المخفي من زيارة الرئيس التركي أردغان للسعودية!!
[عبد العزيز المكي]
وأخيراً تمت زيارة الرئيس التركي رجب أردوغان إلى المملكة السعودية, استغرقت يومين, وانتهت يوم 29/4/2022, بعدما طال الجدل حول تلك الزيارة لقرابة السنة, حول الأثمان والمراسم ومكان الاستقبال وما إلى ذلك على ما يبدو..
ولأهمية هذه الزيارة ثم الإثارة التي انطوت عليها, حظيت بمتابعة واهتمام المحللين والمتابعين في المنطقة والعالم وقيل عنها ـ أي الزيارة ـ الكثير فيما يخص المرحلة الجديدة من العلاقات بين أنقره والرياض, ونسيانهما التوتر بينهما على خلفية تصفية بن سلمان لجمال خاشقجي, المقرب من الإخوان المسلمين, وعلى خلفية تحويل أردوغان ملف الجريمة إلى أداة ضغط على بن سلمان وفضحه عالمياً واتهامه بأنه وراء الجريمة, وإن لم يسمه بالاسم. ومساهمة أردوغان وأجهزته في تسريب الوثائق إلى السي آي أيه, وهو ما أثر على مكانة بن سلمان لدى الأوساط الأمريكية لا سيما أوساط الكونغرس الأمريكي والإدارة الديمقراطية الجديدة بعد مجيء بايدن.
يضاف إلى ذلك, إن التوتر بين البلدين(تركيا-السعودية) له جذور تاريخية, في التنافس بينهما على قيادة العالم "السني", وفي اعتبار الأتراك بأن آل سعود كانوا قد تحالفوا مع الاستعمار البريطاني ضد الدولة العثمانية والتسبب في هزيمة الأخيرة في المنطقة العربية ومن ثم انهيار الإمبراطورية العثمانية خلال الحرب العالمية الأولى.
وإذ غطى المحللون أغلب جوانب الزيارة من ناحية تحسين العلاقات وبدء صفحة جديدة, فإنهم لم يتعرضوا للمخفي من جوانب هذه الزيارة, إلا بشكل نادر جداً, أو لماماً, في حين أن المخفي هو الأهم, وهو الأجدر بتسليط الأضواء عليه لأنه يكشف الكثير من الأمور المهمة الخاصة بهذه الأنظمة الحاكمة وتقلباتها! لأن أبعاد تلك الزيارة أوسع من ابعاد ترميم العلاقة وحاجة أردوغان للأموال السعودية وحاجة بن سلمان لسد ملف خاشقجي. فالزيارة لها بعد استراتيجي يرتبط ارتباطاً وثيقاً بالرؤية الأمريكية للمنطقة. وأمريكا كما بات معلوماً في حالة تراجع وضعف, وباتت أمام تحديات جدية كما يؤكد الخبراء الأمريكيون, والذين يقولون إن أمريكا باتت تعاني من الضعف الاقتصادي والعسكري وهزيمتها في أفغانستان مؤخراً, دليل واضح على هذا الأمر, هذا أولاً. وثانياً: إن المنطقة العربية والإسلامية غير مستقرة وفي حالة اضطراب, فهي تشهد تصاعداً لمقاومة الشعوب وانحساراً لقوة وسطوة الكيان الصهيوني, فهذا الأخير هو نفسه يشهد تداعيات داخلية ويشهد تحديات خارجية تهدد وجوده واستمراره, وبات يشكل عبأً على الولايات المتحدة, عبأً عسكرياً واقتصادياً, في ظل التراجع الاقتصادي الأمريكي الكبير. يضاف إلى ذلك أن ايران تضاعفت قوتها وصعودها عسكرياً وحتى اقتصادياً ونفوذاً في المنطقة باضطراد, في الوقت الذي تزداد قوى المقاومة في لبنان وسوريا واليمن والعراق قوة وصلابة.. وثالثاً: إن الحرب الروسية الأوكرانية باتت هي الأخرى تشكل تحدياً خطيراً للهيمنة الأمريكية, بل للاستقرار الأمريكي وحتى للوجود الأمريكي في ظل التهديد المستمر للقيادة الروسية بالضربات الاستباقية النووية, بل إن تلك الحرب أضحت مرشحة لحرب عالمية ثالثة في أي لحظة لا تبقي ولا تذر, ستستخدم فيها كل الأسلحة النووية وغير النووية المتطورة جداً.. ورابعاً: إن الصين هي الأخرى أصبحت تقض مضاجع الأمريكان بشكل مستمر, وتشكل لهم صداعاً مزمناً وتحدياً بسبب تصاعد قوتها الاقتصادية والعسكرية وتهديدها للإمبراطورية الأمريكية, وتمددها على حساب النفوذ والهيمنة الأمريكية, إذ تستخدم القوة الصينية المتصاعدة أسلوب القضم التدريجي للهيمنة الأمريكية..
في ظل هذه الظروف غير المواتية تحاول الدولة الأمريكية استجماع قواها ولملمة أطرافها من أجل الوقوف بوجه هذه التحديات, وفيما يخص المنطقة العربية والإسلامية وأمن الكيان الصهيوني بدأت بمشروع خطير منذ أكثر من سنة, بل منذ رئاسة الرئيس السابق ترامب بتجميع القوى مع بعضها ومنحها القوة الذاتية الجمعية تحت إشراف ومراقبة واشنطن, ودعمها العسكري غير المباشر, ومن الخطوات في هذا الاتجاه بدأت أمريكا بدفع أنظمة الإمارات والسعودية والبحرين والمغرب والسودان وغيرها نحو الهرولة والتطبيع مع العدو عبر ما يسمى "باتفاقيات إبراهام" وذلك من أجل منح العدو عمقاً استراتيجياً, يستفيد منه عسكرياً واقتصادياً وأمنياً وما إلى ذلك, بتوظيف إمكانات هذه الدول لخدمة وجوده واستمراره, وبالتالي تخفيض العبء الملقى على عاتق واشنطن في توفير الحماية بهذا الكيان الغاصب, هذا أولاً, وثانياً: محاولة دمج العدو في نسيج المنطقة ومنحه فرصة الهيمنة والقيادة على تلك الدول المطبعة, لينوب عن الولايات المتحدة, وليسد فراغها الذي ستتركه نتيجة تراجعها وتفرغها للمحور الصيني ـ الروسي! ولتحقيق هذه الرؤية دفعت أمريكا بالأنظمة العربية وغير العربية الحليفة لها بالتخلي عن خلافاتها البينية والتصالح مع بعضها لتوفر فرصة التكتل والاصطفاف في الجبهة الأمريكية كتلة واحدة "متعاونة متناسقة". وفي سياق هذا التوجه لاحظنا أن السعودية أنهت خلافاتها مع قطر, والإمارات تخلت عن عدائها لتركيا, والأخيرة تصالحت مع العدو ورمت بالإخوان المسلمين في غرف النسيان والإهمال, كما أن المحاولات جارية لترميم العلاقات التركية مع مصر كما وعد أردوغان بعد نهاية زيارته للسعودية. واستكملت أمريكا تلك الجهود بإسقاط نظام رئيس الوزراء الباكستاني عمران, وجاءت بحليف السعودية من عائلة شريف, وثمة تحرك أمريكي صهيوني غربي حثيث لإزالة أو تذليل الخلافات بين عملاء أمريكا في المنطقة من أجل تكوين إطارين لم يعلن عنها لتحصين المنطقة هما:
الإطار الأول: ويتكون من الكيان الصهيوني والدول العربية الخليجية المطبعة ومصر والأردن, من أجل حماية العدو وتمكين هذا الأخير من التسيّد والهيمنة كما قلنا قبل قليل.
الإطار الثاني: وهو الأوسع ويشمل الدول المركزية القوية, أقصد تشكيل هذا الإطار بمحورية هذه الدول القوية, مثل السعودية وباكستان وتركيا والجهود جارية لضم مصر إلى هذا الإطار أو التكتل, ومهمته مواجهة الصعود الإيراني ومحوره, وليكون درعاً أمريكياً في مواجهة المحور الصيني ـ الروسي في أي مواجهة شاملة, إذا ما تطورت الحرب الروسية ـ الأوكرانية إلى حرب عالمية.. خصوصاً وأن باكستان قوة نووية!
نعود إلى تداعيات زيارة أردوغان, فالإعلام التركي والسعودي إلى حد ما؛ ما زال يروج لتصريحات أردوغان وطاقمه حول بدء مرحلة جديدة, وحول منافع الطرفين والمنطقة المزعومة, فيما المتابعة الدقيقة لمجريات الزيارة تكشف بوضوح أن أوردوغان خسر الكثير والكثير, صحيح أنه اتفق مع السعوديين على إزالة الحضر السعودي على دخول وشراء البضائع التركية داخل المملكة السعودية, وصحيح أن أردوغان وعده المسؤولون السعوديون بالاستثمار في تركيا من أجل إنعاش الاقتصاد التركي الذي يشهد مؤشرات انهيار وتدهور بسبب سياسات أردوغان غير الموفقة والمتهورة, حيث يقول الخبراء إن هذا التدهور في الاقتصاد التركي سيكون السبب الأساسي لإزاحة الشعب التركي لأردوغان وشلته من المشهد السياسي والرمي بهم في مزابل التاريخ, وحتى هذه الوعود السعودية, ليس من المأمول أنها ستساهم في تحسين الوضع الاقتصادي التركي, سيما وأن بعض المسؤولين السعوديين قالوا إن الدعم سيجري بشروطنا, أي وفق الشروط السعودية, وليس وفق شروط أردوغان!!
وإضافة إلى هذه الإهانة المقصودة التي وجهها بن سلمان لإردوغان خلال الزيارة والتي بدأت بعد استقباله في المطار في جدة, وبإعلان وسائل الإعلام السعودية أن أردوغان هو الذي طلب زيارة الرياض, وليس الأخيرة. فالزيارة تمت بناءً على طلبه بعد مماطلة دامت أكثر من سنة مثلما أشرنا خلال الحديث.. نقول إضافة إلى الإهانات المتكررة التي وجهت له, فإن أردوغان خسر ما يلي:
1ـ بإقراره من خلال تلك الزيارة بأن مكة هي مركز الإسلام السياسي (السني) وليست اسطنبول, كما يؤكد العثمانيون الذين يقف على رأسهم أردوغان, وقام بدعم ما يسمى بالربيع العربي, وبدعم الإخوان المسلمين في مصر وفي سوريا وفي ليبيا وحتى في لبنان على أمل أن يتولى زعامة المنطقة, ويعيد أمجاد السلطان العثماني الذي أسقطه الإنجليز في الحرب العالمية الأولى..
2ـ أثبت أردوغان بالدليل القاطع أنه ليس الزعيم الإسلامي الذي يعتبره الأخوان المسلمين في العالم العربي "القدوة" و "الممثل الحقيقي" للفكر الإخواني, وما إلى ذلك من الأوصاف والنياشين التي أسدلها "الإخوان" على أردوغان, إنما هو يستخدم الإسلام, وحزب الإخوان, كأداة ووسيلة لتمشية وتحقيق أهدافه الشخصية والسياسية, ولذلك باع الإخوان وحماس وكل الإسلاميين عندما اقتضت مصلحته في إعادة علاقاته الحميمة مع العدو, ومع الإمارات والسعودية, وسارع إلى إخراج بعض ممثلي حماس من تركيا استجابة للعدو وسد فضائيات توكل كرمان (بلقيس) والإخوان المصريين "مكملين" والشرق وما إليها, ومضيق على القيادات الإخوانية المصرية الفارة إلى تركيا.
كما أثبت أردوغان, إنه يستخدم القضية الفلسطينية والقدس أيضاً لتحقيق مصالحه, ولذلك ضرب بهما عرض الحائط عندما اقتضت مصلحته بإعادة العلاقات مع العدو!!
3ـ أثبت أردوغان للعدو والصديق أنه شخص غير جدير بالثقة ولا يمكن الاعتماد عليه, فهو يغيّر مواقفه من الشمال إلى الجنوب, ومن الشرق إلى الغرب وهكذا, فهو متقلب ولا يمكن الاطمئنان مطلقاً إلى مواقفه. فمرة يتوعد بن سلمان بفضحه وبمعاقبته على جريمته بقتل وتقطيع خاشقجي, ومرة يضع ملف الجريمة تحت قدميه ويقبل كتف بن سلمان, وهكذا!! فالرجل يتمتع بقابلية خارقة على الغدر المفاجئ بحلفائه والدوران 180 ْ ليقلب مواقفه رأساً على عقب!!
ذلك على عكس النظام السعودي, وبن سلمان تحديداً, فهو المستفيد الأكبر من هذه الزيارة. إذ إنه يعتقد أنه حقق هدفه في كسر كبرياء واستعراضات أردوغان الفارغة وتهديداته وعنجهيته, مقابل فتات الأموال التي سوف يقدمها إلى الزائر الذي باع بها مبادئه ومواقفه, إذا كان لديه ثمة مواقف ومبادئ!
عبد العزيز المكي
ارسال التعليق