رحلة المثقّفين والإعلاميّين العرب بين الأنظمة
بقلم: أسعد أبو خليل...رحلة المثقّفين العرب بين الأنظمة رحلة طويلة ومتشعّبة. إذ وصلت إلى مرحلة استقرار (أي ولاء مُطلق باتجاه واحد) بعد نهاية النظام العراقي والليبي. انتهت الفرقة في صف الأنظمة العربية، وأصبحت الجامعة العربيّة محلّ تنازع بين النظام السعودي والإماراتي والقطري. أي إن المشروع السياسي الإستراتيجي لم يعد مرتبطاً، لفظياً أو عملياً، بمشروع تحرير فلسطين أو مواجهة إسرائيل. المثقّفون العرب ارتبطوا بعد الحرب العالميّة الأولى بالمشروع القومي العربي الذي جذب إليه النخبة المثقّفة. لكنّ ذلك لم يكن مشروعاً تحرّرياً بالضرورة. ارتبط مشروع القوميّة العربيّة في الحقبة الأولى بالاستقلال عن الإمبراطوريّة العثمانيّة عندما كانت تتعرّض لحرب من دول الغرب. عزّزت دول الغرب من النزعة التحرّرية العربيّة عندما خدمت مشروع الاستعمار الغربي لوراثة الإمبراطوريّة العثمانيّة (مثقّفو لبنان في القرن التاسع عشر الذين نتغنّى بهم لم يُعادوا الإمبراطوريّة العثمانيّة. على العكس، كان الشدياق موالياً وتعرّض للذم من الاستشراق اليسوعي بسبب ذلك).
بعد الحرب العالميّة الثانية والنكبة، تبلور إجماع بين المثقّفين العرب حول فلسطين ومعاداة الغرب. طبعاً، لم ينضووا جميعاً في حركة أو حزب واحد بل انتشروا بين حركات وتنظيمات مختلفة. البعث والناصريّون وحركة القوميّين العرب استقطبوا عدداً من المثقّفين والإعلاميّين العرب، كما استقطبهم الحزب السوري القومي الاجتماعي واليسار الشيوعي العربي. اليسار العربي عانى من ثلاث مشكلات في الاستقطاب: 1) أنه اعتنق عقيدة غربيّة المنشأ وبعيدة عن ثقافة وتراث المجتمع العربي. 2) أن اليسار كان مُثقلاً بخطيئة قبول التقسيم في عام 1947. 3) اليسار الشيوعي عادى عبد الناصر ووقف ضد وحدة الجمهورية العربيّة المتحدة. الحزب السوري القومي الاجتماعي جذب مثقّفين في المشرق العربي، وكانت مناصرة الحزب من دون منافع، لأنه كان حزباً خارج السلطة وطرح شعارات وبرامج جذرية تتطلّب التضحية من المثقّفين. فصلُ الانقلاب على فؤاد شهاب في عام 1961 والقمع الوحشي الذي تلاه أبعدَ المثقّفين عن الحزب، إلا في ما ندرَ، لأن ثمن تأييد الحزب كان باهظاً. البعث نافسَ عبد الناصر في جذب المثقّفين، وخصوصاً عندما لم ينُؤ الحزب بوصمة تجربة السلطة. بعد تسلّم السلطة، لم يعد تأييد المثقّفين للبعث حراً، بل مرتبطاً بالمنافع والمكاسب التي يمكن أن يجنيها من النظام. وليس صدفةً أنّ النّسق العراقي البعثي (الثري) جذب من المثقّفين والإعلاميّين العرب أكثر بكثير من النّسق السوري (غير الثري).
موقع المثقّفين في الحرب العربيّة الباردة (في سنوات الصراع بين عبد الناصر وخصومه من البعث والرجعيّة العربيّة) كان أقرب إلى عبد الناصر بحكم شعبيّته غير المسبوقة. كان صعباً في حينه معاكسة مزاج الجماهير بالنسبة إلى المشروع القومي الناصري. طبعاً، كان هناك المعسكر الرجعي اللبناني والخليجي، وكان له مؤيّدوه المُنتفعون. وفي لبنان، هناك دائماً معسكر تأييد الغرب وحتى إسرائيل (سرّاً أو جهاراً، لا فرق).
بعد وفاة عبد الناصر انقسم العالم العربي وأصبحت مناصرة أنظمة الخليج أقلّ حراجةً، وخصوصاً على الصحافة العربيّة. في الستينيّات، كانت «الصيّاد» و«الحوادث» تؤيّدان عبد الناصر بقوّة لكنهما كانتا تقبضان من أنظمة الخليج. والقبض، كما وصفه سليم اللوزي مرّة، كان بغرض تجنّب نقد تلك الأنظمة لأن مديحها أكثر كلفة (على الأنظمة). ومديح تلك الأنظمة المعارضة لعبد الناصر لم يكن سهلاً، عندما كانت تكفّره وتحاربه وتتآمر عليه. بعد عام 1967، أصبحت ممالأة أنظمة الخليج أقلّ حراجةً، لأن عبد الناصر هادنها بعد الهزيمة بسبب حاجته إلى تمويل المجهود الحربي.
الأكاديمي العربي يستطيع أن يعيش، بصورة عامّة، حياة الطبقة المتوسّطة في معظم الدول العربيّة. الأستاذ في الجامعة اللبنانيّة كان (قبل الانهيار الاقتصادي الأخير) مرتاحاً مادياً، لكن الأستاذ في الجامعة الأميركيّة كان يستطيع أن ينتمي إلى الشرائح العليا من الطبقة المتوسّطة بحكم المرتّب الأعلى. في أميركا، كان الأكاديمي يستطيع أن يؤمّن دخل فرد في الطبقة المتوسّطة، وأن يتقاعد مرتاحاً في الخمسينيّات من عمره. اليوم تغيّر الوضع، وأصبح أستاذ الجامعة (لو أنجبَ) منتمياً إلى الشرائح الدنيا للطبقة المتوسّطة وتأخّر تقاعد الأساتذة إلى الستين والسبعين من العمر (والثمانين في بعض الأحيان بسبب عدم مواكبة زيادة المرتّبات لارتفاع نفقات المعيشة). في العالم العربي، يستطيع الأكاديمي زيادة مدخوله عبر الكتابة في صحافة النفط والغاز. وهناك أيضاً مزايا العمل في مراكز أبحاث ومؤسّسات تابعة لدول الخليج. لكن ثمن الانضواء في تلك المراكز مرتفع جداً أخلاقيّاً وسياسيّاً: على المُنضوي أن يكون مستعداً لتغيير مواقفه بين ليلة وضحاها إذا قرّر الحاكم تغيير وجهة سياساته.
لا أزال أذكر مشهد محطة «العربيّة» في ليلة إعلان حصار قطر في عام 2017. كان ذلك في توقيت بعد منتصف الليل في الشرق الأوسط، لكنّ «العربيّة» غطّت التطوّر الخطير (عن خطاب مزّور لأمير قطر ـــ اتضح بعد تحقيق لمكتب التحقيقات الفدرالي أن الحكومة الإماراتية عبثت بمحتويات موقع وكالة الأنباء القطرية كي تنسب كلاماً لم يقله إلى حاكم قطر). ظهر على الشاشة في تلك الليلة لبنانيّان: رضوان السيّد وغسان شربل (صدفة أن الضيفَين من لبنان أو أن هناك مهارة معيّنة لا يجيدها أكثر من اللبنانيّين في مجال تبييض الصحائف وترويج مضامين دعاية النظام السياسيّة). واحد منهما كان غير مُسرّح الشعر، والنعاس بادٍ على عينيهما، لكن للضرورة أحكام. كان على الضيفَين أن يعلّقا، تحت الطلب، ومباشرةً، على خبر مزوَّر، وأجادا في التعليق واستفاضا في الحديث عن الشنائع القطريّة. طبعاً، عندما تصالح النظامان ترتّب على الضيفَين مسؤوليّات جديدة، وتبخّرت المؤامرة القطريّة الخطيرة. هذه مثل حادث اختطاف واعتقال وتعذيب سعد الحريري، عندما ظهر الإعلامي اللبناني نديم قطيش، على أكثر من شاشة خليجيّة ليستفيض في الحديث عن خبر مزوّر يتعلّق بمؤامرة اغتيال من حزب الله ضد الحريري، وجزم قطيش يومها أن هناك «ذبذبات» التُقطت من قبل أجهزة أمنيّة، وأن الحريري اضطرّ إلى الاحتماء بالسعوديّة. طبعاً، بعد افتضاح الحقيقة لم يحتج قطيش إلى تقديم اعتذار. لا، إن الطلب على هذا النوع من الصحافيّين والأكاديميّين يفترض سرعة في التكيّف مع الخبر (حقيقيّاً كان أم خياليّاً) من أجل مماشاة وجهات سياسة النظام.
بعد وفاة عبد الناصر، تحرّر الكتّاب والأكاديميّون، وأصبح هناك خيارات مُربحة لهم. في زمن عبد الناصر، كان الولاء للنظام مصدر فخر معنوي لأن ذلك تطابقٌ مع أهواء الجماهير. كان النظام المصري يقدّم مواعين ورق إلى بعض الصحف المرضيّة في بيروت، وقدّم بعض التمويل النذير إلى بعضها. مقابل ذلك، كان هناك تمويل سخي جداً من قبل الغرب والخليج لصحف هجاء عبد الناصر، مثل «الحياة» و«النهار» و«العمل» وغيرها الكثير من المطبوعات (أصبحت «الحوادث» في تلك الخانة بعد تحرّر سليم اللوزي من ضغط تأييد عبد الناصر، وكان هو مَن دعا في الستينيّات إلى قتل المحامي محسن سليم لأنه رافع في قضيّة محاكمة قتلة كامل مروّة).
النظام الليبي والعراقي وفّرا فرص عمل إضافيّة في مطبوعات ومراكز أبحاث. افتتح النظام الليبي معهد الإنماء العربي في بيروت، الذي جنّد عدداً من أساتذة الجامعة اللبنانيّة والأميركيّة. الولاء للأنظمة الثريّة كان (ولا زال) مغرياً لأن ذلك يؤدّي إلى: 1) دعوات إلى المشاركة في حلقات ومؤتمرات وندوات في أنحاء مختلفة من العالم. 2) فرصة الظهور على شاشات مموَّلة من تلك الأنظمة. 3) فرصة النشر في مراكز أبحاث ممَوَّلة من تلك الأنظمة. 4) كسب زيادة على الراتب الذي يجنيه الأكاديمي والصحافي. وحتى في أميركا، يستطيع الأكاديمي العربي الذي يتجنّب نقد أنظمة الخليج، أن يأمل بالحصول على الجوائز النفيسة التي تقدّمها بعض المراكز البحثيّة في السعودية والإمارات والكويت (مثل جائزة الملك فيصل في الرياض). قيمة بعض هذه الجوائز بسعر منزل في مدينة أميركيّة.
أذكر العدد الهائل من الإعلاميّين والأكاديميّين الذين شاركوا في نقاشات لا نهاية لها عن «الكتاب الأخضر». وكان المشاركون يتصنّعون الجديّة في التعامل مع الكتاب على أنه في مستوى كتاب رأس المال لماركس أو كتب لينين. «السفير» نشرت الكثير عن نقاشات في «الكتاب الأخضر». وهناك عدد من الكتب نشرها أكاديميّون عرب عن «الكتاب الأخضر» بالعربيّة وغيرها من اللغات. سألت الأكاديمي الراحل محمود أيّوب، عن سبب تأليفه بالإنكليزية لكتاب عن «الكتاب الأخضر». أشاح بيده أن لا أعير اعتباراً للكتاب، وقال إنه كتبه فقط لسبب مادّي محض. الصحافي اللبناني فؤاد مطر، نشر في مديح نظام وشخصيّات عبد الناصر، قبل أن يتخصّص في مديح نظام صدّام حسين وشخصيّات نظامه (وأسّسَ له النظام مجلّة «التضامن» في لندن)، ثم حوّل مطر وجهته نحو الرياض وكتب الكثير في مديح حكّام آل سعود.
الأنظمة الفقيرة لا تستطيع أن تجذب عدداً كبيراً من الكتّاب والأكاديميّين، لكن حتى هؤلاء يموّلون إنتاجاً تبجيليّاً في مصلحتهم. وقد نشر المنصف المرزوقي كتاب «منظومة الدعاية تحت حكم بن علي: الكتاب الأسود» وفيه الكثير عن تمويل النظام التونسي لزين العابدين بن علي لكتّاب وصحافيّين وأكاديميّين في العالم العربي (طبعاً، لبنان نال حصّته وكسب من النظام كتاب وإعلاميّون من 14 آذار ومن 8 وآذار وألَّف مروان فارس، القيادي في الحزب السوري القومي الاجتماعي، كتاباً في مديح النظام التونسي). الظاهرة ليست حكراً على العالم العربي. يستطيع الأكاديمي أن يكسب تمويلاً إضافيّاً من مراكز أبحاث ومن حكومات غربيّة وعربيّة. والنظام السعودي والإماراتي والقطري اخترقوا ساحة مراكز الأبحاث في العاصمة واشنطن بعد أن كان تمويل تلك الأنظمة محصوراً في الماضي في المراكز المتخصّصة في شؤون الشرق الأوسط، والتي كانت تحمل همّ القضيّة الفلسطينيّة ومواجهة اللوبي الإسرائيلي (مثل مؤسّسة الشرق الأوسط والتي تحوّلت بعد تدفّق التمويل السعودي والإماراتي إلى مركز تابع للمصالح الخليجيّة، وانتقلت المؤسّسة من منزل قديم كمقرّ إلى مبنى حديث وفسيح).
الاستقلال السياسي للمثقّفين العرب يحتاج إلى تضحية. لن يجوع المثقّف الذي لا يوالي أنظمة الخليج والذي يؤيّد مقاومات إسرائيل. الخيار ليس بين الجوع والعيش الكريم. لا، الخيار هو بين العيش الكريم وبين صعود السلّم الطبقي والتمتّع بالامتيازات. في دول الخليج، المثّقف يعيش في وضع مادي مريح، لكنه ينال أكثر لو جاهر بالتملّق للحاكم وسخّر صفحته على المواقع للدفاع عن الحاكم حتى في التحالف مع إسرائيل. لو أن النظامَين الليبي والعراقي استمرّا في الحكم، لكان هناك خيار أمام المثقّف الساعي إلى المزيد من المكاسب. ليس من خيار اليوم، إلا الاستقلال الفكري بعيداً من الأنظمة أو كسب الامتيازات مع دفع ثمن باهظ في الكرامة.
ارسال التعليق