى يحدث ذلك، سيبقى الدرس واضحًا: من يملك منفذ الصوت، يملك القدرة على إسكات الحقيقة—والرياض أتقنت اللعبة.
ارسال التعليق