تركيا والخليج وليبيا.. الأثر الاقتصادي للانقسام الجيوسياسي المتنامي
أضاف الدعم التركي لحكومة الوفاق الوطني، في طرابلس، في الحرب الأهلية الليبية، بعدا جديدا للعلاقات بين تركيا ودول الخليج مثل الإمارات والسعودية.
ولكن ما هو تأثير الانقسامات الجيوسياسية المتزايدة والخلافات الدبلوماسية على العلاقات الاقتصادية التركية - الإماراتية، والتركية - السعودية؟
حسنا، يتعارض الدعم التركي لحكومة الوفاق الوطني بشكل مباشر مع الدعم الإماراتي والسعودي للجيش الوطني الليبي الذي يقوده "خليفة حفتر"، وهو ما يكمل الخلاف الأيديولوجي والسياسي الأوسع بين تركيا من جهة، والإمارات والسعودية من جهة أخرى.
وتوجد هذه الانقسامات منذ ثورات الربيع العربي 2010-2011، وتستمر إلى اليوم، كما توضح الحرب الأهلية الليبية.
وتكشف مثل هذه الأزمات الاختلافات الأيديولوجية والجيوسياسية لتركيا مع السعودية والإمارات، ومع ذلك، تكشف السياسات والاستجابات الاقتصادية السعودية والإماراتية تجاه تركيا عن اختلاف كبير.
وتؤثر الانقسامات الجيوسياسية بين أنقرة وأبوظبي على العلاقات الاقتصادية التركية - الإماراتية، في حين أن العكس صحيح بالنسبة لأنقرة والرياض، فالعلاقات الاقتصادية التركية - السعودية تظل ثابتة ومستقرة، بالرغم من الاختلافات الدبلوماسية بينهما.
وفي حين زادت التجارة الثنائية بين تركيا والسعودية في الأعوام الأخيرة، انخفضت الصادرات التركية إلى الإمارات بشكل كبير بين عامي 2017 و2018.
وكان لذلك تأثير كبير على أنماط التجارة في تركيا، حيث كانت الإمارات في السابق ثالث أكبر سوق للسلع التركية بعد ألمانيا والمملكة المتحدة.
وفي حين حدث هذا على خلفية الأزمة الاقتصادية التركية لعام 2018، فإن التأثير على التدفقات التجارية مع الإمارات، بانخفاض في الصادرات التركية بنسبة 66% وفي الواردات من الإمارات بنسبة 32%، كان أكبر بكثير من التأثير على التجارة الإجمالية.
وفي غضون ذلك، تراجعت الصادرات إلى السعودية بنسبة 4% فقط في عامي 2017 و2018، بالرغم من احتجاج الرياض على موقف أنقرة المؤيد لقطر أثناء أزمة الخليج، والإجراءات التي أعقبت مقتل الصحفي السعودي "جمال خاشقجي".
ومثل التدفقات التجارية، ظل الاستثمار الأجنبي المباشر السعودي في تركيا مستقرا أيضا على نطاق واسع بالرغم من خلافات البلدين حول الحرب الأهلية الليبية.
وفي حين انخفض الاستثمار الأجنبي المباشر السعودي بنسبة 17% في عام 2018، فقد حدث هذا في نفس الوقت الذي حدث فيه انخفاض عام في الاستثمار الأجنبي المباشر في تركيا بنسبة 8%، نتيجة للأزمة الاقتصادية التركية في عام 2018 وانخفاض قيمة الليرة.
وتعافى الاستثمار الأجنبي المباشر السعودي في تركيا في العام التالي، بالرغم من المشاكل المستمرة، وظل دون تغيير عند 3 مليار دولار من أوائل عام 2019 إلى نفس الفترة في عام 2020، وسط خلافات حول الحرب الأهلية الليبية.
وفي مايو/أيار 2019، ورد أن محمد بن سلمان، أعرب عن عزمه مواجهة تركيا بعد مقتل "خاشقجي" عام 2018 عن طريق تقليل الاستثمارات والتجارة في تركيا.
وبالرغم من تلك التقارير، استمر الإعلان عن الاستثمارات السعودية في تركيا في عام 2019، وأعلنت شركة "ساك للاستشارات" في السعودية عن استثمار بقيمة 100 مليون دولار في قطاعي الزراعة والعقارات التركيين، وسط احتجاجات شديدة ضد تركيا.
وادعى المسؤولون التنفيذيون في شركة "ساك" أن السياسة والاقتصاد "يجب التفريق بينهما"، ويبدو أن هذا الشعور تشاركه الحكومة السعودية، حيث ظلت التجارة والاستثمار بين البلدين ثابتة وسط الاختلافات الجيوسياسية.
على النقيض من ذلك، كان الاستثمار الأجنبي المباشر الإماراتي في تركيا، مثل العلاقات التجارية الثنائية، أكثر تفاعلا مع الاختلافات الجيوسياسية والأيديولوجية الإماراتية - التركية.
وفي وقت سابق من هذا العام، انخفض الاستثمار الأجنبي المباشر الإماراتي في تركيا بنسبة 88%، مقابل ما كان عليه في نفس الوقت من العام الماضي.
وفي 5 يناير/كانون الثاني، نشر الرئيس "رجب طيب أردوغان" قوات في ليبيا في صراع مباشر مع المصالح الإماراتية.
وخلال نفس الفترة، انخفض الاستثمار الأجنبي المباشر الإماراتي إلى الصفر، وزاد بمقدار 2 مليون دولار فقط بحلول مارس/آذار من هذا العام. وحدث هذا الانخفاض قبل تصاعد المخاوف بشأن فيروس "كورونا"، بما يتماشى مع الاتجاه الإماراتي في ربط الاستجابة الاقتصادية بالاختلافات الدبلوماسية مع تركيا.
ويبدو أن العلاقات الاقتصادية التركية - السعودية مستقرة ويحميها الرئيس "أردوغان" بنفسه، وحتى خلال اللحظات المتوترة، كان حريصا على عدم إثارة غضب السعودية.
وخلال أزمة الخليج عام 2017، كان تحذير الرئيس "أردوغان" واضحا عندما أشار إلى السعودية على أنها تملك "رجال الدولة الكبار" الذين لديهم القوة والحكمة لإنهاء الأزمة.
وخلال نزاع 2018 حول مقتل "خاشقجي"، ادعى أنه "ليس لديه سبب للشك في صدق الملك سلمان"، وفي حين تجنب الجانبان المواجهة الاقتصادية حتى الآن، لا يزال هناك خلاف عميق حول دور كل منهما في الحرب الأهلية الليبية.
"الإخوان المسلمون" وأزمة الخليج:
وأدت معارضة الإمارات القوية لجماعة "الإخوان المسلمون" إلى تحديها مباشرة للدعم التركي للحركة، وقد تجلى هذا التحدي في الدعم المالي الإماراتي المزعوم لمحاولة الانقلاب التركي في عام 2016.
وبينما تجنبت السعودية وتركيا المواجهة المباشرة خلال قضية "خاشقجي"، فإن الاتهامات بالتورط الإماراتي في محاولة الانقلاب عام 2016 عززت تقلب العلاقات السياسية بين البلدين.
وبعد محاولة الانقلاب الفاشلة، زادت العلاقات الاقتصادية بين الإمارات وتركيا في البداية، غير أن ذلك تغير في العام التالي، عندما دعمت تركيا قطر في نزاعها مع الإمارات والسعودية بشأن دعمها المزعوم للجماعات الإسلامية.
وبعد ذلك انخفض كل من الاستثمار الأجنبي المباشر الإماراتي في تركيا والصادرات التركية إلى الإمارات، وتحدت الإمارات الحكومة التركية بشكل مباشر نتيجة لخلافاتها طويلة الأمد حول "الإخوان المسلمون" والحكومات الإسلامية، وتعكس حالة العلاقات الاقتصادية الثنائية هذه التوترات.
وفي الوقت الذي تعيد فيه الإمارات تقييم مشاركتها في ليبيا في ضوء الانتكاسات الأخيرة التي مُني بها الجيش الوطني الليبي، واستراتيجيتها الأوسع لاحتواء تركيا، فمن المرجح أن تظل السعودية على خطى الإماراتيين.
وتبنت السعودية الاستراتيجية الجيوسياسية الإماراتية، لكن علاقتها الاقتصادية مع تركيا لا تتماشى مع هذه السياسة، وإذا ظلت العلاقات الاقتصادية بين السعودية وتركيا مستقرة في المستقبل، فقد يخلق ذلك احتكاكا بين الإماراتيين والسعوديين.
ولا يتوقف مستقبل علاقات تركيا مع السعودية والإمارات فقط على الحرب الأهلية الليبية، فتلك العلاقة الثلاثية معقدة ومتعددة الأوجه، ومع ذلك، تعد قضية ليبيا في الوقت الراهن أوضح نقطة للخلاف، ومصدر التوترات بين الجانبين.
ويمكن للانتصارات الأخيرة لحكومة الوفاق الوطني، وما تلاها من حديث عن وقف إطلاق نار محتمل، أن تخفف من الاحتكاك في العلاقة، بالرغم من أن ذلك سيعتمد بالتأكيد على وجود حل مستدام للأزمة الليبية.
ارسال التعليق