نيران بن سلمان “الصديقة” تطيح بسعد الحريري
أرسى قرار “تعليق” سعد الحريري عمل تياره السياسي واقعاً غير مألوفاً في سياق التركيبة السياسية اللبنانية القائمة على التوزيع الطائفي لكل مفاصل الدولة.
وبالرغم من كل المؤشرات التي سبقت الإعلان الرسمي للاعتزال المؤقت، حسب تصريح الحريري الإبن، إلا أنه بلا شك أحدث بلبلةً سياسيةً وشعبيةً بالنظر إلى تأثيراته القريبة والبعيدة الأجل.
منذ اختطاف سعد الحريري في “السعودية”، عام 2017، حين كان رئيسا لحكومة ميشال عون الأولى، والتي أعلن عن تشكيلها إثر تسوية تضمن وصول الأخير إلى الرئاسة وتولي سعد رأس السلطة التنفيذية في البلاد.
منذ ذلك الحين، بانت نقمة محمد بن سلمان للعيان، وعدم رضاه عن أداء الوريث السياسي للحريرية، خاصة بُعيد إجباره على تقديم استقالته عبر فيديو مصوّر نشر على قناة سعودية، الأمر الذي أثار ضجة كبيرة في الأوساط الداخلية اللبنانية، من داخل بيت الوسط قبل “الأغيار” على الساحة اللبنانية.
إن كل ما تلا التاريخ المذكور أعلاه، كان يشي بقرب أجل الحريرية السياسية في لبنان.
وبالتالي لم يكن الإعلان إلا الخطوة النهائية لاختتام مسار طويل من الممارسة السياسية التي دشنها رفيق الحريري عام 1992.
إضطراب العلاقات الداخلية والخارجية حاصر الحريري إفلاس على المستوى السياسي- الشعبي، كما هو على المستوى المادي. وفي الحديث عن اضطراب علاقاته الداخلية، فقد سجل أشرف الريفي أوّل المنشقين عنه من قلب ساحته السنيّة، واستطاع الأخير أن يسجل نصرا في الانتخابات البلدية بدعمه للائحة بعينها في الشمال، لكنه فشل في تسجيل أي خرق في الانتخابات النيابية الأخيرة عام 2018.
كما أن حلفه مع الحزب المسيحي الثاني، حزب القوات اللبنانية، لم يعمّر طويلاً بعدما طعن سمير جعجع حليفه السني إبّان محنة اختطافه، وكشف مدى تواطئه لعزل الحريري.
حيث كان جعجع قد التقى بن سلمان أواخر أيلول من العام نفسه، وأقاما جردة حساب للعام الأول من عهد ميشال عون وحكومة الحريري، وأكد خلالها جعحع لمضيفه “السعودي” بأن الحريري لم يعد يصلح لمواجهة حزب الله.
وأسهب في الشرح عن تفاهمات سعد ولقاءاته مع قيادات في الحزب، وارتباطه بتفاهمات مع رئيس الجمهورية. والحريري تطبّع معها ولم يعد قادراً على التراجع عنها.
وختم مطالعته بالقول إن الحريري عاجز عن قيادة جبهة مواجهة الحزب، والقيام بهذه المهمة يقتضي البحث عن شخصية سنية أخرى، تستطيع العمل ضد حلفاء إيران في لبنان.
غادر جعجع الرياض إلى أستراليا، وبدأ من هناك عزف نغمة الاستقالة من الحكومة، محرِجاً الحريري عبر المزايدة عليه في ملف “التطبيع مع النظام السوري”.
وبعد أشهر على موافقة وزراء القوات على التشكيلات الدبلوماسية، ومن ضمنها تعيين سفير في دمشق، فجأة، اختُرِعَت قضية اسمها “توقيع الحريري على قرار إرسال السفير سعد زخيا لتقديم أوراق اعتماده للرئيس السوري بشار الأسد”.
ودخل وزراء جعجع جلسة مجلس الوزراء (2 نوفمبر/تشرين الثاني، قبل يومين من إجبار الحريري على الاستقالة) ليعلنوا تحفّظهم عن الخطوة التي شاركوا في صنعها! لم يجد الحريري وفريقه التقاط الإشارات، ووضعوها في خانة التزخيم الانتخابي.
أما على الضفة الخارجية، فقد ساهمت مشاكل الحريري المالية في توهين علاقاته، فضلاً عن غياب الملف اللبناني كأولوية عن معظم جداول أعمال الدول الغربية وعلى رأسها الولايات المتحدة الأميركية وفرنسا. هذا وقد تمكن الفيتو السعودي على سعد الحريري منه، وقضى على معيله التاريخي وداعمه الأول.
فلم يستطع وريث الحريرية السياسية من مجاراة محمد بن سلمان في نزعته التدميرية للاستقرار النسبي الذي كان سائداً، والإذعان لأوامر ترتبط بالتضييق على حزب الله ومحاربته من داخل الحكومة. وتأتي زيارة وزير الخارجية الكويتي أحمد ناصر الصباح، الأسبوع الماضي، لتؤكد نيّة النظام السعودي بتأطير العلاقات مع دول الخليج عبر الوسيط الكويتي، وتضمين الزيارة 12 شرطاً لإعادة “تطبيع” العلاقات مع لبنان.
تركز “المبادرة” على المستحيلات، منها التزام لبنان باتفاق الطائف ونزع سلاح حزب الله وتعزيز سلطة الدولة اللبنانية على أراضيها ومنافذها وفق القرارات الدولية، وعلى انكفاء حزب الله عن دوره الإقليمي وأن لا يكون لبنان منصة تُستخدم ضد دول الخليج أو الدول العربية. يتبنى محمد بن سلمان سقف مطالب عال جدا، ليس أملاً في الضغط لتنفيذها، بل للقول بأن حزب الله يتحمل مسؤولية كل ما يعيشه الشعب اللبناني من أزمات نقدية واقتصادية واجتماعية. وبذلك يستمر الضغط السعودي ومن ورائه الخليجي بذريعة “إرهاب” حزب الله ودوره إلى جانب إيران في السيطرة على قرار لبنان، بحسب السرديات الشائعة في الفترة الأخيرة.
عن قصص الإفلاس وفي سياق حالة الإفلاس التي يعيشها الحريري، لم تسلم “جيبته” أيضا.
فبعد أن تمت تصفية شركة “سعودي أوجيه” المملوكة له، استمر المسلسل نفسه لشركاته في تركيا بعد أن عجزت شركته “أوجيه” التركية عن خدمة قرض ضخم يقارب الخمسة مليارات دولار كانت قد استلفته عام 2013، في قمّة ازدهار السوق التركية، واضعةً أسهمها في “تورك تيليكوم” ضمانة للدين.
كامل حصّة الحريري في “تورك تيليكوم” لم تكف لسداد قيمة القرض، وهذا يُظهر أبعاداً جديدة لأزمة الحريري و”أوجيه” المالية، ولصرف الآلاف من اللبنانيين من شركات الحريري المختلفة، من بينهم مئات الإعلاميين، اللذين ينتظرون رواتبهم المتأخرة وتعويضات صرفهم.
أما في ما يتعلق بالديون المتوجبة على رئيس الحكومة لدولة الإمارات، فقد عمد الحريري إلى بيع آخر عقاراته في “السعودية” وبعض ممتلكاته في أوروبا، حيث تمكن من توفير المبلغ المالي المطلوب والذي يقارب الـ300 مليون دولار، لولي عهد أبو ظبي محمد بن زايد، الذي كان قد نال شيكاً مؤجلاً من الحريري، تبين له لاحقاً أنه من دون رصيد، فكان أن أعطى الأمر بتوقيفه في حال دخوله إلى الأراضي الإماراتية.
كل ما ورد يأتي بالتوازي، مع إغلاق مؤسسات الحريري الإعلامية، حيث كانت البداية مع صحيفة المستقبل التي أقفلت أبوابها مطلع العام 2019، والتي لحق بها في سبتمبر/أيلول من العام نفسه إغلاق تلفزيون المستقبل، وختم الأمر مع صحيفة “دايلي ستار” الناطقة باللغة الإنكليزية.
الحريري يخشى المنافسة في الساحة السنيّة! إن انسحاب تيار المستقبل من الانتخابات المنظرة في مايو/أيار المقبل سيترك شغوراً على الساحة السنيّة، باعتبار أن باقي القوى الموجودة تعاني لكونها قوى مناطقية أكثر مما هي شاملة لمساحة الوطن.
إلا أن ما ورد لا يستثني إقدام عدد من الشخصيات للنظر إلى هذه الخطوة من بوابة كونها فرصة لا بد من استغلالها للوصول. وقد طالع شقيق سعد، بهاء الحريري، أمس الأول، جمهوره في بيان قرار دخوله المنافسة السياسية وتوليه استكمال مسار والده.
قائلاً “أي تضليل أو تخويف من فراغ على مستوى أي مكون من مكونات المجتمع اللبناني يخدم فقط أعداء الوطن”.
وأضاف: “فما بالكم التخويف بالفراغ في أكبر طائفة في لبنان التي لي شرف الانتماء إليها”، مشيرا إلى أنه سيتوجه إلى لبنان قريبا.
وختم قائلا: “عائلة الشهيد رفيق الحريري الصغيرة كما عائلته الكبيرة لم ولا ولن تتفكك بالشراكة والتضامن”، مشيرا إلى أنه “سيخوض معركة استرداد الوطن واسترداد سيادة الوطن من محتليها”.
إن الفراغ على مستوى القيادة في الطائفة السنية، يعد عاملاً مقلقا لناحية احتمالية دخول الجماعات الإسلامية البازار السياسي، خاصة في حال تلقيها دعماً مالياً للاستناد عليه.
بالإضافة إلى تعويل سمير جعجع، الذي لم يخجل في الإفصاح عنه عبر صفحته الرسمية على تويتر، من أنه بالرغم من “التباينات التي اعترت العلاقة مع الرئيس سعد الجريري، إلا أننا نصرّ على التنسيق معهم ومع كل أبناء الطائفة السنية في لبنان..”.
وكان في وقت سابق قد صرّح أن ” الأكثرية السنية هم حلفاؤنا بطبيعة الحال على المستوى الشعبي لا القيادي، وكل من لديه نفس طروحاتنا سيكون هناك انسجام معه، والأمور لم تعد تحتمل هدنات”.
وعلى إثر ذلك، طالب الأمين العام لتيار المستقبل أحمد الحريري، رئيس حزب القوات اللبنانية، بترك الأكثرية السنية والتوقف عن شق الصفوف بينها وبين قيادتها السياسية.
وبدا من تصريح الحريري حجم الاحتقان “المستقبلي” تجاه جعجع بسبب فصله “بين الأكثرية السنية وبين قيادتها السياسية”، معتبراً أنّ المقصود بهذا الفصل «حتماً تيار المستقبل”، ما يشي بتخوّف لدى التيار الأزرق من استحواذ جعجع على الأصوات السنية واستغلاله تراجعه وغيابه عن الساحة.
واعتبر الحريري أنّها ليست المرة الأولى التي يحاول فيها جعجع “الفصل بين الأكثرية السنية وبين قيادتها السياسية، إذ يعتبر أنّ الأكثرية السنية حلفاء له على المستوى الشعبي وليس على المستوى القيادي”، معتبراً أنّ “المقصود بهذا الفصل حتماً تيار المستقبل وقيادته، إلا إذا كان د. سمير جعجع يعتبر أنّ بعض الفتات السياسي الذي يغازل معراب بات يشكّل أكثرية يُعتدّ بها وفي الإمكان تجييرها بالجملة أو المفرق كي تصبح تحت خيمة القوات”.
ووجّه الحريري “نصيحة من حليف سابق للحكيم”، قائلاً: “إلعب في ملعبك كما تشاء وعش الأحلام التي تتمناها، لكن اترك الأكثرية السنية بحالها وتوقّف عن سياسة شق الصفوف بينها وبين قيادتها السياسية، النصيحة كانت بجمل لكنها اليوم ببلاش!”.
سيؤدّي خروج الحريري من المشهد السياسي على الأرجح إلى إثباط عزيمة السنّة أو تشرذم أصواتهم، ما سيفسح المجال أمام خصوم الحريري، للحصول على مقاعد إضافية.
يأتي كل ذلك في سياق معضلة إقتصادية ونقدية يعاني منها لبنان منذ أكتوبر/ تشرين الأول 2019، وفي ظل انهيار مالي لم يعرفه منذ تأسيسه.
إن انسحاب الحريري من الحياة السياسية في نهاية المطاف، هو بطريقة ما مؤشر على دخول لبنان رسميا القائمة “السعودية” للتشفي.
ارسال التعليق