الحكم السعودي وما وراء الصفقات الرياضية الضخمة!
[عبد الرحمن الهاشمي]
بقلم عبد الرحمن الهاشمي
بعد الصفقة الأسطورية التي ضمت نجم كرة القدم البرتغالي "كريستيانو رونالدو" إلى نادي "النصر السعودي"، والتي بلغت قيمتها نحو 200 مليون دولار سنويا وحتى عام 2025، وهو ما يمثل أعلى راتب يتقاضاه لاعب في تاريخ كرة القدم، هاهو النظام السعودي وعبر "صندوق الاستثمارات العامة" يتعاقد في 14 يناير/كانون الثاني من العام الجاري على شراء الإتحاد العالمي للمصارعة الترفيهية WWE بقيمة 6.5 مليار دولار أمريكي، وذلك لمدة عشر سنوات، وقد ظهر رئيس الهيئة العامة للترفيه بالمملكة، تركي آل الشيخ، مع مالك الشركة، ڤينس مكمان، في صورة تبدو إحتفالية بالصفقة.
هذه الصفقات الخيالية والمجنونة تؤكد على أمرين أساسيين في سياق التحولات التي تعرفها مملكة آل سعود، الأمر الأول هو إستمرار غياب الرقابة والمحاسبة سواء لجهة القرار بعقد مثل هذه الصفقات الهائلة، أو لجهة هتك الضمانات الحمائية التي في العادة تصون المال العام ضمن قنوات وضوابط مؤسسية تمنع من التصرف فيه بلا مرجعية قانونية أو دستورية؛ بإعتباره مالا عاما للدولة لا يمكن بحال التصرف فيه وكأنه مال خاص، وبالنتيجة فإنّ هذه الصفقات التي يمكن وصفها بفضائح مالية وسياسية تؤكد على غياب الدولة بمفهومها الحداثي، بل وغياب أبسط تعبيرات التدبير السياسي كالتي تحضر في المجتمع القبلي من خلال بعض مستويات الشورى والتداول قبل إتخاذ هذا القرار أو ذاك.
وأما الأمر الثاني فهو أن مشروع "الترفيه" كما سمّاه الحكم السعودي هو مشروع أكثر خطورة بحيث تبدو موازنته مفتوحة بلا حدود، وهدفه ليس أقل من إحداث تحولات دراماتيكية قسريّة في منظومة القيم وتفكيك البنية الثقافية لمجتمع الجزيرة العربية لإحلال هوية ثقافية ممسوخة على أنقاض ذلك، وفق متطلبات الخطة المهووسة المسماة رؤية 2030 التي يعمل عليها الحاكم الفعلي ل (السعودية) الأمير محمد بن سلمان. ف"الترفيه" تتم ترجمته تحللا من الأخلاق وتسخيفا للذوق العام وإلهاءً للرأي العام وتنويما للوعي، وتخديرا للشباب خاصة عبر إيهامه أن بلدهم إقتحم عتبة الحداثة على النمط الغربي، وهو في طريقه - من خلال المهرجانات الهابطة المسماة فنية وعبر الرياضة في بعدها الإستعراضي الباذخ - لأن يصبح دولة كبرى في المنطقة!
إنه إذن، رهان على جيل الشباب لكسبه عبر التضليل، وفي إستغلال لمرحلة زوال قبضة المؤسسة الدينية على أسلوب حياته، لأخذه بأوهام التحديث وإقحامه في فضاءات الميوعة الأخلاقية والفرجة الرياضية المكلّفة، كل ذلك لسد الطريق على بروز أي نزوعات سياسية تفتح على مطالب التحديث السياسي في نمط الحكم بالإنتقال إلى حياة سياسية مؤسسيّة يكون فيها شعب الجزيرة العربية حاضرا ومشاركا وصاحب إرادة متحققة في بناء مؤسساته الدستورية.
هناك البعض ممن يرى أن هذ الإستثمار "السعودي" في الرياضة؛ عبر الصفقات الكبرى كسباق السيارات "فورمولا وان" والملاكمة والغولف، وشراء نادي نيوكاسل الإنجليزي، وصولا إلى صفقة رونالدو وصفقة الاتحاد العالمي للمصارعة الترفيهية، وما كان من تعهد وزير الرياضة السعودي، عبد العزيز بن تركي الفيصل، بدعم بقية الأندية في إبرام صفقات نوعية مع نجوم عالميين قريبا، ومع ذلك كله الترشح لإستضافة كأس العالم لكرة القدم للعام 2030، هذا البعض يتصور أن ذلك منصرف إلى تبببض صورة هذه "المملكة" فيما يتصل بإنتهاكات حقوق الإنسان والتي تحولت معها جريمة تصفية جمال خاشقجي داخل قنصلية بلاده إلى عنوان يختزل كل الإعدامات والإعتقالات السياسية ومصادرة الحريات، لكن في الواقع يبدو أن موضوع الصورة؛ صورة النظام؛ قد عولجت وهي تعالج عبر قنواتها السياسية والدبلوماسية، ولعل زيارة الرئيس الأمريكي جو بايدن إلى "السعودية" الصيف الماضي ولقاءه بالأمير محمد بن سلمان كانت علامة فارقة على إعادة تعويم النظام السعودي على المسرح الدولي خاصة بعد أن أعلن البيت الأبيض قبيل نهاية السنة المنصرمة أن الحصانة القضائية لولي العهد السعودي محمد بن سلمان الملاحق مدنيا أمام محكمة أمريكية في قضية مقتل الصحافي جمال خاشقجي، “لا علاقة لها” بالعلاقات بين واشنطن والرياض!
ولذلك يترجح أن هذا الإستثمار الواسع والسخي في الرياضة والذي تخطى حدود المعقول، له رهاناته الداخلية فيما يخلقه من أوهام التطور والطفرة التي تتحقق مع الأمير المتحمس في أوساط الشباب، وما يستتبع ذلك من إلهاء عن الواقع السياسي، وحيث الحكم الفردي المستبد على أسوأ صور الاستئثار بالسلطة والثروة في التاريخ المعاصر. بعد ذلك تأتي أهداف مندرجة تحت عنوان الطفرة المزعومة على إيقاع "الرؤية" فيما هو الطموح لأن تتحول مملكة آل سعود إلى دولة مستقطبة للسياحة عالميا، وقطبا إقليميا كبيرا على خط التنافس مع النمط الليبرالي لدولة "الإمارات العربية المتحدة".
ومن المؤسف أن يتسلط هذا الحكم على مقدرات شعب الجزيرة العربية، وأن يبدد ثروته على شراء الزمن السياسي وتضليل الجيل الشاب بفضاءات الإنفتاح المتفسخ والحريات الشكلية. أموال هذه الصفقات السفيهة، ومعها صفقات السلاح الهائلة على مدى عقود خلت، كانت كفيلة بوضع بنيات النهضة الحقيقية وذلك بالاستثمار في التنمية البشرية، وبالقضاء على الفقر والتهميش، وبالإنفاق على التعليم وإرسال البعثات العلمية إلى الخارج، وربط ذلك بإصلاحات سياسية من مدخل صياغة دستور حديث يعقلن الحياة السياسية ويجعل من الإرادة الحرة لشعب الجزيرة العربية الفيصل في تشكل السلطات الثلاث وعملها وفي سير المؤسسات الحيوية لإدارة البلاد، وبربط المسؤولية بالمحاسبة.
لكنه حكم السفهاء حتى تأتي ساعة الحرية والتغيير.
ارسال التعليق