رؤية 2030.. هل هي ليبرالية اجتماعية أم توحش سياسي
بقلم: د. محمود البازي*اعتمد هيكل السعودية تقريبًا على نموذج اقتصادي واجتماعي وثقافي وديني معين، يعد فيه إرضاء جميع الأطياف السياسية في البلاد والإجماع العام لمختلف شرائح المجتمع أمرًا مهمًا للغاية إلا أنه لا يُؤخذ في الاعتبار عادة. في هذا النموذج، تلعب القوة العسكرية دورًا مهمًا وحاسمًا في الحفاظ على وحدة وسلامة أجزاء مختلفة من البلاد، وبمساعدة عوامل أخرى، تتحرك هذه القوة لتثبيت مبدأ تسلّط الغالب على المغلوب وحفظ مصالحه.
في ضوء هذا كله، فإن العلاقة بين الحاكم والمحكومين لها تعريف موحد وثابت، ويقتصر تعريف هذه العلاقة وأركانها على العائلة الحاكمة وحدها، وبمساعدة علماء الدين كشركاء للحاكم، وهو ما نطلق عليه في علم السياسة “علماء السلطان”، فإن طاعة ولي الأمر تتحول إلى واجب ديني وشرعي، تحت مبدأ فاسد، روّج له علماء الدين وهو: “أطعِ الحاكم وإن أخذ مالك وجلد ظهرك”.
تاريخياً استطاعت هذه الطريقة حماية النظام الحاكم في السعودية داخلياً، أما خارجياً فقد لعبت الولايات المتحدة، دوراً محوريا في الحفاظ على النظام هناك. فمن جهة، ومع ظهور بعض المشاكل الاقتصادية التي تكبدتها الطبقات الفقيرة في الأوساط السعودية، وبروز الاحتجاجات المدنية وتدهور الرفاه الاجتماعي وتقييد المشاركة السياسية للمواطنين في عملية الحكم … ومن جهة أخرى، سعي الحكام الفعليين في السعودية إلى نقل مقاليد الحكم إلى قيادات (لم تكن ضمن الهرم السلطوي)، وذلك بهدف الحيلولة دون تغييرات قسرية يقوم بها المجتمع السعودي ضدهم، الذي بدأ يبحث عن ضالته “الليبرالية والديمقراطية”. كل ذلك دفع السلطة “المستحدثة” إلى طرح العديد من الأسئلة ومحاولة ايجاد حلول مناسبة لهذه المعضلات الجديدة. تتمثل أبرز هذه الأسئلة حول كيفية التغلب على المشاكل والقضايا المثارة وعواقب توسيع وزيادة موجة الليبرالية الاجتماعية في عصر السرعة والتحولات التي شهدتها وتشهدها السعودية؟
هل يمكن للحكومة وحدها لعب دور في هذه المطالب الجديدة؟ هل من الممكن وضع سقف محدد لإرادة الشعب، بحيث لا يتجاوز الحدود التي ترسمها له الحكومة، وهل يمكن للحكومة أن تنفذ خطة الليبرالية الاجتماعية والثقافية دون أي مشاكل أو آثار سياسية محددة في البلاد؟يمكن البحث عن إجابات هذه الأسئلة في التاريخ السعودي. فلكل معضلة حاضرة، جذر تاريخي متأصل.
في عام 1970 ، تم تقديم خطة تسمى “الخطة الخمسية”، والتي على الرغم من الهيكل السياسي والعسكري المعقّد للسعودية آنذاك، إلا أنها تمكنت من الحد بشكل كبير من الآثار السلبية للمطالب العامة لتحديث الهيكل السياسي للحكومة السعودية. ولكن في الوقت نفسه، ظهرت بعض الحركات الاحتجاجية، مثل تحركات المجموعة السلفية المنتسبة إلى جهيمان العتيبي – الذي ظهر في الستينيات واستولى على الحرم المكي في نوفمبر 1979 – أو انتفاضة شهر محرّم “الشيعية” عام 1400قمري، التي قادت احتاجات عارمة ضد الحكومة السعودية.
يمكن إرجاع الأسباب الكامنة وراء رؤية 2030 إلى خطورة الأزمة متعددة الأوجه التي يواجهها السلطة الحاكمة السعودية، والحاجة إلى معالجة هذه الأزمات وحلها قبل بداية حكم محمد بن سلمان. يمكننا أن نذكر بعض الأزمات التي تواجهها الحكومة السعودية على الصعيد الإقتصادي مثل: خطر إفلاس الحكومة بسبب انخفاض العائدات، وارتفاع الإنفاق الحكومي بسبب الحرب ضد اليمن والسياسات الخاطئة والطائشة، وانخفاض أسعار النفط العالمية، عجز الحكومة السعودية عن تغطية حاجة السوق العالمية للنفط نتيجة العقوبات النفطية المفروضة ضد بعض الدول، والقائمة تطول في هذا المجال.
في ضوء المشكلات الاقتصادية التي تعانيها السعودية وبسبب التحذيرات المتكررة للسعودية من الحاجة إلى معالجة هذه القضايا، ظهرت رؤية 2030، ليس كمشروع مبتكر ولكن كتكرار للتجربة الليبرالية التي تعيشها الدول الغربية والولايات المتحدة، ويبدو مستقبل هذه الرؤية ومدى نجاحها غامضا للغاية.
تعتمد هذه الرؤية على نظرية أستاذ الاقتصاد الأمريكي “ميلتون فريدمان”، الذي عمل عليها لأكثر من ثلاثة عقود ، وتوّصل إلى فكرة أننا يجب أن ننتظر حدوث أزمة اقتصادية حادة في البلاد ومن ثم يتم بيع قطاعات اقتصادية عديدة إلى القطاع الخاص. ويجب أن يتم ذلك حتى يظل المواطنون في حالة صدمة من الأزمة ولا تتاح لهم الفرصة للتفكير فيما حدث. وسيتم تحوير هذه الرؤية إلى مبدأ “الإصلاح الدائم” في مراحل لاحقة على خصخصة الإقتصاد.
ظهر هذا النمط في الولايات المتحدة في الثمانينيات، وكان مدعومًا من قبل فريق كلينتون في التسعينيات، وقام جورج دبليو بوش بوضعه موضع التنفيذ رسميًا وتم تفويض قطاعات اقتصادية عديدة للقطاع الخاص من خلال خطة لتشغيل شركات المياه والكهرباء و… خطة جورج بوش التنفيذية هي نموذج عملي لرؤية محمد بن سلمان. يسعى الأمير الشاب إلى تبني سياسة الإصلاح ومحاربة الفساد داخل البلاد وخارجها لتحقيق هذا الهدف.
تتيح هذه الرؤية لمحمد بن سلمان الفرصة لاستكمال عملية توسيع نفوذه على مختلف أركان السيادة في مختلف المجالات، وتمكين إعادة بناء الهيكل السياسي للبلاد. كما يسعى بن سلمان إلى تحقيق هذا الهدف من خلال تعزيز ما يسمى “حوكمة العمل الحكومي”.
تسعى الرؤية إلى تطبيق المناقشات الاقتصادية التي جاءت بها الليبرالية الحديثة وتطبيقها في السعودية، وهي خطة تهدف إلى تخلي الحكومة عن التزاماتها في المجال الإقتصادي وإحالة وتفويض هذه الالتزامات إلى القطاع الخاص. سيتم ملء الفراغ الناشئ عن خروج الحكومة من الدورة الاقتصادية، من خلال الشركات الكبيرة متعددة الجنسيات، وخاصة الشركات الأمريكية والبريطانية والفرنسية والصينية والروسية وغيرها. الرؤية تهدف “صورياً” إلى تعزيز دور القطاع الخاص في اقتصاد البلاد، ولكن في الممارسة العملية ستمهد الطريق أمام سيطرة هذه الشركات على الإقتصاد السعودي في جميع جوانبه وذلك سيستلزم فرض ضرائب مرهقة على المواطنين، وحذف المساعدات التي كانت تقدمها الحكومة للمواطنين.
في بحث الليبرالية الاجتماعية والإصلاحات المنبثقة عنها، ففي الواقع، يواصل محمد بن سلمان المسار الذي بدأه الملك عبد الله وأدى إلى تغييرات في قطاعات مثل التعليم والثقافة والمعتقدات الدينية. يبدو أنّ هذه التغيرات التي تشهدها السعودية (التي لسنا ضدها من حيث المبدأ)، هي تنفيذا لرغبات أمريكية بإيجاد تحولات في المنظومة السعودية وتحويلها من دولة داعمة “للإسلاموية العنفية” إلى دولة ليبرالية “غير ديمقراطية” تتماشى مع السياسات الأمريكية في المنطقة والعالم.
سنوضح هذه المفاهيم بشكل كامل، فالسعودية (كما لا يخفى على أحد)، خلال التسعينات أُريد منها أن تنتهج أسلوب “الإسلاموية العنفية” لمواجهة الإتحاد السوفيتي في أفغانستان. ومن هنا أصبحت المساجد السعودية منابر تدعو “للجهاد” في أفغانستان، ومارست شركات الصرافة دوراً محورياً في دعم “القوات الجهادية” هناك. إلا أنّ هذا الخطر تحول إلى خطر عالمي استهدف الولايات المتحدة نفسها في الحادي عشر من سبتمبر.
فتغيرت على إثر ذلك الرغبات وبدأت المطالبات بتحويل السعودية إلى دولة ليبرالية “ذات حريات محدودة على النطاق الشخصي”. وبذلك يتم تفادي خطرها ضد الحلفاء إلا أن هذه الليبرالية هي “ليبرالية غير ديمقراطية” ولا تهتم بالتحول السياسي داخل البلاد بل ويمكن لنا تسميتها “الليبرالية الديكتاتورية”.
“الليبرالية الديكتاتورية”، ليست تلاعبا بالمصطلحات، بل إنها مصطلح يفسر لنا القمع السياسي الذي تتعرض له القوى المطالبة بالحرية والديمقراطية في السعودية. ويستطيع أن يفسر لنا معضلة سجن “لجين الهذلول” وصديقاتها النشاطات اللائي طالبن بحرية المرأة في المجتمع السعودي، ليتم اعتقالهن كخطوة أولى، ثم يتم بعد ذلك إعلان بعض المراسيم التي تحرر المرأة من سلطة الرجل وحرية القيادة وغيرها. فالليبرالية الديكتاتورية هي التي تفرض رؤيتها على المجتمع وتلقي بناشطيها في السجون، ضمن سياقات نفعية محضة.
وعودة على البحث الإقتصادي لرؤية محمد بن سلمان، فإن مجتمعاتنا الشرقية لا تستطيع التحرّك دون خلط “الديني” في أي مجال سيشهد تغيرات جذرية. وهنا يُتوقع من “علماء السلطان” إصدار فتاوى جديدة تشيد بهذه الرؤية، مشيرين إلى تفسيرات جديدة للنصوص الدينية. فالدين يتم توظيفه من قبل السلطة فيصبح اشتراكياً عندما تريد الدولة ذلك ويصبح رأسماليا عندما تود الحكومة ذلك.
إن التهجم على المعتقدات “الوهابية” كان يعتبر جريمة في يوم ما، إلا أنه أصبح حلالاً، اليوم بل وواجباً، وحتى كبار الدعاة يدعون اليوم إلى نبذ الوهابية، مثل “السديس”. يدرك علماء الدين في السعودية جيدًا فكرة عدم وجود وسيلة أخرى سوى الموافقة على كل ما تطرحه السلطة للحفاظ على مكانتهم وامتيازاتهم وإلا سيواجهون مصير “سلمان العودة” وغيره.
إن المناقشات طالت حول رؤية 2030، فخارجيا تنوعت ردود الفعل حول هذه الرؤية فوزير الخارجية الألماني السابق، وصف الرؤية بأنها ثورة من قمة الهرم من أجل التغيير، والبعض الآخر يطلق عليه ثورة من الداخل لتغيير المجتمع وتجريد المجتمع من ثقافته الإجتماعية والدينية. أما بعض الإصلاحيين الآخرين فأختاروا الصمت وهم يرون أن الخطة غير واضحة المعالم وهي تحتاج لنضج سياسي.
في ضوء تنامي السخط العام والضغوط السياسية والأمنية والدينية والاقتصادية، والقرارات المتهورة للحكام، ليس من السهل التنبؤ بمستقبل هذه الرؤية. ولكن يمكن القول إن الإصلاح الاجتماعي سوف يستمر في محاولة للحد من الاحتجاجات والإعتراضات ضد القمع السياسي. ومن غير المحتمل أن يحدث تغيير اجتماعي جذري مثلما حدث في بعض الدول العربية، لكن يمكن توقع زيادة عدد المعارضة في الخارج، أو حدوث إنقلابات تقودها قبائل نجد أو تحولات داخل الأسرة الحاكمة من قبل الأمراء السعوديين.
باختصار، يمكن عزو رؤية محمد بن سلمان، بمنحه بعض الحريات الاجتماعية، في مقابل حرمان المواطنين من حقوقهم الطبيعية، السياسية والإقتصادية، إلى أنها تعزيز لمكانة ومستقبل محمد بن سلمان، كقدرة متفردة بالحكم في السعودية في القريب العاجل. وأحد أسباب التنفيذ المتزامن للإصلاحات الاجتماعية والقمع الشديد للمعارضين السياسيين هو الحيلولة دون تصاعد تيار الإصلاح الاجتماعي الليبرالي إلى مستوى الإصلاح السياسي-الليبرالي المُطالب بالحرية والديمقراطية.
لقد أظهر النظام السعودي للعالم أجمع أنه يختار وينفذ ما يرضيه من الليبرالية وينفذها بشكل انتقائي. كما يعتقد البعض أن بن سلمان نجح بتصفية خصومه (أو منافسيه) بحجة الإصلاح الاقتصادي ومحاربة الفساد. حيث تمكن من تهميش العديد من أصحاب النفوذ مثل محمد بن نايف أو متعب بن عبد الله. والاستيلاء على كمية كبيرة من أموال الأمراء، باسم الحكومة.
في الواقع ، حدثت كل هذه التغييرات بهدف وحيد هو تعزيز مكانة محمد بن سلمان في مستقبل المملكة العربية السعودية. بالطبع، هناك قلق يُراود محمد بن سلمان نفسه من أنه قد لا يكون في قمة الهرم لأي سبب من الأسباب، لذلك فهو يعمل بجد لتحويل شكوكه إلى يقين وتأمين مستقبله من خلال طرح رؤية لم يتم تنفيذ أي شيء منها على أرض الواقع.
* عضو في كرسي حقوق الإنسان (اليونسكو)، محلل سياسي
ارسال التعليق