محمد بن سلمان يستثمر في الوقت الضائع
لم يعد هناك مجالاً للشك بأن أزمة أوكرانيا ناتجة عن تصور روسيا للتهديد الذي مثَّله توسع حلف الناتو في دول المجال السوفيتي السابق (حلف وارسو)، وعدد من الدول التي استقلت عن الاتحاد السوفيتي، واقتراب الحلف الحثيث من حدود روسيا الاتحادية.
عارضت روسيا من البداية سياسة توسع الناتو، وعندما لاحظت بوادر تقرب جورجيا من الحلف في 2008، قامت بعملية عسكرية سريعة، استهدفت تدمير مقدَّرات جورجيا العسكرية وتأمين استقلال أبخازيا وأوسيتيا المنشقتين. ولكن التهديد الأوكراني لم يولد إلا بعد ثورة 2014، التي أطاحت بالرئيس الأوكراني الموالي لروسيا، وتوجه كييف للالتحاق بالناتو والاتحاد الأوروبي. تحرك روسيا لضم شبه جزيرة القرم وتشجيع الأوكرانيين الروس في إقليم دونباس على الانشقاق، كان نتيجة مباشرة للتغيير السياسي الكبير الذي أحدثته ثورة 2014 في حكم أوكرانيا وفي توجهها الغربي.
يأتي الملف الأوكراني إذاً كمُكمّل لباقة من المتغيرات التي شهدتها الساحة الدولية والإقليمية، لعل أبرزها الضبابية والابتعاد الأميركي عن ملفات الشرق الأوسط، وقرب الإعلان عن توقيع الاتفاق النووي مع إيران، وطول أمد العدوان على اليمن دون أي هدف محقق بالتوازي مع عودة سوريا التدريجية إلى المجال "العربي".
في ضوء ذلك، يحاول محمد بن سلمان اللعب على وتر التناقضات بما يكفل وصوله إلى العرش بأقرب وقت ممكن وبضمانة دولية وغربية بعدم عرقلة المسار.
حيث يسجل تقارب سعودي- روسي في غمرة الحرب على أوكرانيا، فسجل اتصالين جمع بن سلمان والرئيس الروسي فلاديمير بوتين منذ بدء الحرب على أوكرانيا في 24 فبراير/شباط، بعد أن جرى الاتصال الأول في 3 مارس/آذار الماضي.
وقالت وكالة الأنباء "السعودية"، إن "بن سلمان" تلقى اتصالاً هاتفياً من "بوتين"، تضمن بحث العلاقات الثنائية التي تجمع البلدين، وسبل تعزيزها في مختلف المجالات، بما يحقق مصالح البلدين والشعبين الصديقين.
وأكد "بن سلمان"، خلال الاتصال مساندة "المملكة" للجهود التي تؤدي إلى حل سياسي للأزمة في أوكرانيا ويحقق الأمن والاستقرار.
أما بيان الكرملين، فقد كان أكثر تفصيلا، حيث ذكر أن "الزعيمين ناقشا عددا من الملفات الثنائية والدولية الملحة، منها النزاعان في اليمن وأوكرانيا".
ولفتت الرئاسة الروسية، أن الاتصال بين "بوتين" و"بن سلمان"، جرى بمبادرة من الجانب السعودي، استعرض "المسائل الملحة المتعلقة بالتعاون الثنائي، خصوصا في المجال الاقتصادي والتجاري". وأضاف البيان: "أعرب الجانبان عن سعيهما المشترك إلى مواصلة تطوير الروابط متبادلة المنفعة" بين الدولتين.
وأشاد الرئيس الروسي و"ولي العهد السعودي"، وفقا للبيان، بالعمل المشترك الجاري ضمن إطار تحالف "أوبك+" بهدف ضمان استقرار أسواق النفط العالمية. وتابع البيان: "تم تبادل الآراء إزاء عدد من الملفات المطروحة على الأجندة الدولية، منها الوضع حول أوكرانيا والتسوية في اليمن".
شهدت العلاقات بين الرياض وموسكو خلال العقد الأخير موجات متلاطمة من المد والجزر في ظل التباين الكبير في المواقف والتوجهات إزاء العديد من الملفات، أبرزها الملف السوري حيث الخصومة الواضحة والوقوف على طرفي نقيض، كذلك الملف الليبي الذي عزز تلك الفجوة.
لكن سرعان ما شهدت الأجواء تغيرات جيوسياسية كان لها أثرها في رسم تموضعات جديدة للقوى الإقليمية، حيث دخل الطرفان نفقًا من التناغم مع بداية أزمة أوبك والحديث عن تخفيض الإنتاج للحفاظ على التوازن النسبي في ظل الهزة التي شهدها سوق النفط مع جائحة كورونا، البداية كانت مع الاتفاق المشترك للحد من فائض المعروض النفطي في السوق العالمية عام 2016، ثم القرار الثلاثي من إيران وروسيا و"السعودية" خفض إنتاج النفط لمدة عام تقريبًا" منذ مايو/آيار 2017، وهو الاتفاق الذي يعد الأول من نوعه في التاريخ بين دولتين متنافستين في منظمة البلدان المصدرة للبترول (أوبك) ودولة أخرى من خارج الكيان.
شكل التحول الذي شهده الموقف الأمريكي حيال الملف السوري أحد أبرز السياقات التي يُقرأ من خلالها التقارب "السعودي" الروسي، فالتغير الطارئ على السياسة الخارجية الأمريكية إزاء هذا الملف وتجاهل الضغوط "الخليجية" و"الإسرائيلية" لتوجيه ضربة عسكرية على سورية والإقرار شبه الرسمي بالنفوذ الإيراني الذي تنظر إليه الأطراف كتهديد للأمن القومي ومصالحها هناك دون اتخاذ أي إجراء عملي.
ثم جاء قرار تعليق بيع الأسلحة الأمريكية "التي تم الفاوض عليها مع إدارة ترامب السابقة – "للسعودية"، وتجديد إدارة بايدن اهتمامها بعودة الاتفاق النووي، واستمرار موجة الانتقادات بسبب حادثة خاشقجي" ووقف دعم الحرب على اليمن ثم الانسحاب من أفغانستان، كل هذه المؤشرات ساهمت في تعكير الأجواء بين البلدين.
استقر في يقين الرياض أن الانكفاء على واشنطن كحليف قوي في مواجهة "الخطر" الإيراني بات رهانًا محفوفًا بالمخاطر، في ظل تلك السياقات الإقليمية والدولية التي تعززت مع قدوم الإدارة الأمريكية الجديدة بقيادة جو بايدن، الرامية إلى التقارب مع طهران وإعادة إحياء الاتفاق النووي الذي انسحب منه الرئيس السابق دونالد ترامب، الأمر الذي كان بمثابة قوة الدفع الكبرى نحو البحث عن شركاء آخرين.
بدأت الرياض في اعتماد إستراتيجية ثنائية جديدة إزاء تلك التطورات، البعد الأول يتعلق بإعادة التموضع في الداخل الأميركي من خلال إعادة ترتيب الأوراق والتحالفات مع الحزب الجمهوري بعد أن قدمت ما تعتبره كتنازلات تمثلت في الاستجابة للمصالحة مع قطر والبدء في مناقشات مع طهران برعاية العاصمة العراقية، فيما جاء البعد الثاني اقتصاديًا في المقام الأول، حيث توسيع تعاونها في مجال الطاقة وتعزيز العلاقات مع الكيانات النفطية الكبيرة في المنطقة، في المقدمة منها روسيا.
تمرّد بن سلمان يشغل إدارة بايدن:
يدور النقاش داخل الإدارة الأميريكة حول كيفية التعامل مع محمد بن سلمان بعد أن صار مصدر كبير لها على خلفية توجُّس الديموقراطيين من تأثيرات حَرَد وليّ العهد السعودي، على الانتخابات الأميركية، سواءً النصفية في نوفمبر/تشرين الثاني المقبل، أو تلك التي تجري عام 2024 وتشمل الرئاسة، خاصة أنّ الجمهوريين يستغلّون الخلافات بين الرئيس جو بايدن وبعض قادة الخليج، مستفيدين من ارتفاع أسعار النفط وتأثيرها على حياة الأميركيين اليومية، كما على الاقتصاد الأميركي. وتُراوح المواقف بين مَن يدعو إلى فرض عقوبات على ابن سلمان، ومَن يقول بالعمل على تهدئة مخاوفه. لكن يتكشّف أنّ ما يرضي وليّ العهد السعودي، لا يقلّ عن العودة عن كلّ السياسات التي اعتمدتها الولايات المتحدة خلال السنوات الخمس عشرة الماضية، ناحِيةً في اتّجاه الخروج من التورّط المباشر في الصراعات المكلفة في الشرق الأوسط، بل يتعدّى ذلك إلى توريطها في الصراعات الداخلية للبلاد.
تعتقد "السعودية"، أن بالإمكان اغتنام الفرصة الحالية المتمثّلة بحرب أوكرانيا وارتفاع أسعار النفط، لفرض "مأسسة للضمانات الأمنية" الممنوحة لهما من قِبَل الولايات المتحدة، لتصبح ملزمة أكثر للأخيرة، بما يشمل مشاركتها كمّاً أكبر من المعلومات الاستخبارية، وإجراء المزيد من التدريبات العسكرية المشتركة، ووقف الضغط على قيادة البلد في ملفّ حقوق الإنسان، بمعنى عدم ممانعة كلّ ما تفعله لسحق المعارضة الداخلية فيها، وإعادة تفعيل صفقات الأسلحة وتقديم مزيد من الدعم العسكري والسياسي لـ"تحالف" العدوان على اليمن، وأخذ مصالحها بالاعتبار أثناء التفاوض مع إيران على العودة إلى الاتفاق النووي.
في آتون الصراع الغربي مع روسيا، تستثمر كل من الرياض وموسكو الودّ والتقارب كتصفية حساب مع واشنطن، مع إدراك كلا الطرفين حدود هذه العلاقة وخطوطها الحمراء كما مدى صلاحياتها ومحدداتها ربطاً بالتطورات الدولية.
يدرك بن سلمان أن وصوله إلى العرش لن يتم دون الضوء الأخضر الأميركي، لكنه يراهن على زعزعة الواقع السياسي لجو بايدن ومن خلفه الحزب الديمقراطي، فيتبنى سياسة الضغط خلال الفترة الفاصلة بين الانتخابات النصفية والانتخابات الرئاسية، كما التلويح بالقدرة على الاستغناء وعقد تحالفات مع خصوم واشنطن في آسيا (روسيا والصين) على الجانبين الاقتصادي والعسكري.
ارسال التعليق