كيف يقرأ المراهنون على حماية أميركا والمطبعون مع العدو الصهيوني...الحدث الأفغاني!؟...(1)
[عبد العزيز المكي]
بغض النظر عن النظريات التي طرحت لتفسير الحدث الأفغاني الأخير، فإن ثمة إجماع للمراقبين والخبراء والمحللين، حتى من الامريكيين أنفسهم، على ان الولايات المتحدة منيت بهزيمة عسكرية منكرة في أفغانستان أمام مقاومة الشعب الافغاني الذي تتصدره " حركة طالبان"، هزيمة قد تضاهي أو حتى اكبر من هزيمتها أمام الثوار الفيتناميين ( الفيتوكونغ) في عقد السبعينات.. فبعد عشرين سنة من الغزو والاحتلال الامريكي لافغانستان والذي حصل على خلفية القضاء على نظام طالبان الارهابي ورعاية الأخيرة لتنظيم القاعدة وزعيمه بن لادن! بعد عشرين سنة من هذا الاحتلال والتدمير المنهجي للبلد خرجت أميركا مهزومة مدحورة لم تحقق أي من أهدافها في القضاء على طالبان وعلى الإرهاب هناك بحسب المنطق الامريكي!
على ان الأمور لم تتوقف عند حدود الهزيمة العسكرية المدوية لاميركا، بل تضمنت مشهدية هذه الهزيمة وفرار القوات الأمريكية من مطار كابول بالطائرات العسكرية، فصولاً كارثية، أعادت الى الأذهان تلك الفصول المماثلة عند فرار القوات الأمريكية من فيتنام، حيث تخلّى الاميركان عن عملائهم الأفغان، وركلوهم " بالبساطيل" ومن تعلق منهم باطارات الطائرة أو باجنحتها، أما سقط على الأرض أو على سطوح المنازل، ومات أو ثرمته العجلات وحولته الى إشلاء للدرجة التي اعتبر بعض قادة الغرب هذا المشهد بالفضيحة للغرب وللولايات المتحدة الأمريكية!
و لأن لهذه المشاهد ولهذا الحدث، تداعيات استراتيجية ضخمة ستترك بصماتها على مستقبل المنطقة والعالم، إهتم المحللون والخبراء، كما اشرنا بها، بينما المعني الاساسي بهذه المشاهد هم عملاء أمريكا من الانظمة والشخصيات السياسية وغير السياسية، سيما أنظمة الخليج العربية وعلى رأسها النظامان السعودي والاماراتي اللذان يراهنان على الحماية الامريكية، اذ يجب عليهما أن يقرءا الحدث الأفغاني بدقة وتعمق وتمعن، اكثر من أي طرف آخر، واذا قرأوا هذا الحدث بهذا الشكل فأنهم سوف ينتهون الى الاستنتاجات التالية:-
ان الحدث الأفغاني عزز وكرس قناعة بل حقيقة كانت موجودة، أوجدتها وعززتها مصاديق سابقة، وهي تخلي أمريكا عن " حلفائها" عملائها وحتى الغدر بهم، والتوافق أو التفاهم مع خصومهم من وراء ظهورهم، ان رأت ذلك يحقق لها مصالحها، أو أن تتركهم في ساعة الضيق، ولم تعر أية أهمية لحياتهم، أو أي قدر للخدمات الجمة التي قدموها لها على حساب وطنهم ومصالح شعوبهم، ونهب ثروات هذه الشعوب!! والحدث الأفغاني مجرد أضافة الى سلسلة المصاديق الجمة التي قدمتها الأدارات الامريكية في هذا الأطار تعاونوا معها ضد شعبهم ووطنهم، وفعلته بالتخلي عن صديقها الحميم شاه ايران وعن حسني مبارك، وزين العابدين بن علي، ونورييغا بنما، الرئيس البنمي الذي كان عضوا في السي آي ايه و" الحليف" المقرب من أمريكا في امريكا اللاتينية، والقائمة تطول!!
كل ذلك يؤشر الى ان القضية باتت ليست مجرد قناعة كرستها تلك المصاديق وحسب، إنما تحولت الى ثابت ومبدأ أساسي من مبادئ السياسة الأمريكية، واللافت ان الرئيس السابق دونالد ترامب كرسها أو تعامل بها على هذا الأساس، أي مبدأ من مبادي السياسة الخارجية الأمريكية، وجاء بايدن ليثبت هذا المبدأ، وهو ما تجسد في التعاطي مع قضية أفغانستان! ومايثير الاهتمام بهذه السياسة الأمريكية هو أنه حتى أقرب حلفاء اميركا، الكيان الصهيوني، بات ينتابه القلق، رغم ان اللوبي الصهيوني في المؤسسات الامريكية التنفيذية والتشريعية وفي مراكز القرار والدراسات نفوذ كبير لصالح العدو، الى درجة ان العميد في الاحتياط الصهيوني يوسي كوبرفاس، وهو باحث في المركز المقدسي للشؤون العامة والدولية، يقول: " ان سرعة إنهيار حكومة أفغانستان والجيش الذي شكله الامريكيون، والبالغ عدده300 ألف جندي مع تجهيزات متطورة، في مقابل عناصر طالبان، هي سبب للقلق من عدة جوانب".
من جهته معلق الشؤون العسكرية في القناة 12 التلفزيونية الصهيونية، نير دفوري، أشار الى أنه: " اذا نظرنا الى هذا الحدث، وكل الشرق الاوسط ينظر الى ما يحدث في أفغانستان، فيمكن أن يؤثر فينا أيضاً". وتساءل دفوري قائلاً: " قبل كل شئ كل حلفاء الولايات المتحدة ينظرون الى هذا الأمر، ويقولون متى سيتخلى عنا الامريكيون"!؟
ثمة إجماع تقريباً لدى الخبراء والمحللين، بما فيهم الخبراء والمحللون الصهاينة، على ان الهزيمة الأمريكية في افغانستان امام حركة طالبان، مؤشر ضعف وتراجع قوة أمريكا، وعدم قدرتها على احتواء هذا الضعف والتراجع، والبقاء كاكبر واقوى قوة عالمية مهيمنة على العالم، إذ من الأهداف الرئيسية كما هو معروف للغزو الامريكي لافغانستان، ومن ثم للعراق، هو فرض القوة الامريكية عالمياً، لتبقى أمريكا الآمر والناهي في العالم، والذي يقرر مصير هذا العالم! حتى من ناحية منظوماته ومؤسساته الفكرية والسياسية الأمريكية!، بينما أثبتت تجربة العراق وتجربة أفغانستان ان القوة الكبرى الأمريكية تتآكل باستمرار وتضمحل، لدرجة انه لايمكن الوثوق بوعودها في حماية " حلفائها" وعملائها، ولايمكن لهؤلاء الحلفاء والعملاء الاتكال على تلك الحماية، لأنه في أية لحظة يمكن أن تقرر أمريكا التخلي عن مساعدتهم في الشرق الاوسط، وبالتخلي عن دور الشرطي واستخدام القوة العسكرية ضد الخصوم، واناطة هذا الدور لحلفائها وعملائها مثل الكيان الصهيوني ودول الخليج.
ما يفزز هذا التحليل، هو ان الولايات المتحدة أعلنت تخليها عن حماية أنظمة الخليج قبل الحدث الافغاني، فالرئيس الامريكي السابق ترامب أعلن صراحة ان بلاده لايمكن أن تدافع عن السعودية، بعد تعرضها للقصف بصواريخ مجنحة وطائرات مسيرة من قبل أنصارالله في العام 2020، في بقيق والذي أوقف نصف الانتاج النفطي السعودي يومذاك أي قرابة الخمسة ملايين برميل يومياً، حيث قال ترامب نحن لانحارب نيابة عن السعودية، لاننا لسنا بحاجة الى النفط السعودي، ذلك رغم ان ترامب كان قد إستنزف النظام السعودي مالياً، حيث كان دائماً يتبجح بحلب البقرة السعودية، ويردد كلمته المشهورة، هم يقدمون لنا الأموال لقاء الحماية العسكرية، وتبيّن ان تلك المقولة مجرد كذب ونفاق وضحك على الذقون..
و استطراداً، فأن رئيس الوزراء الصهيوني السابق بنيامين نتنياهو كان قد بذل جهوداً مضنية لجر الولايات المتحدة وتوريطها في محاربة ايران عسكرياً، لكن هذه الجهود ذهبت أدراج الرياح، حيث رفض ترامب المقرب جداً من الصهاينة شن هذه الحرب نيابة عن الكيان الصهيوني، لأن أمريكا لم تكن كما في السابق في الموقع الذي يؤهلها لشن مثل هذه الحروب دون تبعات ومخاطر جمة واستراتيجية ليس على الكيان الصهيوني وعملاء امريكا فحسب، بل وعلى اميركا نفسها. وهذا ما اعترف به بعض المعلقين والخبراء الصهاينة قبل غيرهم، بصورة مباشرة أو غير مباشرة، في هذا السياق يقول العميد الصهيوني احتياط يوسي كوبرفاسر الذي أشرنا اليه قبل قليل ان " تقليص دور أمريكا كقوة عظمى دولية، لاسيما في منطقة الشرق الأوسط، بداية من عهد دونالد ترامب، وصولاً الى الأدارة الحالية، وما نجم عنه من تطورات سيكون دليلاً إضافياً على الضعف الأمريكي النابع من فقدان الأستعداد لدفع ثمن الحرب المستمرة ضد التطرف، وأن هذا التطور من شأنه أن يعزز وضع ايران وتنظيمي القاعدة وداعش، فضلاً عن جماعة الأخوان المسلمين، وسيشجعهم على تحدي أمريكا وحلفائها من بينهم إسرائيل". على حد قوله.
و لأن الحماية الأمريكية باتت غير مضمونة حتى للكيان الصهيوني نفسه، ولذلك يوصي هذا الضابط (كوبرفاسر) بضرورة عدم الاعتماد على الدعم الامريكي، بقوله: " أنه ينبغي دراسة أسس الدفاع عن النفس بالقوة الذاتية، وعدم الأعتماد بشكل كلي على الدعم الأمريكي". على ان الباحث والرئيس السابق لشعبة الأبحاث في الاستخبارات " الاسرائيلية " عاموس جلعاد، ذهب الى اكثر من ذلك، حيث دعا الى تعزيز التعاون مع الدول العربية المطبعة، لمواجهة أي تطورات طارئة تجعل أظهر هذه القوى مكشوفة عند ما تقدم أمريكا على إنسحاب مفاجئ وتراجع عن الأهتمام بتلك المنطقة، بالقول " نحن بحاجة الى العلاقات بمصر والأردن والسعودية ودول الخليج"، معتبراً ان " هذا إنجاز كبير، على الأقل، العلاقات الأمنية، يجب مواصلة تعزيز هذه العلاقات حتى لو كانت هناك انتقادات، لأن البديل فضيع"! وتأكيداً للقلق الذي بات يعم المؤسسات السياسية والبحثية وحتى الأمنية الصهيونية يقول محلل الشؤون العسكرية في موقع " ماكور ريشون" العبري نوعام أمير ان: " إنسحاب الولايات المتحدة الأمريكية من افغانستان وتخليها شيئاً فشيئاً عن وجودها العسكري في الشرق الأوسط يثبت كم باتت " اسرائيل" بحاجة الى السعي لتوفير الاستقلال بكل ما يتعلق في استراتيجيتها الخاصة". ويضيف هذا المحلل الصهيوني قائلا: " أن ما فعله الرئيس الأمريكي جوبايدن يجب ان يقلق " اسرائيل"، مَنْ يظن أن سيطرة طالبان على الحكم لن يكون لها تداعيات على المنطقة كلها فهو لا يعي من الأمر شيئاً، لا في الأمن، ولا في شؤون الشرق".
فاذا كان منسوب القلق قد وصل الى هذه الدرجات العالية عند الصهاينة حلفاء أمريكا الخالصين، فبالتأكيد ان هذا المنسوب قد وصل الى أضعاف مضاعفة من القلق عند السعوديين والأماراتيين وغيرهم ممن رهن وجوده وحمايته للاميركي، ولعل ما عزز هذا الطوفان من القلق عند هؤلاء هو تلميحات الرئيس الأمريكي جو بايدن الى احتمالات تكرار نموذج الانسحاب من أفغانستان في اليمن أو سوريا، وذلك في تصريحاته الأخيرة التي علق بها على الانسحاب الأمريكي من أفغانستان، بحسب ما ذكرته صحيفة " ذا سترينجر" الامريكية حيث نقلت الصحيفة تلك عن بايدن قوله " لايمكننا الاستمرار في تكرار خطأ مضاعفة حرب أهلية في بلد أجنبي"
ان الحدث الافغاني يعتبر إضافة جديدة للمؤشرات والأحداث التي تؤكد ان الامبراطوريات عند ما تشيخ وتصل الى مراحل التراجع والانهيار تقوم بعمليات لملمة قواتها، لأنها تصبح غير قادرة على تحمل أعباء انتشار هذه القوات أقتصادياً وعسكرياً، وهذا ما حصل للامبراطورية السوفيتية، والتي بالمناسبة بان تداعيها ابتدأ بهزيمتها في افغانستان بعد احتلال لعشر سنوات، وايضاً ما حدث للامبراطورية العثمانية وكل القوة العالمية التي هيمنت على العالم ومنها القوة والامبراطورية البريطانية..فأميركا اليوم بعد هذا التراجع والضعف تحاول، اختزال اسباب استنزافها السريع، ومحاولة تجميع قواها وتركيزها في مواجهة التحدي الاساسي لها وهو القوة الصينية الصاعدة والقوة الروسية التي تتحدى أمريكا باسلحتها المتطورة.. ولذلك فأن أهمية منطقة الشرق الاوسط تراجعت كثيراً في سلم الأولويات للرؤساء الامريكان، وذلك من عهد ترامب والذي سس لهذا الانسحاب عبر التفاوض مع طالبان، ثم جاء بايدن ليكمل المشوار، بل ان ترامب كان صريحاً بالقول، ان منطقة الشرق الاوسط لم تكن بالاهمية السابقة للولايات المتحدة مستبعداً الدخول في حروب نيابة عن دولها مكتفياً بالتأكيد على تزويد هذه الدول الحليفة بالاسلحة مقابل الاموال!!
كل هذه العوامل وغيرها، جعلت من طرح السؤال، في أروقة الانظمة العربية الحليفة لاميركا ومنها الخليجية خصوصاً جدياً، وهو ما البديل لهذه الانظمة؟
لتفادي إنكشاف الظهر بعد تخلي مفاجئ للحامي الأمريكي واقدامه على سحب قواته واسلحته؟ هل البديل الذهاب الى الصين أو الى روسيا؟ او الى قوة أخرى!؟
يبدو لي من خلال تحركات هذه الانظمة ان البديل الذي تفكر به هو الذهاب الى العدو الصهيوني عبر تعزيز التطبيع معه وتوثيق التعاون العسكري والأمني معه، ظناً منها انه قادر على سد هذه الثغرة التي حفرها في واقعها الغدر والتخلي الامريكيين!! ولكن هذا التوجه يستولد سؤالاً ملحاً أيضاً، وهو هل العدو نفسه يوفر لهذه الانظمة الحماية اللازمة بعد التراجع الأمريكي!؟ وهل العدو قادر على ملأ الفراغ الذي يولده هذا التراجع في المنطقة!؟ هذا ما سنجيب عليه في المقالة القادمة باذن الله. عبدالعزيز المكي
ارسال التعليق