ما لم يقله بندر بن سلطان… للشعب السعودي!
التغيير
ابتداءً، لا حاجة للقول بأن حلبة السجال الإعلامي بين أي خطاب فلسطيني، أو غير فلسطيني مع الامبرطورية الإعلامية التابعة لآل سعود، المدججة بفضائيات وجيوش إلكترونية، وصحف عابرة للحدود، وجحافل من الإعلاميين الذين يرددون الخطاب الرسمي، هي حلبة مجحفة وغير عادلة. ونشهد كيف تنتفض هذه الترسانة، كلما فتح أحد فمه بما لا ينسجم مع الخط الرسمي للمملكة (الذي صار شبه مقدس ويحظر نقده)، وهي ترسانة لا تعبر عن ملايين المواطنين في المملكة ، الذين يُراد لهم ان يسمعوا صوتاً واحد فقط، ويروا لونا واحد فقط.
لو اتسم أصحاب هذه الترسانة في حملتهم ضد الفلسطينيين وتاريخهم بالحد الأدنى من فروسية الصحراء، أو أخلاق البادية، أو المهنية الإعلامية، أو الحرص على أن تصل الحقيقة فعلا للشعب في المملكة ، فإن على قناة "العربية" منح الفرصة لمؤرخ فلسطيني، أو عربي ليقدم وجهة النظر المغايرة، في ثلاث حلقات والفترة الزمنية نفسها. نعرف أن ذلك لن يحدث لأسباب يعرفها الجميع، ونعرف أيضا أن الاستئساد على الفلسطيني هذه الأيام هو الطريق الأسهل لتسجيل بطولات خرقاء وزائفة، ولأنه الطريق الأقصر لتل أبيب وإرضاء سيد البيت الأبيض. ونعرف ويعرف الجميع أن ليس من البطولة ولا الشجاعة ولا النبل، أن يتم تقييد الفلسطيني ثم توجيه اللكمات المتلاحقة إليه، وعدم تمكينه من الرد، لكن هذا هو الواقع.
ورغم إجحاف حلبة الإعلام، تحاول هذه السطور استنطاق بعض (فقط بعض) المسكوت عنه في حديث بندر بن سلطان، وجزء منه موجه أيضا للشعب في المملكة، الذي وجه الأمير خطابه التضليلي له. انتهت الحلقات التشهيرية الثلاث إلى خلاصات واضحة: على الشعب في المملكة أن يتبنوا نهج المصلحة السياسية الخاصة ببلدهم، بغض النظر عن أي اعتبارات أخرى (أي التزامات تجاه فلسطين، أو أي قضايا أخرى قد يراها بندر واتجاهه، عقبة في وجه تحقيق الأهداف السياسية للمملكة). كذلك يجب انتهاج سياسة المكاشفة والمصارحة والتوقف عن المجاملات، ويجب نبش التاريخ وعرضه أمام الشعب. وهذه العملية تبدأ بالتركيز على القيادات وكشفها وتعرية سياستها والإشارة إلى فشلها.
في هذه السطور سوف التزم بخلاصات بندر بن سلطان في المصارحة والمكاشفة، وفي مساءلة القيادات في المملكة حول مسؤوليتها في الفشل والدمار الإقليمي، الذي نعيشه الآن، ومن دون مجاملة. من حق بندر بن سلطان أن ينظّر للسياسة المملكة ومصلحتها، لكن ليس من حقه تشويه الحقائق وتضخيم الموضوع الفلسطيني على الأجندة لآل سعود، بحيث تبدو فلسطين وكأنها العقبة الكبرى التي أحبطت انطلاقة المملكة سياسيا وإقليميا ودوليا إلى الأمام.
هذا باختصار تزوير ولا علاقة لها بالتاريخ السياسي للمنطقة، والهدف منه تمهيد الطريق للوصول إلى تل أبيب، ليس إلا. هناك عشرات الكتب لسياسيين أمريكيين وأوروبيين ودراسات دكتوراه تثبت وعبر لقاءات وأدلة مذهلة اندهاش الرؤساء الأمريكيين المتعاقبين، ونظرائهم الأوروبيين من عدم فتح الملوك والأمراء الخليجيين، ومعظم القادة العرب عموما، موضوع فلسطين في اللقاءات التي كانت تجري معهم. كانوا يتعجبون من الخطاب عالي النبرة المؤيد لفلسطين، والذي يسوّق للإعلام والرأي العام العربي، بينما يختفي تماما في الاجتماعات الرسمية.
أهداف حملة الأمير بندر ضد الفلسطينيين وتاريخهم لا تحتاج إلى عبقرية في التحليل، فثمة شبه إجماع على أن هذه الحملة تأتي في سياق التمهيد للاندراج في اندفاعة التطبيع مع إسرائيل، والاستقواء بها ضد ايران. ومن هنا سوف أبدأ في تناول بعض ما سكت عنه الأمير، ولم يمتلك الجرأة ولن يمتلكها لمصارحة الشعب بها:
النقطة الأولى تبدأ من الخلاصة، وهي ضرورة أن تلتفت المملكة لمصالحها فقط، بدون ربط تلك المصالح بقضية فلسطين، أو أي قضية أخرى. وهذا الحديث هو الوصف الناعم للقول: نعم نريد أن نطبع مع إسرائيل، وتكون لنا علاقة قوية معها. لا بأس، لتقم المملكة بما تريد، لكننا نريد ان نسأل بندر بن سلطان عدة أسئلة في سياق المكاشفة والمصارحة الهادئة وكما يريد. لماذا أولا لم يكاشف الأمير الشعب في المملكة في رأيه الحقيقي والتوجه، الذي يمثله والإعلان صراحة عن التوجه نحو إسرائيل؟ لكن الأهم من ذلك هو لماذا لم يشرح للمواطنين أسباب المعضلة المخجلة، وهي كيف أن المملكة ، الدولة العربية الكبيرة، ذات الثروات الهائلة والمساحة الشاسعة، وعدد السكان الكبير، وذات الرمزية الإسلامية العميقة، يضطر الحكم فيها إلى التوجه إلى إسرائيل، البلد الصغير، الذي بالكاد يبلغ سكانه اليهود سدس سكان المملكة، والاستعماري، والذي قام بالقوة والغصب بعد تأسيس المملكة بعقد ونصف العقد من السنين تقريبا؟ لماذا تريد المملكة الكبيرة والعريقة أن تحتمي وتستقوي، وبعد قرن تقريبا من قيامها، بدولة مثل إسرائيل؟ قل للشعب في المملكة أيها الأمير من هو الذي يتحمل مسؤولية إضعاف المملكة وحشرها في هذه الزاوية المريعة والمخجلة؟ وما هي مسؤولية القيادات في المملكة المتلاحقة ومسؤوليتك، عن هذا التردي في المكانة القيادية والإقليمية لهذا البلد العربي الأصيل؟ يجب أن نعري كل القيادات الفلسطينية والعربية، ونكشف فشلها تحت الشمس حتى تراه الشعوب وتدرك إلى أين سارت بها تلك القيادات.
النقطة الثانية ـ حول فشل القيادات أيضا، وبدون أي مجاملة، لماذا لم يقل الأمير للشعب في المملكة كيف ذهبت تريليونات الوطن، وايرادات النفط الهائلة على مدار عقود طويلة من الثروة النفطية الوطنية، وكيف أبيدت وبُددت؟ ولماذا تقف المملكة الآن عارية وخائفة أمام ايران، وكيف استطاعت إيران أن تبني قوة عسكرية وقوة نووية، وهي تحت العقوبات والمقاطعة والحرب من الغرب، لما يقرب من أربعين سنة؟ لماذا لم تبن المملكة قوتها العسكرية الذاتية، وتعتمد على ذاتها، بما لا يضطرها الآن للجوء والاختباء خلف إسرائيل، أو حتى أمريكا خشية هذا العدو الإقليمي أو ذاك؟ أين ذهبت ثرواتها؟ لماذا مثلا لا يفسر الأمير للشعب كيف، ولماذا تفشل المملكة رغم كل مقدراتها تلك في حربها في اليمن، وتكلف الشعب تريليونات الدولارات؟ أين هي القيادة والقرار السياسي، واقتناص الفرص، وكل ذلك "الدهاء السياسي" التشاوفي، الذي تنطع به على الفلسطينيين؟ أين هي القيادة الحكيمة التي فشلت في كل ملف إقليمي: في العراق، في سوريا وكذلك الفشل العارم في لبنان، وفي التعامل مع إيران ومع تركيا؟ من يتحمل مسؤولية كل هذا الفشل، ولماذا لا يعرف الشعب تفاصيل ملفات الفشل هذه، وهل فلسطين والفلسطينيون مسؤولون مثلا عن ذلك كله؟
النقطة الثالثة ـ وبعيدا عن القوة العسكرية، لماذا لم تتحول المملكة إلى كوريا الجنوبية (حتى لا نقول اليابان) التي بدأت نهضتها بعد حرب دمرتها في أوائل خمسينيات القرن الماضي، أي بعد ربع قرن من تأسيس المملكة ، ولا تمتلك نفطا ولا أي موراد طبيعية، وعدد سكانها أكثر من سكان المملكة ؟ من هو المسؤول عن الضعف الحالي، الذي ما عاد يستأسد إلا على الأطراف الأضعف؟
يعيب الأمير على القيادات الفلسطينية فشلها، وهو محق في ذلك ونحن معه في انتقادهم، والفلسطينيون أول من انتقد وينتقد قياداتهم وبشراسة، والكتب والدراسات والأبحاث التي أصدرها فلسطينيون في نقد قياداتهم تملأ مكتبات. ومن زاوية الانتقاد نفسها، لماذا لا يفاتح الأمير الشعب في المملكة بفشل قياداته في إدارة البلد وبنائه ووضعه في مقدمة دول العالم، تقدما، وعلما، واقتصادا، وقوة؟
ثمة أمور أخرى سكت عنها بندر بن سلطان متعلقة بالتاريخ الفلسطيني. جزء من هذا السكوت يعود إلى جهله (من دون مجاملات) فهو في نهاية المطاف رجل أمن برتبة سفير وليس مؤرخاً. ورغم الجهد المبذول "من فريق إعداد" الحلقات وتنظيم نقاط الهجوم والتواريخ والإخراج، والتوقف من فترة لفترة لمراجعة تلك النقاط، فقد ظلت النقاط والأحداث الانتقائية المتفرقة التي حفظها هنا وهناك مفككة ومتناثرة تاريخيا، وأغلبها لا علاقة له بالتاريخ.
ارسال التعليق