مجلس التعاون الخليجي...بين ما تريدهُ أنظمته، وما تريده أمريكا
[عبد العزيز المكي]
بقلم: عبد العزيز المكيقمة دول مجلس التعاون الخليجي الهزيلة الـ39 ألتي عقدت في الرياض مؤخراً، يوم الأحد الموافق 9/12/2018، أثارت الضوء حول مجلس التعاون ودوره ومستقبله في المنطقة، فهذه القمة عقدت بغياب ثلاثة من كبار أعضائها، وهم سلطان عمان السلطان قابوس، ورئيس دولة الإمارات خليفة بن زايد وأمير قطر تميم بن أحمد آل ثاني، واستمرت ليوم واحد ولم يسبق انعقادها اجتماع لوزراء خارجية دول المجلس، كما يحصل في العادة في كل القمم السابقة لوضع جدول أعمال القمة، ولصياغة البيان الختامي، إضافة إلى ذلك جاء البيان الختامي عمومياً ولم يشر إلى الأزمة الخليجية بين قطر ودول الحصار، السعودية والبحرين والإمارات ومصر، ولم يشر إلى الحرب اليمنية إلا في إشارة الملك سلمان العابرة، وفضلاً عن ذلك كله اقترنت هذه القمة بالتراشق الإعلامي بين السعودية وقطر بوتيرة أشد مما كان عليه في الفترة التي سبق انعقاد هذه القمة..كل ذلك دفع بعض المحللين إلى وصف هذا المجلس، بأنه بات شكلاً فحسب دون جوهر، واعتبر البعض الآخر انه-أي المجلس- يلفظ أنفاسه الأخيرة قبل تلاشيه على شاكلة "الجامعة العربية" وتشكيلات أخرى أصبحت في خبر كان، وما إلى ذلك من الأوصاف ومن التصورات التي أجمعت كلها على أن هذا المجلس يعاني من أمراض وعاهات خطيرة باتت تهدد دوره في جمع دول مجلس في "مؤسسة" تحدد لها أدوار كل منها في إطار منسق ومتفق عليه وعلى كل الأصعدة..والحقيقة إنه فعلاً، إن هذا المجلس بات يعاني من الأمراض والعاهات، ولكن ليس بسبب الأزمة القطرية، إنما لأسباب سابقة لهذه الأزمة، بعضها يرتبط بالأعضاء أنفسهم، والبعض الآخر من هذه الأسباب يرتبط بما يريده الرعاة الذين هم أصحاب فكرة تشكيل وتأسيس هذا المجلس، أقصد أمريكا وبريطانيا وبقية الدول الغربية، ثم دخل الكيان الصهيوني بقوة على خط التأثير على هذه الدول كما بات واضحاً.
فالمجلس، أسس عام 1981 لتشكيل كتلة بشرية ومالية وعسكرية إلى حد ما لمقابلة إيران بعيد انتصار ثورتها عام 1979، في هذا البلد..وذلك بقيادة المملكة السعودية، لمنح هذه الأخيرة ثقلا جغرافيا وعمقاً أستراتيجيا في تلك المواجهة، وفعلاً قام هذا المجلس الخليجي بدور كبير في الإطار المذكور، خصوصاً في خفض أسعار النفط إلى مستوى حتى 8 دولارات للبرميل الواحد، بعد ما كان أربعين دولاراً للبرميل الواحد، وذلك في عقد الثمانينات أيام الحرب العراقية- الإيرانية، وفيما بعد أي في بداية عقد التسعينات موّلت دول هذا المجلس الحرب الأمريكية على العراق في عهد بوش الأب..وهكذا...
بدايات التشظي
ظهرت بدايات تشظي هذا المجلس بعد فترة قصيرة على تشكليه، إذ بدأت النزعة السعودية نحو الهيمنة ومصادرة دور ومواقف الأعضاء الآخرين، تنمو شيئاً فشيئا داخل منظومة المجلس، حتى تبلورت هذه النزعة بعد عقد من الزمان، إلى موقف واضح، يتمثل في أن النظام السعودي يريد من بقية الأعضاء في منظومة المجلس أن يكونوا تبعاً له ولا رأي لهم فيما يخص قضايا منظومة المجلس الداخلية، وتلك الخارجية، أي أراد هذا النظام أن يكون رأيه هو النافذ، وما على الآخرين في هذه المنظومة الّا التأييد والتصفيق وتقديم الدعم بكل أنواعه، وهذا الأمر بالطبع لم يرق للكثير من الأعضاء الستة، فعمان وقطر والكويت وحتى الإمارات في ذلك الوقت بدأت تتململ من هذه النزعة السعودية، وتحاول الوقوف على مسافة من المواقف السعودية قدر المستطاع، ولو وجدت هذه الدول فرصة للخروج من هذا المجلس لأنهار هذا المجلس ومنظومته منذ أمد بعيد لكن الولايات المتحدة وبريطانيا كانتا لا تسمحان بانهياره نظراً لحاجتهما إليه في خدمة مشاريعهما في المنطقة، فقط قطر شقت طريقاً مستقلاً ومنافساً للدور السعودي في الريادة، وفي الاضطلاع بأدوار ومواقف لا تجرأ عليها الدول الأخرى، ومحاولتها فرض نوع من الريادة القيادية في مجال الأعلام، وفي مجالات التطبيع مع الكيان الصهيوني، وذلك في عقد التسعينات، وبعيد انقلاب حمد بن خليفة على أبيه وإزاحته عن إمارة قطر، حيث بادر إلى تأسيس قناة الجزيرة، وأحدثت تحولاً إعلامياً في المنطقة، إذا اتهمت قطر على أثرها بالتحريض ضد النظام السعودي وأنظمة عربية أخرى والقصة معروفة..ذلك ما أزعج النظام السعودي إلى حد كبير، واعتبر الأخير أن تعطيل أمر تعثر مجلس التعاون الخليجي هو بسبب السياسات القطرية التي يقول هذا النظام أنها تتعارض مع تطلعات دول منظومة المجلس...
على أن النظام السعودي لا يستطيع فعل أي شيء سوى الاعتراض أو التعبير عن التبرم لأن الأميركان والبريطانيين هم الذين غضوا الطرف عن التمرد القطري على المجلس، إن لم يكن هم من دفعوها إلى هذا التوجه بهدف تغيير المزاج الشعبي أو التأثير عليه، من أجل التطبيع مع العدو ودفع العرب إلى التصالح مع الكيان الصهيوني.. واستمر الحال على هذه الشاكلة بين مد وجزر، يبد أن التغريد القطري خارج السرب، شجع أطراف أخرى على محاولة الاستقلالية في مواقفها، مثل الكويت وسلطنة عمان..
مجيء سلمان وابنه، واثر ذلك على مجلس التعاون
بعد رحيل الملك السابق عبد الله آل سعود وتولي أخوه سلمان، ثم صعود ابنه تغيرت السياسة السعودية، وانتقلت الى مرحلة أخرى خصوصاً بعد ما أصبح محمد بن سلمان وزيراً للدفاع ومن ثم ولياً للعد بعد إزاحة بن عمه محمد بن نايف عن ولاية العهد، إذ تخلت السعودية عن سياسة التحرك من وراء الكواليس وبهدوء بعيداً عن الضجيج والصخب الإعلامي، وانتقلت إلى مرحلة أكثر جرأة وإفصاحا عن النوايا والمواقف، لذلك أعلن بن سلمان الحرب على اليمن، وقبل ذلك تدخلت السعودية في البحرين وقمعت الشعب البحريني وحمت النظام ال خليفة، ثم توثيق التحالف مع الإدارة الأمريكية بقيادة ترامب والتحرك نحو التطبيع والتعاون والتنسيق الأمني مع الكيان الصهيوني..وفي الحقيقة ان ابن سلمان أراد من كل هذه الخطوات وغيرها لما نشر إليه، خصوصاً وانه كان يتوقع إنهاء الحرب على اليمن في ظرف أسابيع فقط كما صرح رئيس أركان الجيوش الأمريكية السابق كولن باول..نقول أراد من كل ذلك أن ينتقل بالمملكة إلى مرحلة جديدة تكون فيها هذه المملكة:
1ـ رأس الحربة في مواجهة إيران ومحورها، ولها اليد الطولى في تقرير مصير المنطقة ودولها..
2ـ أن تكون المملكة قوة عسكرية كبيرة في المنطقة، من خلال تسليح جيشها بالأسلحة المتطورة، ومن خلال تكديس هذه الأسلحة، كما وأيضاً من خلال الاستعانة لجيوش دول أخرى مثل باكستان والسودان ومصر وماليزيا بالإضافة الى جيوش دول الخليج- درع الجزيرة- وما إلى ذلك.
3ـ أن تكون المهيمنة على الدول الأعضاء في مجلس التعاون باستثناء الإمارات المتحالفة مع المملكة، وحينما رفضت هذه الدول، فكر بن سلمان بضمها إلى السعودية، وعلى أساس هذه الخلفية أثيرت الأزمة مع قطر، حيث كان مخططاً احتلال قطر، لكن تطورات إقليمية ودولية غير متوقعة حصلت وحالت دون حصول مثل هذا السيناريو. مع الكويت لم تصل الأمور إلى ما وصلت إليه مع قطر، لكن العلاقات توترت إلى حد أضحى فيه الكويتيون يتوجسون خيفة من احتمالات قيام السعودية بحملة عسكرية على بلادهم، ورغم أن مثل هذه الحملة لم تحصل إلا أن العلاقات مازالت يشوبها التوتر كما هو حال العلاقات بين السعودية وسلطنة عمان!!
الاندفاعية السعودية بقيادة بن سلمان هذه، بالإضافة إلى تداعيات الأزمة مع قطر تسببت في زيادة تصدع أركان مجلس التعاون الخليجي، ولذلك كانت قمة العام الماضي قمة هزيلة لم يحضرها في الكويت سوى الأمير القطري، وأمير الكويت البلد المضيف وسلطنة عمان..
ولا نجانب الحقيقة إذا قلنا انه لو قُيض لبن سلمان النجاح في عدوانه على اليمن، لأقدمت السعودية على احتلال قطر والكويت وعمان وتنصيب أنظمة عليها تابعة للنظام السعودي على غرار النظام البحريني الذي تحول إلى أداة سعودية تنفذ كل ما يملي عليها النظام السعودي من أوامر وسياسات ومواقف، غير أن نكبة النظام السعودي ومعه الإماراتي في عدوانهما على الشعب اليمني وتلقين اليمنيين هذا العدوان وقواه الغازية الهزائم تلو الهزائم. حالت دون ذلك ثم جاءت فضيحة جريمة قتل الصحافي المخضرم جمال خاشقجي، لتوجه ضربة أخرى لطموحات ولخطط بن سلمان ومن يقف ورائه.
أمريكا والكيان الصهيوني وبدائلهما لمجلس التعاون
العامل الآخر، والذي لا يقل أهمية عن العوامل الإقليمية المسببة في تضعيف وتصدع مجلس التعاون الخليجي، هو أن الولايات المتحدة والكيان الصهيوني كانا غير متحمسين لبقاء هذا المجلس، لأنهما يريدان منظومة جديدة تقوم على أساس ما أستجد من تحديات ومن استحقاقات سياسية وحتى عسكرية، هما يريدان توظيف طموح بن سلمان في الوصول إلى العرش في إنشاء تشكيل عسكري باسم الناتو السني بديلاً عن مجلس التعاون، وذلك يفسر دور أمريكا في إثارة الأزمة بين قطر والسعودية، صحيح أن الإدارة الأمريكية وظفت هذه الأزمة في حلب الطرفين القطري والسعودي المزيد من الأموال الطائلة، لكن كان بإمكان الإدارة الأمريكية تلك تصدر أوامر لهذه الأنظمة بالمحافظة على المجلس ومنظومته، وعلى وحدة هذه الدول في إطار هذه المنظومة، لأن هناك مصلحة صهيونية أمريكية لتفكيك هذه المنظومة للأسباب التي أشرنا إليها والدليل على ذلك يمكن أن نرصد ملاحظتين في القمة الأخيرة رغم هزالتها وضعفها هما:
1ـ المحافظة على التشكيلة العسكرية لدول المجلس، فرغم أن قطر تقاطع القمة، إلا أن رؤساء أركان جيوش هذه الدول اجتمعوا قبل القمة في الكويت واتفقوا على برامج عسكرية وإجراءات ودفاع مشترك بعيداً عن الخلافات السياسية بين أنظمة هذه الدول.. وكأن هذه الخلافات غير موجودة، لأن هذه التشكيلة العسكرية تريدها أمريكا والكيان الصهيوني أن تكون نواة ما يطمحان إليه من تشكيل حلف الناتو السني الذي يضم جيوش مصر والأردن بالإضافة إلى جيش الكيان الصهيوني، وهذا ما كشف عنه وزير الخارجية عادل الجبير في مؤتمره الصحفي الذي عقده بعد انتهاء قمة الرياض الأخيرة، حيث تحدث صراحة عن إقامة حلف "ناتو" عربي سني جرى اختيار اسم له هو تحالف الشرق الأوسط الاستراتيجي، وكذلك تعيين قائد سعودي هو (الفريق الركن عيد بن عواض الشلوي)، للقيادة العسكرية الخليجية الموحدة وكشف الجبير عن أن محادثات تجري حالياً بين دول المجلس ومصر والأردن مع أمريكا للتوصل إلى ترتيبات أمنية جديدة في المنطقة بهدف مواجهة العدوان الخارجي، في إشارة إلى إيران!
2ـ الملاحظة الثانية، هي أن القمة على الرغم من هزالتها وضعفها لكنها أولت الجانب الاقتصادي أهمية كبيرة، كما جاء في البيان الختامي، وبصورة أخص أكدت على وصل دول المجلس وربطها بشكبة سلك حديدية، وهو المشروع الذي أتفق عليه بن سلمان مع الجانب الصهيوني والأمريكي في زيارة الرئيس الأمريكي للرياض وفي الاتصالات واللقاءات السرية والعلنية بين المسؤولين الصهاينة والمسؤولين السعوديين، في الأشهر الماضية، ذلك من أجل تعزيز عملية التطبيع بين هذا الكيان ودول المجلس الخليجي، فالقمة رغم كل الاختلافات والتوترات التي تسود أجواء العلاقات بين أعضائها إلا أنها توحدت في التأكيد على ضرورة ربط دول المجلس بشبكة السلك الحديدية، لأن العدو وأمريكا يريدان ذلك، ولأن هذه الشبكة سوف تسهل بالإضافة إلى عملية التطبيع، مهام الحلف الذي يريدون إنشائه.
ما يفرز ما أشرنا إليه، هو تلميح عبد الرحمن الراشد أحد أذرع محمد بن سلمان، ورئيس قناة العربية السابق، إلى قرب حل مجلس التعاون الخليجي وتشظيه وانتهاء أعماله بلا رجعة، في مقاله الذي نشر في صحيفة " الشرق الأوسط " السعودية في عددها الصادر في يوم الأحد 9/12/2018 أي في يوم انعقاد القمة الخليجية..صحيح أنه أناخ باللوم في ذلك على قطر، لكن ذلك التعلل إنما هو عملية تضليل للرأي العام، ومحاولته إخفاء السبب الحقيقي لتفكك مجلس التعاون الخليجي، لأنه لا يستطيع القول صراحة، إن هناك إرادة أمريكية وصهيونية للتخلص من هذه المنظومة، والاستعاضة عنها بتشكيلة أخرى.
ارسال التعليق