منابر الحرمين الشريفين ومخطط أسلمة التطبيع
[عبد الرحمن الهاشمي]
بقلم عبد الرحمن الهاشمي
بعد عقود متطاولة تم فيها توظيف منبري الحرم المكي والمسجد النبوي الشريف لنشر العقائد الوهابية بينالمسلمين ، وإستغلال موسم الحج لنفس الغرض بما يشمل خطبة يوم عرفة في مسجد نمرة ، وهي العقائد التي أثارت الفتن في العالم الإسلامي وأصلّت لظاهرة التكفير وكرست فهما متخلفا للدين وأوجدت فضاءات ثقافية متخلفة تنقلب معها الأولويات وتضيع فيها محددات الأعداء الحقيقيين للأمة ، وأسهمت في بروز جماعات دينية تكفيرية تعتمد النهج الإرهابي مع كل من يخالف معتقدها مما تسبب في أضرار هائلة لحقت سمعة الإسلام وصورته ومكانته بين الأديان وفي العالمين . فها هو النظام السعودي يتخذ قرارا خطيرا بتكليف محمد عبد الكريم العيسى الأمين العام لرابطة العالم الإسلامي، رئيس هيئة علماء المسلمين،المعروف بتوجهه التطبيعي وإمام المصلين على أرواح اليهود ضحايا الهولوكست في معسكر أوشفيتز في مستهل عام 2020، وأحد رموز تطويع الإسلام وفق رؤية محمد بن سلمان الليبرالية الملفقة.
ما حصل يوم عرفة من فرض شخصية محمد العيسى لأداء الخطبة وإمامة الصلاة بحجاج بيت الله الحرام أمر فائق الخطورة، ليس فقط لأن الخطيب معروف بمواقفه التطبيعية ويحظى برضا الدوائر الصهيونية،ويشيد الإعلام العبري بتصريحاته ومواقفه المتصهينة حتى أن الخارجية الإسرائيلية تحتفي بشكل لافت بالرجل ووجدت فيه عرّاب التطبيع الخليجي مع الكيان المحتل وصوتا يمثل مزاعم الإعتدال الإسلامي، بل لأن تكليف هذا "العيسى" بالذات يعتبر طفرة وقحة في توظيف الحج ومنبري مكة والمدينة المنورة لممارسة اكبر عملية تضليل لتمرير التطبيع وتبريره دينيا بما يتعدى التناول السياسي الذي يركز عادة على ضرورات الأمن القومي والتحصن من الخطر الإقليمي الذي -حسب الزعم- تمثله إيران.
وبالعودة إى مضمون خطبة المتصهين محمد العيسى فإننا سنقف على ذلك العبث بالنصوص كما بالمقاصد الدينية، وطبعا لن نعلق على خلوّ خطبته من ذكر فلسطين وما يتعرض له المسجد الأقصى من تدنيس وإقتحامات ممنهجة تهدف إلى التقسيم المكاني والزماني في أفق هدمه، ولا لعدم إشتمالها على أي عنوان من العناوين التي تحيل على قضايا الأمة الأساسية والتحديات والمخاطر التي تواجهها!
ففي الخطبة ورد هذا القول والذي يرتكز إلى عمومات دينية معلومة لكنه يتوسل بها إلى غايات منكرة،يقول العيسى:"إن من قيم الإسلام البعد عن كل ما يؤدي إلى التنافر والبغضاء والفرقة وأن يسود تعاملاتنا التواد والتراحم. وهذه القيم محسوبة في طليعة معاني الاعتصام بحبل الله حيث يقول جل وعلا: ( وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا ) والوحدة والأخوة والتعاون تمثل السياج الآمن في حفظ كيان الأمة وتماسكه، وحسن التعامل مع الآخرين.وهو ما يشهد على أن الإسلام روح جامعة، يشمل بخيره الإنسانية جمعاء، ونبيه الكريم صلى الله عليه وسلم وهو القائل: "خير الناس أنفعهم للناس". لذا سما التشريع الإسلامي بإنسانيته التي لا تزدوج معاييرها، ولا تتبدل مبادئها فأحب الخير للجميع وألف قلوبهم".
فحسن التعامل مع الآخرين عندما يدلس به محمد العيسى ، فهو لا يحده بضابط شرعي وحقوقي وحتى أخلاقي ، ف"الآخرين" هنا هم أيضا اليهود الصهاينة الذين يحتلون فلسطين ويتربصون شرا بالأمة والإنسانية جمعاء، بل هم المعنيون في هذا المقطع من خطبته الأثيمة. وقد وجدناه وفي مورد آخر يحمل في خطبته ومن دون جرأة في الوضوح على من وصفهم بالجهل والسفه وهم الذين ادانوا أن تسند خطبة يوم عرفة لرجل يجاهر بالتطبيع ويعمل لأجله.
إنّ خطبة العيسى في يوم عرفة وما رشح منها كإشارات، تعطي فكرة عن المنهج الذي سيتم اعتماده في أسلمة التطبيع المعزَّز بقداسة المكان، وهو الإنطلاق تكتيكيا من عمومات دينية كالتواد والتراحم والبعد الإنساني في الإسلام، ومن ثم التحايل على إبراز إطلاقيتها وشمولها دون تخصيص او تقييد. وطبعا سيتم تجاوز أخطاء وقصور تديين السلام مع العدو في التجربة المصرية مع اتفاقية كامب ديفيد على عهد أنورالسادات.
عندما انتشر؛ قبل أيام؛ خبر تكليف محمد العيسى بخطبة يوم عرفة سادت حالة من الإستنكار بين المسلمين، وتم تداول بعض الفتاوى في مواقع التواصل الإجتماعي القاضية بعدم جواز الصلاة خلفه ؛صلاتي الظهر والعصر جمعا وقصرا؛ لكن ذلك لم يثن من كلفه بالأمر على المضي في هذا القرار، وهوتكليف يمكن قراءته كعرض سياسي كبير بين يدي زيارة الرئيس الأمريكي جون بايدن للمنطقة، ومفاده أن السعودية التي كانت منصة مهمة في الحرب على الشيوعية ومعاداة المعسكر الإشتراكي ومعه كل حركات التحرر الوطني على زمن القطبية الثنائية هي مؤهلة اليوم لتضطلع بدور محاربة ثقافة المقاومة والتصدي لتيارات مناهضة التطبيع في الأمة، وأنها ستفعل ذلك من أقدس البقاع في العالم الإسلامي ومن على منبري المسجد الحرام والمسجد النبوي الشريف. وطبعا عروض الخدمة هذه تأتي وفق شروط وأثمان على الإدارة الأمريكية الوفاء بها وفي مقدمتها مراجعة كاملة للموقف الأمريكي من محمد بن سلمان بعد تورطه في جريمة تصفية جمال خاشقجي والقبول بتوليه عرش المملكة ، وعدم المضي في مفاوضات إحياء الإتفاق النووي مع إيران.
ومما يؤسف له أن مواقف العالم الإسلامي وردود فعل دوله وهيئاته الدينية على هذا العبث بالحج والتصرف فيه وكأنه شأن يخص أسرة آل سعود شبه معدومة، ولقد شجع تخاذل العالم الإسلامي تمادي الأسرة السعودية الحاكمة ليس فقط في التدبير الآحادي للبقاع المقدسة والتصرف فيها دون مشورة، وفي إعتماد العقيدة الوهابية مرجعية يتم بمقتضاها التضييق على الحجاج وأعمال حجهم واتهامهم بالشرك،وتفريغ الحج من مقاصده التي شٌرّع لأجلها، بل وصل بهم الحد إلى استغلال الحج والمنابر المقدسة لأجل التبرير الديني للتطبيع تحت شعارات التسامح والسلم العالمي ونبذ الكراهية والأخوة الإنسانية..
إن أزمات الطاقة في العالم على خلفية الحرب في أوكرانيا يجني منها النظام السعودي عوائد مالية كبرى،وهذا بالنتيجة سيعزز من مكانته الدولية أكثر ويرفع من قدرته التأثيرية في العالم الإسلامي وهو ما يكسبدوره في أسلمة التطبيع خطورة مضاعفة.
فقد لا يكون النظام السعودي مضطرا في هذه المرحلة إلى إعلان رسمي عن اتفاقية تطبيع مع الكيان الصهيوني، فالإعلان سيضعف من موقفه ويحرجه إسلاميا وهذا ما تتفهمه "إسرائيل" نفسها، طالما أنّ العلاقات بين الكيانين ترقى إلى مستوى تحالف إستراتيجي متعاظم. لكنه سيعمل على صياغة نسخة من الإسلام تتقبل التطبيع وتحث عليه تماما كما تتقبل الفجور والفساد كما شهدنا على ذلك في مدينتي جدة والرياض خاصة، هذه النسخة من الإسلام "المعتدل" سيكون المستهدف بها كل العالم الإسلامي كما كان الإستهداف بالوهابية شاملا لكل العالم الإسلامي وحتى للمسلمين في المهاجر بكل القارات. وهذا ما يرتب مسؤوليات جسيمة على المسلمين كافة فالتحالف السعودي الصهيوني خطر جدي على الأمة وجودا ومصالح حيوية وخطر على الإسلام الذي تتم صياغته هذه المرة وفق متطلبات الصلح بل التحالف مع اليهود.
والآن وقبل أي وقت مضى يجب أن يتحول مشروع الوصاية الإسلامية على الحرمين الشريفين إلى مشروع جدي ويجب أن يرتفع الصوت الإحتجاجي عاليا بوجه آل سعود وتسخيرهم لمنابر الإسلام خدمة للصهيونية العالمية، ويجب أن تتشكل حركة عالمية من قلب العالم الإسلامي تتبنى هذا المشروع وتعبئ جمهور المسلمين عليه.
فلنذكر جيدا خطيب وخطبة يوم عرفة الموافق الجمعة 9 ذو الحجة 1443، فهل تكون الأمة في مستوى الرد على هذا العبث والإجرام السعوديين؟؟؟
ارسال التعليق