مقابلة "فوكس نيوز" ليست نقطة تحول
[عبد الرحمن الهاشمي]
عبد الرحمن الهاشمي
في مقابلة نادرة مع شبكة فوكس نيوز، إختارها الأمير السعودي محمد بن سلمان كمنصة للإعلان عن توجهه التطبيعي بشكل رسمي، أعلن فيها بصراحة “إننا في كل يوم نقترب خطوة من الاتفاق”، ومشددا على المضي في هذا المسار بمعزل عن طبيعة القيادة الصهيونية التي تقود الحكومة الإسرائيلية، في إشارة بأن لا مانع مبدئي لديه في ترسيم التطبيع حتى في ظل حكومة اليمين الاكثر تطرفا في تاريخ الكيان بزعامة نتنياهو.
في هذه المقابلة لم يشر الأمير محمد بن سلمان إلى حل الدوليتين كأساس لهذا الإتفاق ولا إلى الحقوق الثابتة والتاريخية للشعب الفلسطيني، ولا لمسألة القدس ووضعها النهائي، بل تحدث عن اتفاق يلبي احتياجات الفلسطينيين ويجلب الهدوء إلى المنطقة وكرر ذلك بصيغة مؤكدة، " لا أريد تعطيل الأمور لأنني أريد تحسين حياة الفلسطينيين حقّا"، وهذا نفس ما تعرضه القيادات الصهيونية على السلطة الفلسطينية؛ مجرد وعود ببعض الرفاه الإقتصادي، في مقابل التنازل عن صيغة "دولة فلسطينية وعاصمتها القدس"، وقمع المقاومة الفلسطينية المتصاعدة في الضفة الغربية خاصة. فقد كان رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو واضحا وحاسما حين صرح بأنه يجب العمل على اجتثاث فكرة إقامة الدولة الفلسطينية، وقطع الطريق على تطلعات الفلسطينيين لإقامة دولة مستقلة لهم.
إذا فنحن أمام توجه براغماتي فج، يقايض تظهير العلاقة السعودية الإسرائيلية بحق الرياض في التخصيب النووي للإستعمالات المدنية والحصول على الأسلحة المتطورة، مع إلزام الكيان وعبر الضغط الأمريكي باتخاذ خطوات نوعية تجاه الفلسطينيين على الصعيد الإقتصادي والمعيشي.
وقد تبدو الحاجة ملحة إلى التذكير ببعض الحقائق التاريخية لفهم مقابلة فوكس نيوز وعدم تهويل معطياتها، فالنظام السعودي لم يكن على مدى تاريخه معاديا لا للحركة الصهيونية ولا لقيام دولة (إسرائيل)، فلقد انخرطت الدولة السعودية؛ بعد الطور البريطاني المتسم بالتعاطف مع المسألة اليهودية؛ في المشروع الامريكي الراعي للدويلة الصهيونية الناشىئة منذ ذلك اللقاء الذي جمع الملك عبد العزيز آل سعود بالرئيس الأمريكي فرنكلين روزفلت على متن الباخرة كوينسي. فأظهرت المعاداة للثورة الناصرية وأستنزفتها في حرب اليمن، كما سخرت إيديولوجيتها الدينية في صيغتها الوهابية لنشر العنف، والانغلاق، والكراهية والتكفير في العالم الإسلامي خدمة لأمن وإستقرار وتوسع الكيان الصهيوني. وحتى وهي تتظاهر إلتزامها الإجماع العربي فيما يخص قضية الصراع العربي الإسرائيلي كما كان يسمى، كانت هي صاحبة المشاريع التسووية، وهكذا كانت أوّل مبادرة تسووية مبادرة الأمير فهد (الملك لاحقاً) للسلام المعروفة باسم مبادرة فاس بمناسبة إنعقاد القمة العربية في فاس (المغرب) عام 1981، وصولا إلى ما يسمى ب "مبادرة السلام" العربية، التي أقرّها مؤتمر القمة العربي الرابع عشر في مدينة بيروت في مارس 2002، بعد أن عرضها الأمير عبدالله بن عبد العزيز، ولي العهد السعودي آنذاك. ولا يفوتنا في هذا السياق الإشارة إلى الوثيقة التاريخية التي نشرتها وزارة الخارجية الأميركية عن دعم السعودية للمفاوضات المصرية الإسرائيلية التي أفضت إلى إبرام اتفاقية كامب ديفد للسلام بين مصر و(إسرائيل) عام 1979. وجاء في تلك الوثيقة أن سعود الفيصل أكد للوفد الأميركي حينها دعم بلاده للعملية السلمية بين القاهرة وتل أبيب.
ولا يخفى الدور السعودي في الإحتلال الأمريكي لبغداد، وفي محاولة إسقاط النظام السوري وتفكيك سوريا، كما أن التنسيق الامني والاستخباراتي بين الرياض وتل أبيب بلغ مستوى التداخل العملياتي كما تجلى ذلك بوضوح على الساحة الإيرانية في تأجيج وتوجيه أعمال الفوضى والتخريب التي شهدتها إيران مطلع الخريف من العام الماضي.
إن الخدمات التي قدمها النظام السعودي للمشروع الصهيوني لا يمكن تقدير قيمتها الإستراتيجية، حتى أنه ليمكن القول بأن بقاء (إسرائيل) إلى اليوم كان نتيجة الأدوار السعودية الحاسمة في توفير بيئة إستراتيجية مناسبة لإستمرار الكيان الصهيوني.
تأسيسا على هذه المعطيات في شكلها المختزل، فإن مفهوم التطبيع لا يصدق على حليفين تاريخيين، بل ما يحصل الآن ليس إلاّ لحظة تظهير هذه العلاقة المتينة والعريقة اقتضتها المصلحة الأمريكية في إستنقاذ (إسرائيل) من ورطتها الوجودية وتفككها الداخلي، من هنا إهتمام الرئيس بايدن بهذه الصفقة بشكل لافت، إذ في التقدير الأمريكي فإن نجاح الإتفاقية سيحمل نتنياهو على مرونة في مخطط التعديلات القضائية من خلال تحصيل توافق واسع بخصوصها، وذلك لضمان الإستقرار في الكيان وتجميع أوسع تأييد للصفقة مع السعودية.
ومن المؤكد أن الأمير محمد بن سلمان، لن يمضي في هذه الإتفاقية لتظهير العلاقة رسميا وديبلوماسيا إلا إذا ضمن ثمنا فلسطينيا كغطاء يسمح له بتبرير القرار أمام شعوب العالم العربي والإسلامي، وللمفارقة فإن هذا الثمن هو أيضا يشكل مطلبا أمريكيا إذ تريد الإدارة الأمريكية استغلال الفرصة لإعادة الكيان إلى مسار الحرص في السلوك مع الفلسطينيين الذي سيمنع التقويض النظري (لا الواقعي) لحل الدولتين، وفي هذا السياق، تم التأكيد على أن الرئيس بايدن يتوقع من كيان العدو اتخاذ إجراءات فورية لمنع التدهور الأمني والاقتصادي على الساحة الفلسطينية.
وإنه لمن اللافت أن تتعالى أصوات معارضة للتخصيب السعودي في سياق الصفقة التي تطبخ برعاية أمريكية، في حين لا يُسمع حسيسا لأي صوت إعتراضي على "التطبيع السعودي" من داخل مملكة الظلام، إنه القمع والترهيب الذي يباركه "العالم الحر" والذي لا يتردد معه في وصف ولي العهد السعودي بالقائد صاحب البصيرة ورائد التحديث في السعودية!
ارسال التعليق