لماذا انخفض الحماس الخليجي للتطبيع
بقلم: عباس الجمري...
ذلك لا يعني خروج الدول الخليجية على بيت الطاعة الأميركي، لكن تموضعها في بيت الطاعة نفسه بات مختلفاً.
تفهّم موقف السلطات السعودية من المسافة التي كادت أن تكون لصيقة مع "إسرائيل"، وتبدل تلك المسافة في اتجاهات أخرى، يتطلب فهم الوضع العالمي لـ"إسرائيل" أولاً، من ثم تموضعها الإقليمي ثانياً.
السلطات السعودية إلى الآن لم تتخل عن التطبيع، وقد سرّبت صحف أميركية قبل أسابيع أن للرياض شروطاً لإقدامها على مشروع التطبيع، من أهمها تقبل الولايات المتحدة خاصة والغرب عامة إنشاء برنامج نووي سعودي للأغراض السلمية.
لكنّ بقاءها في الدائرة الأميركية وقبول التطبيع مع تحقق الشروط، لا يعنيان أن التموضع السعودي بقي كما كان، إذ إن هناك مؤشرات عديدة، تولّدت بعد الحرب الروسية مع حلف "الناتو" في أوكرانيا، وهذه المؤشرات تتصاعد وتكثر كمّاً وكيفاً كلما مُني "الناتو" بخسارة، فالحرب الدائرة أعمق من عراك عسكري أو تقاتل على احتلال أرض، بل هي حرب جيوسياسية مستعرة لا تزال دول تتقاطر على التأثير فيها، من أهمها الصين وإيران.
وقد نشرت مجلة "فورين بوليسي" يوم الثلاثاء 6 حزيران/يونيو الجاري أن ست دول اتخذت موقفاً حيادياً بين معسكر روسيا/الصين ومعسكر "الناتو"، ضمنها السلطات السعودية، وصفتها المجلة بالدول المتأرجحة، وتُرجع المجلة سبب ذلك إلى الخارطة العالمية المتغيرة على مستوى القوة الجيوسياسية، وتضيف: أنّ هذه البلدان اليوم، تتمتع بالمزيد من القوة، واستفادت من الهيكلة الإقليمية، بالإضافة إلى قدرتها على الاستفادة من التوترات بين واشنطن وبكين."
والصين التي لعبت دوراً محورياً في تقريب وجهات النظر بين الرياض وطهران، واستطاعت الوصول إلى مرحلة إعادة العلاقات الدبلوماسية، بل إن الأمر تطور إلى إعلان طهران إنشاء حلف بحري يضمن أمن الملاحة الإقليمي يضم عدداً من الدول منها دول خليجية، متغيّرات بدّلت العديد من المعادلات التقليدية، و على سبيل المثال، فقد أثار وسائل الإعلام الإسرائيلية الحلف البحري الإيراني - الخليجي، ووصفت الأمر بأنه كارثة، وقالت بعض الصحف المقربة إلى الليكود إن "إسرائيل" تُركت وحدها، وأن "الإمارات الراعية لاتفاقيات التطبيع تبتعد عن الولايات المتحدة، وهي على وشك أن تنضم إلى قوة بحرية جديدة بقيادة طهران".
مجدداً أقول إن ذلك لا يعني خروج الدول الخليجية على بيت الطاعة الأميركي، لكن تموضعها في بيت الطاعة نفسه بات مختلفاً، وهو أقرب إلى باب الخروج، وما تنتظره الدول الخليجة كونها محميات بريطانية سابقاً وأميركية حالياً هو سقوط الكوبوي الأميركي من على صهوة هيمنته وانشغاله بتضميد جروحه، حينها ستخرج دول الخليج كلياً من باب بيت الطاعة الأميركي.
في هذا الوضع الذي يبدو مربكاً ومرتبكاً بل ومشتتاً أحياناً أخرى، يتفهم المرء هذه الرمادية التي تطفو على مواقف الدول المتوسطة، ذات التأثير المهم وفي الوقت نفسه لا يمكن أن تنفرد بموقف صلب من دون ظهر دولي، هذه الرمادية متفهمة لئلا تعصف بها أمواج حيتان العالم وقروشه، وهنا يستفيد السياسي الحاذق ذو النفس الطويل من هذا الوضع من خلال التأثير السياسي من جهة، خصوصاً من تلك الدول ذات الثقل الاقتصادي كالسلطات السعودية والبرازيل والهند، ومن جهة أخرى، نسج تحالفات جديدة لم تكن متاحة في ظل هيمنة محور أميركا عليها في السابق.
كل ذلك التوصيف والجمع بين التقارير التي تنشرها وسائل الإعلام الغربية والإسرائيلية تدفع إلى استنتاج التبدلات، لكن الأهم هو معرفة أن هذه الانزياحات الدولية تكرّس تراجع الولايات المتحدة الأميركية أكثر فأكثر، وتالياً تراجع دور "إسرائيل" في المنطقة.
ومن الواضح أن واشنطن و"إسرائيل" في وضع هو الأسوأ، خصوصاً الكيان المحتل، الذي تنعكس أزماته الداخلية على وضعه الخارجي كونه كياناً مصطنعاً يحتاج إلى الكثير من العوامل الإضافية والاستثنائية لكي يعيش بين الدول كـ"دولة"، والدولة المصطنعة عوامل سقوطها أكثر من عوامل سقوط الدول الطبيعية والراسخة.
وعليه، فمن المتوقع أن تعمل السلطات السعودية على التفاوض المبتز لحاجة "إسرائيل" إلى التطبيع، خصوصاً بعد تزايد أعمال المقاومة المنفردة سواء داخل الأراضي المحتلة أو على الحدود مع دول الطوق.
التراجع الإسرائيلي ينظر إلى كل ذلك في كفة، وفي كفة أخرى، يراقب التطور النوعي والسريع للآلة العسكرية والأمنية في الجمهورية الإسلامية، حيث مثّل الكشف عن صاروخ "فتّاح" الفرط صوتي منذ أيام حالة من الهلع في الإعلام الإسرائيلي الذي وصف إيران بالقوة العظمى التي لا يمكن لــ "إسرائيل" أن تواجهها أبداً.
تضييق الخناق على الكيان المحتل، سواء بعوامل دولية ذات أسباب غير مباشرة بالكيان، أو بعوامل مباشرة عمل عليها محور المقاومة لعقود طويلة، هذا التضييق يؤتي أكله في الآونة الأخيرة، إذ ترسخت قناعة لدى اللاعبين الدوليين والشعوب على حد سواء أن أي حرب كبرى مع الكيان الغاصب ستكون حرباً نهائية لوجوده، وهذه القناعة قلصت التعويل على الكيان في الإسهام الملموس في حماية العروش الخليجية، عبر أجهزته الاستخبارية المتطورة والآلة العسكرية التي ظاهرها أنيق وباطنها عتيق.
من هنا، تستخدم طهران نفسها الطويل المعتاد لتجسير الهوة مع دول الخليج، حتى تلك الأكثر عداءً لها كالسلطات السعودية التي لا تزال تدوس الملف الحقوقي للطائفة الشيعية في الإحساء والقطيف، هذا النفس الطويل بمنزلة ترويض الأفعى للوصول إلى أنياب السم والتعامل معه بما يناسب الموقف والظرف، وهذا النوع من التكتيك هو المعمول به في لعبة الشطرنج شديدة التعقيد.
إذاً، الرهان الإسرائيلي على دول الخليج انخفض كثيراً، وباتت المشكلات التي يواجهها الكيان أكبر من أن تسعفه دول الخليج التي قلّ حماسها للتطبيع، وإن لم ينته مشروع التطبيع مع الخليج بشكل نهائي، بل إن التطبيع مع بقية دول الخليج عموماً و السلطات السعودية خصوصاً آت، لكن لن يمثل الثقل السابق ذاته كما لو كان قبل كل هذه المتغيرات المذكورة.
ارسال التعليق