بين الوهابية والانفتاح.. ابن سلمان يقامر في المجهول
لطالما دأب النظام السعودي على خلق جبهة مضادّة للثورة الإيرانية التي انتصرت عام 1979 والتي امتدت آثارها لتشمل عددا من الدول والشعوب العربية، لما كان لهذه الثورة من تجسيد واضح لانتصار النضال الشعبي على حكم ملكي دام لأكثر من ألفي عام.
ليس هناك غرابةً من إقدام “السعودية” على محاربة آثار الثورة الإيرانية بعد انتصارها وصدّ تمدّدها بأدواتٍ مضادة اخترعتها لتوجّه دفّة المعركة نحو اتجاه آخر. لم ترغب الرياض أن تداعب روح الثورة في الجارة الفارسية صدور الأهالي في الجزيرة العربية الذين يدركون جيداً أصول النظام السعودي الذي انتزع أرضهم وإرثهم وتاريخهم ووهبها لعائلة واحدة تجسّد فيها حكم البلاد دون أي حق يذكر.
يعزو د.فؤاد إبراهيم في كتابه "داعش..من النجدي إلى البغدادي: نوستالجيا الخلافة" تشكّل تيار ديني في المجتمع الوهابي إلى مطلع الثمانينات من القرن الماضي حين قرّر "الملك" فهد مواجهة المد الثوري الإيراني عن طريق الإفساح في المجال أمام الوهابية كي تنهض مجدداً وتغمر الفضاء العام.
وكنتيجة انتقلت الوهابية من مجرد كونها ممارسة فردية حتى نهاية السبعينات من القرن الماضي إلى ظاهرة شعبية في أوائل الثمانينات لها تمظهاراتها في الشارع، حيث بدأت تبرز ظاهرة اللحى الطويلة، والثوب القصير، والمطويات الدينية، والمخيمات الدعوية فيما ازدادات الجرعة الدينية في مناهج التعليم الحكومية بنسبة الثلث. في موازاة ذلك، خصّصت السلطات السعودية ميزانية ضخمة لناحية تحصين الداخل إزاء تأثيرات الثورة الإسلامية التي فرضت نفسها على العالم بأسره في إطار الترويج للعقيدة الوهابية حول العالم.
وفي السياق، يذكر ألكس ألكسيف الخبير في شؤون الإرهاب أن الرياض أنفقت 70 مليار دولار بين عامي 1991 و2002 بصفة مساعدات للخارج دون احتساب الهبات الخاصة. أما السيناتور الديمقراطي تشارلز شومر من ولاية نيويورك فيعلق على ذلك بالقول: "بفضل هذا التمويل يمتد نفوذ الحركة الوهابية إلى الولايات المتحدة ويدخل حتى إلى المنظمات الإسلامية الكبرى في البلاد والمدارس والجيش".
من جهته السفير الأميركي في كوستاريكا كيرتن ويندزور، يرى في دراسة بعنوان: "السعودية، الوهابية وانتشار الفاشية اللاهوتية السنية"، أن "السعودية" أنفقت على الأقل 87 مليار دولار لنشر الوهابيّة في الخارج خلال العقدين الماضيين، وأن وتيرة الإنفاق في السنوات الماضية (2005 – 2007)، قد بلغت معدلات قياسيّة. وفي الغالب، تنفق هذه الأموال على البناء والموازنة التشغيلية للمساجد والمدارس والمؤسسات الدينية الأخرى لنشر الوهابيّة، كما يتم دعم تدريب الأئمة والهيمنة على وسائل الاتصال الجماهيرية ووسائل النشر وتوزيع الكتب المدرسيّة الوهابيّة وأدبيات أخرى، والأوقاف للجماعات (في مقابل التأثير على تعيين علماء الدين). ويقارن ويندزور بين الانفاق "السعودي" على نشر الوهابيّة مع انفاق الحزب الشيوعي السوفيياتي خلال الفترة ما بين 1921 – 1991 والذي يربوا قليلاً عن 7 مليار دولار.
يلفت الباحث السياسي في هذا الإطار إلى أن تحويل الوهابيّة إلى تيار شعبي ساهم في خلق بيئة حاضنة لحركة سياسية وظّفت شبكة المؤسسات الثقافية والمراكز الدعوية والمساجد المنتشرة في أرجاء العالم بأموال الدولة للترويج لأفكارها ورموزها لكن حينذاك تنطوي على مخاطر على نظام الحكم السعودي.
الأمر الذي تمخضت عنه سياسات محمد بن سلمان الإقصائية بذريعة "الانفتاح"، حيث يسعى بن سلمان لفك الارتباط والثنائية التي قامت عليها مرتكزات الاحتلال لشبه الجزيرة العربية، من خلال تحييد هيئة "الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر" وحصر صلاحيات عملها، واتخاذ بعض الاجراءات الإعلانية غرض الترويج وتزييف الواقع المأزوم في البلاد كإعطاء الحق للمرأة بقيادة السيارة والاستمرار في اعتقال الناشطات في هذا المضمار والتضييق على عائلاتهن، كما فتح باب الحفلات الموسيقية والغنائية على مصرعيها الأمر الذي كشف عمق الأزمات الأخلاقية والدينية المتفشية في المجتمع، إلى جانب الاستثمار الرياضي بهدف تحويل الانظار عن واقع حقوق الإنسان في البلاد.
كل ما ورد، لا يعني أن رزم الوهابية في "السعودية" راضية عن الحاضر، هي لا تمتلك خيارا إلا الصمت وإلّا السجن سيكون بانتظارها والشواهد على ذلك تطول. فمن قضية الدعاة الذين لطالما حسبوا على آل سعود وعلى رأسهم سلمان العودة، أو تضييق الذي يمارس بتكتيك متصاعد تجاه المظاهر الدينية من إعلاء صوت الأذان وإلغاء إلزامية الإقفال خلال موعد الصلاة، وصولاً إلى ملاحقة القضاة الحاكمين بأمر صاحب الأمر ممن أصدروا أحكاما بالإعدام طالت الأبرياء من أبناء القطيف والإحساء.
الصمت ليس بالمصير المحتم، خاصة مع ازدياد الفئات المستهدفة والمتضررة من الإجراءات. إن كان محمد بن سلمان يتبع نهجاً يعيد فيه ترتيب الداخل منعا من أي انقلاب أو لحظة غدر، وتسهيلاً لحكم مقبل يراه قريبا، فليس مستبعدا أن تتقاطع مختلف التوجهات على هدف يغيّر مجرى الأمور، سيّما وإن دُعمت غربيا مع تزايد التوترات.
الأمر الذي يقودنا إلى الحديث عن سردية خاصة لا بدّ من تبنيها في مواجهة سياسات بن سلمان وتؤسس لمشتركات جديدة تتفوق على الفوارق الراسخة في حياة كل فئة منهم، وبالتالي السؤال عن الهوية التي ستعطى وتقدم، إذ أننا لسنا أمام لحظة شبيهة في تركيبة "داعش" التي تبنت "التكفير" أداة لإنجاح حركة محمد بن عبد الوهاب.
بطبيعة الحال، إن الحديث عن المواجهة المحتملة لا يعني بأي حال من الأحوال تمثيلها لنقطة تقاطع، بل في كونها ستشكل مسمارا جديدا يزيد في عمق الفجوة القائمة في المجتمع، ويضاعف من الشروخ.
ارسال التعليق