انتكاسات نيوم.. ماذا تبقّى من مدينة الأحلام ابن سلمان الموعودة
بقلم: إسراء سيد...
“ذا لاين مدينة المستقبل تتطور بسرعة، كما هو الحال في مركز أوكساجون للصناعات المتقدمة والنظيفة، ووجهتنا الفاخرة في جزيرة سندالة، وجبال نيوم في تروجينا، حيث يعمل أكثر من 3 آلاف موظف هنا في نيوم، إضافة إلى أكثر من 60 ألف عامل بناء، مع حركة بناء متسارعة وتدفق الاستثمارات واسعة النطاق، واستقبال أفضل المواهب في العالم يوميًا”.
هكذا يبدو المستقبل وفقًا لهذا الإعلان الترويجي وغيره الكثير من الإعلانات الممولة، في مدينة “نيوم”، أو مدينة “المستقبل الجديد”، وهي من بنات أفكار ولي العهد السعودي والحاكم الفعلي للمملكة محمد بن سلمان، التي جرى تقديمها باعتبارها التغيير الذي لم يجرؤ أحد على خوض غماره من قبل، و”جوهرة التاج” لرؤية 2030، وقفزة جريئة نحو تنويع اقتصاد بلاده المعتمد على النفط.
ومع ذلك، قد لا يرى مشروع “نيوم” النور وفق المخطط الزمني المرسوم له، حيث تعددت التقارير الإعلامية حول تراجع الآمال السعودية المعقودة على المشروع الطموح، واضطرت التحديات المالية واللوجستية والجيوسياسية الرياض إلى مراجعته وخضوعه لعملية إعادة تقييم كبرى وسط تراجع كبير في الطموحات، فكيف يبدو المشروع بعد 7 سنوات من الإعلان عنه؟
كيف تغيرت الطموحات:
في عام 2016، كشفت السعودية عن “رؤية 2030” باعتبارها الطريق نحو المستقبل، التي أعلن عنها ولي العهد السعودي ضمن ما سماها “مشاريع الإصلاح” التي يقول منتقدوه إنه “يغازل بها الغرب”، بينما يعتقل أو يقتل كل من يغرّد خارج السرب، أو حتى الذين لا يعلنون تأييدًا صريحًا له.
وتهدف هذه الرؤية إلى تقليل اعتماد البلاد على النفط، وتنويع اقتصادها من خلال مشاريع ضخمة طموحة للغاية، وتماشيًا مع هذا أطلق محمد بن سلمان مشروع مدينة ضخمة مبنية من الصفر بحجم يزيد عن 13 ضعفًا عن حجم مدينة الرياض، تسمّى “نيوم”، خلال “مبادرة مستقبل الاستثمار”، وهو مؤتمر جذاب للمستثمرين الدوليين عُقد عام 2017 في فندق “ريتز كارلتون” بالرياض، وهو الفندق نفسه الذي أصبح بعد أيام سجنًا لرجال الأعمال الذين تتهمهم حكومته بالفساد.
وأعلن ابن سلمان من على المسرح أن الفرق بين “نيوم” ومدينة عادية سيكون صارخًا مثل الفجوة بين هاتف نوكيا القديم والهاتف الذكي الأنيق، ومنذ ذلك الحين يعتزم ولي العهد أن تكون “نيوم”، وهي مشروع مترامي الأطراف عالي التقنية بقيمة 1.5 تريليون دولار في شمال غرب المملكة، بمثابة تحفة فنية من شأنها أن تحوّل اقتصاد بلاده، واختبار للتكنولوجيات التي يمكن أن تحدث ثورة في الحياة اليومية.
وفي يناير/ كانون الثاني 2021، أصدر محمد بن سلمان فيلمًا ترويجيًا قصيرًا يوضح خططه لإنشاء “ذا لاين” (The line)، وهي مدينة خطية وُصفت بأنها “مدينة المستقبل”، سيتم بناؤها على الساحل الشمالي الغربي للمملكة على مساحة 34 كيلومترًا مربعًا، وتتكون من ناطحتَي سحاب بواجهة زجاجية من المرايا، بارتفاع 500 متر، وعرض 200 متر فقط، ويمرّان عبر شريط حضري ضيق يبلغ طوله 170 كيلومترًا، ومن المتوقع أن يكون حجمها أكبر بـ 33 مرة من مدينة نيويورك.
وإلى جانب مشروع “ذا لاين”، أعلن ولي العهد السعودي عن مبادرات كبرى لـ”نيوم” تشمل أيضًا إنشاء مدينة صناعية وموانئ وتطورات سياحية، من بينها أكبر مجمع صناعي عائم في العالم يعرف بـ”أوكساجون“، ومطار الملك سلمان الجوي الذي من المفترض أن يستوعب 120 مليون مسافر بحلول عام 2030، ومشروع جزيرة “سندالة” قبالة ساحل نيوم، ومن المقرر أيضًا أن تستضيف دورة الألعاب الآسيوية الشتوية لعام 2029 في منتجع تزلج جبلي للأنشطة الخارجية يسمّى “تروجينا“، ويضم بحيرة صناعية و36 كيلومترًا من المنحدرات.
مقارنة بغيرها من مشاريع “نيوم”، تم الاحتفال في البداية بتصميم “ذا لاين” الثوري، واستحوذت طموحات محمد بن سلمان لهذا المشروع على اهتمام مخططي المدن والمهندسين المعماريين من جميع أنحاء العالم، ووصفت نيوم بأنها “طريقة جديدة للحياة منذ الولادة وحتى الموت تصل إلى طفرات جينية لزيادة القوة البشرية ومعدل الذكاء”، وفقًا لمقال نُشر في صحيفة “وول ستريت جورنال” عام 2019.
وأظهرت الرسومات تصور ولي العهد لمدينة موجودة داخل هياكل ذات مرايا قد تكون أطول من مبنى “إمباير ستيت” في نيويورك، ويتضمن المشروع تخطيطًا أقرب إلى أفلام الخيال العلمي لتلقيح السحب والاستمطار الصناعي في الصحراء القاحلة وتحلية المياه والطاقة البديلة والزراعة الصحراوية، لكن تلك الأفكار طغت عليها الأحاديث الجامحة عن القطارات فائقة السرعة والروبوتات والشواطئ ذات الرمال المتوهجة.
ومع ذلك، تشير التقارير الأخيرة إلى أن هذه الخطط واجهت طريقًا مسدودًا، حيث قلصت السعودية طموحاتها لتطوير الصحراء في “نيوم” ومدينتها الخطية الصحراوية المكسوة بالمرايا “ذا لاين”، التي كان من المفترض ضخّ 500 مليار دولار في مشاريعها ذات الصلة، وهو مبلغ كبير حتى بالمعايير السعودية، لكنّ مخططي “نيوم” يعتقدون أن البناء سيكلف تريليون دولار بدلًا من التكلفة المعلن عنها.
وبحلول عام 2030، كانت الحكومة تأمل في وقت ما أن يستوعب مشروع “ذا لاين” 1.5 مليون، مع خطط لزيادة طاقته الكاملة إلى 9 ملايين شخص بحلول عام 2045، والآن من المتوقع أن يعيش هناك أقل من 300 ألف ساكن بحلول نهاية هذا العقد.
ومنذ فترة طويلة، قال المسؤولون السعوديون إن “ذا لاين” سيتمّ بناؤها على مراحل، ويتوقعون أن تغطي في النهاية مساحة 170 كيلومترًا بطول الصحراء الساحلية، وفي وقت سابق من هذا الشهر كشفت وكالة “بلومبيرغ” عن انخفاض هائل في نطاق المدينة، وبموجب التوقعات المعدلة سيتم الانتهاء من 2.4 كيلومتر فقط من المشروع بحلول عام 2030.
وفي هذه المرحلة، يمكن القول إن أكبر موقع بناء في العالم يضم أكثر من 140 ألف عامل، ومن المقرر أن يصل هذا إلى 200 ألف بحلول العام المقبل، وعلى عكس ما هو متوقع، بدأ أحد المقاولين بتسريح جزء من العمال الذين يوظفهم في الموقع، وفقًا لوثيقة اطّلعت عليها “بلومبيرغ”، وتشير تخفيضات القوى العاملة إلى أن المشروع معرض للخطر.
ويأتي التقليص الكبير في جميع أنحاء المشروع في الوقت الذي لم يوافق فيه صندوق الثروة السيادي للمملكة بعد على ميزانية نيوم لعام 2024، ويظهر أن الحقائق المالية للاستثمارات التي تبلغ قيمتها تريليونات الدولارات بدأت تثير القلق على أعلى المستويات في الحكومة السعودية، في الوقت الذي تحاول فيه تحقيق رؤيتها المكلفة بالتخلي عن النفط والتركيز على التكنولوجيا والابتكار.
والسبب الآخر لهذا التعثر هو رؤية ولي العهد المتغيرة للمشروع، علاوة على ذلك إن العديد من الموظفين الرئيسيين المشاركين في المشروع يتغيرون باستمرار، فقد استقال العديد منهم، وألقوا باللوم على بيئة العمل السامة وحالات التحرش الجنسي بحق موظفات، وثقافة الإفراط في الإنفاق دون رؤية النتائج، ويصف بعضهم رؤية “نيوم” بأنها “مدمرة ومنفصلة عن الواقع”.
ويشير الخبراء إلى أن التوقعات الأولية لـ”ذا لاين” كانت مفرطة في التفاؤل، ولم يعد المشروع ممكنًا على الإطلاق كما تم تقديمه في البداية نظرًا إلى العوامل المالية والاقتصادية، كما يفتقر إلى البنية التحتية الحضرية اللازمة لمثل هذا المسعى المبتكر، وتؤدي التحديات المالية والجيوسياسية، بما في ذلك عدم الاستقرار الإقليمي وعدم كفاية الاستثمار الأجنبي المباشر، إلى زيادة تعقيد مستقبل “نيوم” ككل.
وفقًا للمسؤولين، فإن العمل مستمر في أجزاء أخرى من مشروع “نيوم” الأوسع، على سبيل المثال من المقرر افتتاح مشروع تطوير آخر داخل “نيوم” يحوّل جزيرة في البحر الأحمر إلى وجهة سياحية فاخرة لملّاك القوارب وعشاق اليخوت تعرَف باسم “سندالة” هذا العام، والذي سيضم 86 رصيفًا بحريًا و75 عوامة إرساء بحرية، ستقصده أروع السفن حول العالم في البحر الأحمر.
في المقابل، من المقرر تأجيل الإطار الزمني لبعض المشاريع الكبرى المبينة في هذا البرنامج إلى ما بعد عام 2030، لكن دون أن يحدَّد أي مشاريع منها، وهو ما أكده وزير المالية محمد الجدعان في ديسمبر/ كانون الأول الماضي، بقوله إن “بعض المشاريع يمكن تأجيلها لمدة 3 سنوات، وبعضها أبعد من ذلك”، مضيفًا أن “هناك حاجة إلى فترة أطول لبناء المصانع والموارد البشرية الكافية”، وأن “تأخير بعض المشاريع أو تمديدها سيخدم الاقتصاد”.
ووفقًا للمحللين، فإن المشاريع المرتبطة بأحداث معينة من المرجح أن تحظى بالأولوية، ففي العام الماضي برزت المملكة باعتبارها الدولة الوحيدة التي قدمت عرضًا لاستضافة كأس العالم 2034، ما يعني أن أمامها الآن عقدًا من الزمن لبناء الملاعب اللازمة وتعزيز قدرتها على الإقامة والنقل بينما تحاول في الوقت نفسه تحقيق أهداف “نيوم”، وهذا يفرض عليها موازنة بناء بعض المشاريع في “نيوم” جنبًا إلى جنب مع الالتزامات الأخرى، بما في ذلك أعمال البناء قبل كأس العالم.
انتكاسات نيوم:
عند الإعلان عن المشروع، وعد ولي العهد السعودي بأن أول مدينة في “نيوم” ستكون جاهزة بحلول عام 2020، فضلًا عن بناء 12 مدينة متاخمة للبحر خلال 5 سنوات، و6 أو 7 بلدات في الوادي والجبال، بالإضافة إلى منطقة صناعية وميناء ضخم و3 مطارات وآخر دولي كبير، على أن يتم الانتهاء من المنطقة بكاملها بحلول 2025.
لكن التقارير الواردة تكشف خلاف ما روّج له ولي العهد ومنابره الإعلامية، فلا “ريفيرا نيوم” (البلدة الأولى في المنطقة) أنجزت بحلول 2020، ولا إنشاءات المدن الـ 12 تبدو واضحة على الخريطة.
ولا تزال مدينة “نيوم” ككل التي وصفها ابن سلمان بأنها “دولة صغيرة داخل دولة كبيرة”، واحدة من أكبر وأصعب مشاريع البناء في التاريخ، وبالتالي أصبحت جدواها موضع تساؤل، خاصة بالنظر إلى أن المشروع يمتد على ساحل البحر الأحمر بطول لا يتعدى 300 كيلومتر، وتقع على مفترق طرق 3 قارات، ومساحة شاسعة من الصحراء بحجم بلجيكا، تبلغ 26 ألفًا و500 كيلومتر.
وتؤكد الصور الفضائية التي بثتها قناة “الجزيرة” ضمن تحقيق استقصائي في يونيو/ حزيران 2020، أن الخطط الزمنية للمشروع تسير بخطى متعثرة إلا فيما يخص القصور الملكية التي تمتد على مساحة 2 مليون و350 ألف متر مربع، ويتوسطها قصر ملكي ضخم بمساحة 31 ألف متر مربع، وفي محيطه 25 مبنى للحرس والعمال.
وتظهر الصور الفرق بين التصريحات والوعود وبين ما هو على أرض الواقع. فعلى سبيل المثال، في قرية “شارما” -وهي بلدة متواضعة تضم محلات تصليح السيارات ومنازل خرسانية منتشرة- تم التخطيط لأول مشروع تطوير رئيسي لـ”نيوم”، وبدأت بالفعل أعمال بناء منتجع وفندق في مارس/ آذار 2018، ولم يعلن حتى الآن عن الانتهاء من عمليات التشييد، بينما شُيّدت على أنقاض القرية الأكثر تضررًا من المشروع قصور ملكية ضخمة تربط بينها أنفاق تحت الأرض، ومطار صغير و10 مهابط طائرات هيليكوبتر بدأ العمل عليها عام 2017 وانتهى في فبراير/ شباط 2020.
ورغم الصورة المرسومة لـ”نيوم” باعتبارها إحدى أهم أولويات ولي العهد، وتكرس الدولة السعودية موارد هائلة لتحويلها إلى حقيقة، فإن الواقع بعد 7 سنوات من تطويرها يثبت أن إخراج المشروع من عالم الخيال العلمي يمثل تحديًا هائلًا، حتى بالنسبة إلى حاكم شبه مطلق لديه إمكانية الوصول إلى صندوق الثروة السيادية بقيمة 620 مليار دولار.
وذكر تقرير “بلومبيرغ” في عام 2022، بعد إجراء مقابلات مع 25 موظفًا ومراجعة 2700 صفحة من المستندات الداخلية، أن المشروع تعرض لانتكاسات نشأ الكثير منها عن صعوبة تنفيذ أفكار محمد بن سلمان المتغيرة باستمرار، والعجز عن إخبار الأمير الذي أشرف على سجن العديد من أفراد عائلته أنه لا يمكن تلبية رغباته.
وفي مرحلة ما، كان المسؤولون يأملون أن تستقبل “ذا لاين” أول سكانه خلال العام الجاري، لكنهم استبدلوا هذا الأمل بنجاح رئيسي حققته “نيوم” حتى الآن، وهو تطوير مشروع بقيمة أكثر من 8 مليارات دولار لبناء مزارع للطاقة الشمسية وطاقة الرياح سيتم استخدامها لإنتاج ما يسمّى بـ”الهيدروجين الأخضر” للمركبات التي تعمل بخلايا الوقود واستخدامات أخرى، والذي تأمل المملكة في أن تصبح واحدة من أكبر منتجيه في العالم.
وفي مارس/ آذار الماضي، أفادت “بلومبيرغ” أن أحدث الجهود لتقليص نطاق المشروع تأتي في الوقت الذي يقوم فيه صندوق الاستثمارات العامة بتقييم مجموعة من الخيارات لجمع الأموال، بما في ذلك تسريع مبيعات الديون وتنظيم عروض الأسهم في شركات محفظته.
وفي عام 2022، قال ولي العهد إن المرحلة الأولى من “نيوم” من المتوقع أن تكلف 1.2 تريليون ريال (320 مليار دولار) بحلول عام 2030، دون الأخذ في الاعتبار حقيقة الواقع الاقتصادي منذ تهاوي أسعار النفط بأكثر من النصف منذ عام 2014، المصدر الرئيسي لدخل السعودية منذ نشأتها وحتى اليوم، ومن المتوقع أن يأتي نصف ذلك من صندوق الاستثمارات العامة الذي يرأسه ابن سلمان.
ومع الاتجاه نحو المزيد من الديون لسدّ عجز الموازنة والانخفاض غير المسبوق للاحتياطيات النقدية لصندوق الثروة السيادية، من المتوقع أن يتجاوز مشروع “نيوم” الواقع الاقتصادي للمملكة، خاصة مع الأزمة المالية الراهنة الآخذة في التصاعد، والتي تدق ناقوس الخطر، وتدعو المواطن السعودي للتقشف والاستعداد لما هو أسوأ.
مغازلة المستثمرين:
هناك العديد من المشكلات غير المتوقعة التي تواجهها المشاريع الضخمة الطموحة حتمًا، وفي مقدمتها تضخُّم الميزانية والقيود التكنولوجية والظروف الاقتصادية والرؤية غير المتوافقة مع التنفيذ الواقعي.
وفي حالة نيوم، هناك العديد من الأسباب التي تدفع المملكة إلى تقليص طموحاتها بشأن “نيوم”، ويبدو أن السبب الرئيسي هو الشكوك في التمويل واستنزاف أموال المملكة في مشاريع ضخمة تنفذها بشكل متزامن، بالإضافة إلى فورة إنفاق في مجالات الترفيه.
ومنذ فترة طويلة، تحمل صندوق الثروة السيادية العبء المالي الأكبر الذي تفرضه مثل هذه المشاريع، والتي تقدر قيمة كل منها بعشرات المليارات من الدولارات، بما في ذلك “نيوم” الذي يتم تمويله حتى الآن من قبل الصندوق، وهو الكيان الرئيسي المكلف بقيادة برنامج رؤية السعودية 2030.
لكن الصندوق أعلن في يناير/ كانون الثاني انخفاض نقديته بنحو ثلاثة أرباع إلى 15 مليار دولار اعتبارًا من سبتمبر/ أيلول الماضي، وهو أدنى مستوى له منذ ديسمبر/ كانون الأول 2020، حسبما ذكرت صحيفة “وول ستريت جورنال“.
وضخّت الدولة مبالغ ضخمة من النقد في صندوق الاستثمارات العامة، بما في ذلك تحويل بقيمة 40 مليار دولار في عام 2020، ومع ذلك قد يحتاج الصندوق إلى 270 مليار دولار إضافية من الدولة السعودية بحلول عام 2030، في إطار سعيها لإصلاح الاقتصاد وخفض الاعتماد على عائدات النفط.
وفي نهاية المطاف، إن حجم الثروة التي يولدها السعوديون من النفط لا تكفي لتمويل مشاريع محمد بن سلمان الأكثر طموحًا في “رؤية 2030″، ولم تتمكن الرياض من جذب مستويات الاستثمار الأجنبي المباشر اللازمة لجعل هذه المشاريع الباهظة الثمن قابلة للتحقيق.
ومع ارتفاع الإنفاق استقرت عائدات النفط، ويقدر صندوق النقد الدولي أن الأسعار يجب أن تكون أعلى من 86 دولارًا للبرميل في عام 2023 و80 دولارًا للبرميل هذا العام لتحقيق التوازن في ميزانية الحكومة، وفي الوقت الحالي تنجرف أسعار النفط عند مستوى 81 دولارًا خلال العام الماضي.
وقد أجبر ذلك الحكومة على اللجوء إلى تكتيك لم تستخدمه منذ فترة طويلة لتعزيز أموالها، وهو الاقتراض، في محاولة للمساعدة في تمويل “نيوم” وغيرها من “المشاريع العملاقة” لرؤية 2030، وبحسب ما نقلت “بلومبيرغ” في الآونة الأخيرة، فإن الحكومة السعودية طلبت من جارتها الأصغر الكويت ما يزيد عن 16 مليار دولار لتمويل مشاريع بما في ذلك “نيوم”، للتمكُّن من الاستمرار في تنفيذها.
وأدركت السعودية منذ فترة طويلة أن متطلبات التمويل الخاصة بها ستكون مدعومة في الغالب برأس المال المحلي وجزئيًا فقط بأموال أجنبية، ومع ذلك هي تستهدف زيادة صافي تدفقات الاستثمار الأجنبي المباشر إلى 388 مليار ريال (103.5 مليارات دولار) بحلول عام 2030، لتعزيز الناتج المحلي الإجمالي غير النفطي، وهذا المبلغ أكبر بنحو 3 أضعاف ممّا حققته على الإطلاق، وأكثر بنحو 50% ممّا تحصل عليه الهند اليوم.
وبين عامي 2017 و2022، بلغ متوسط تدفقات الاستثمار الأجنبي المباشر السنوية إلى المملكة ما يزيد قليلًا عن 17 مليار دولار أمريكي، وتظهر البيانات الأولية لعام 2023 أن الاستثمار الأجنبي المباشر أقل من الهدف، عند حوالي 19 مليار دولار، بحسب بيان لوزارة الاستثمار.
بالنظر إلى تدفقات الاستثمار الأجنبي المباشر في السنوات الأخيرة، يبدو أن الوصول إلى هذا الهدف بعيد المنال في الوقت الحالي، حيث يظل المستثمرون الأجانب حذرين، وقد أدى ذلك إلى دراسة إمكانية التمويل الذاتي لجزء أكبر من إعادة تشكيلها الاقتصادي ضمن جدول زمني ضيق، وبدأت بالفعل في تقليص المشاريع العملاقة، والاستعداد لبيع المزيد من الأسهم في “أرامكو” في وقت لاحق من هذا العام، ما قد يعزز تمويل أجندة “رؤية 2030”.
كما يدرس المسؤولون التنفيذيون الآن خططًا لتوفير الأموال النقدية لالتزامات الإنفاق بمليارات الدولارات، من بينها إصدار سندات بالريال للمرة الأولى، والتي يمكن أن تجمع ما يصل إلى 1.3 مليار دولار، للمساعدة في سدّ العجز المالي الذي لم تكن تتوقعه حتى أواخر العام الماضي، حسبما ذكرت “بلومبيرغ“.
وتكثف الحكومة السعودية جهودها لجذب المزيد من الأموال الأجنبية، لكن “نيوم” لم تحرز تقدمًا جدّيًا في جمع رأس المال حتى الآن، رغم إطلاقها حملات ترويجية للتسويق والمستثمرين، لكن التأخير في الموافقة على اللوائح ترك علامات استفهام لدى بعض المستثمرين، بينما يشير آخرون إلى قوانين غير واضحة وغير مختبرة تحكم العقود والاستثمار.
ويبدو أن ولي العهد ما زال يريد من المستثمرين الأجانب المشاركة في تمويل المشاريع العملاقة مثل “نيوم”، لذلك اتجه المشروع السعودي لمطاردة الأموال الصينية وسط تكهنات حول نطاق المشروع وجوانبه المالية، حيث بدأ المسؤولون السعوديون مؤخرًا جولة “اكتشف نيوم (Discover Neom)” من بكين إلى شنغهاي إلى هونغ كونغ، لجذب المستثمرين الصينيين وتسليط المزيد من الضوء على المدينة الضخمة الغامضة، بالإضافة إلى محاولاتهم استقطاب مستثمرين من أوروبا والولايات المتحدة.
وصفت الاجتماعات بأنها وسيلة لإعطاء المصرفيين رؤية على أرض الواقع للتقدم المحرز في التطوير، ووصفت ردود الفعل على المشروع الطموح بـ”المحايدة في الغالب”، ومع ذلك لم يتم الإعلان عن أي صفقات كبرى، ولم يتطرق كبار مسؤولي المشروع إلى التقارير الأخيرة التي تفيد بتقليص خطط المشروع الصحراوي الباهظ التكلفة.
مخاطر الإفراط في التفاؤل:
تعدّ “ذا لاين” الجزء الأهم في خطط ولي العهد السعودي، الذي وصف مشروع المدينة بأنه “يعالج التحديات التي تواجه البشرية في الحياة الحضرية اليوم من أجل إلقاء الضوء على طرق بديلة للعيش”، ووصفتها المواد الترويجية بعبارات غامضة تقريبًا: “مدينة معرفية” و”ثورة حضارية”، حيث سيتم توفير وسائل الراحة عن طريق الذكاء الاصطناعي.
علاوة على ذلك، تم الإعلان عن “ذا لاين” باعتبارها مستقبل التخطيط الحضري الذي يسهل الوصول إليه، حيث يمكن للمقيمين الوصول إلى “جميع الاحتياجات اليومية” في غضون 5 دقائق سيرًا على الأقدام، مع إمكانية الوصول أيضًا إلى امتيازات أخرى مثل مرافق التزلج في الهواء الطلق والسكك الحديدية عالية السرعة، مع العبور إلى الطرف الآخر من المدينة في غضون مدة 20 دقيقة.
ووفقًا للسلطات السعودية، فإن المدينة -التي يبلغ عرضها بضع مئات من الأمتار، والممتدة عبر مدينة تبوك- ستكون خالية تمامًا من الطرق والسيارات والتلوث، وستعمل بالكامل بالطاقة المتجددة، لتكون بمثابة حلّ للزحف العمراني غير المنضبط والمهدر، حيث يتم وضع المنازل والمدارس والحدائق فوق بعضها فيما يطلق عليه المخططون “العمران المنعدم الجاذبية”.
وروجت المواد الدعائية أيضًا لـ”ذا لاين” كمدينة من وحي الخيال العلمي، ويبدو من ذلك أن ابن سلمان يعتقد أن الطبيعة نفسها تحت إمرته، ولا ينبغي أن يكون هذا مفاجئًا تمامًا، لأنه كان يروج لأفكار غريبة بالقدر نفسه منذ عام 2017، عندما قدم لأول مرة “نيوم”، وهي التطور المستقبلي الأوسع التي تشكّل “ذا لاين” جزءًا منها، ومع ذلك لم يكن الجميع مقتنعين بعبارات الأمير البراقة.
وفي واحدة من العروض الترويجية الجذابة لمدينة نيوم، أعيد تصوير مدينة مانهاتن الأمريكية مع عدد سكانها البالغ 9 ملايين نسمة، كمدينة حضرية بتصميم عمودي ذات عمران تنعدم فيه الجاذبية، وبهذه الحيلة التسويقية يهدف القائمون على المشروع إلى إقناع المتشككين بأن مبادئ التصميم المستقبلية الخاصة بهم يمكن استخدامها لإعادة تصميم المدن المزدحمة.
كما ورد أن ولي العهد أخبر مصممي المشروع أنه يفضل جمالية “السايبرانك” المستلهمة من أشهر عوالم الألعاب الإلكترونية، والتي يتداخل فيها بشكل كبير الذكاء الاصطناعي والتكنولوجيا المتقدمة مع مجتمع مثير للإعجاب، كما كلفت “نيوم” مستشارين تركزت ملفاتهم الاستثمارية على أفلام هوليوود الخيالية والبائسة، مثل “حراس المجرة (Guardians of the Galaxy)” و”حرب الزومبي العالمية (World War Z)” و”أنا أسطورة (I Am Legend)”، وهي أفلام تصور نهاية العالم من الزومبي وعواقب الوباء الذي قضى على معظم البشرية.
ومع ذلك، يبدو هذا المشروع -الذي تم تقديمه باعتباره إعادة اختراع للتصميم الحضري- تجسيدًا غير ناضج لمفهوم مفرط الطموح، حيث سيتم بناء “ذا لاين” في 3 طبقات: طبقة للمشاة على سطح الأرض مليئة بالحدائق والمساحات المفتوحة، وطبقتان تحت الأرض إحداهما تتعلق بنقل الخدمات والبضائع بكل سلاسة، والأخرى تمتد أسفل المجتمعات التي يتم بناؤها لدعم النقل فائق السرعة، ويتساءل العديد من النقاد عن جدوى ارتفاع ناطحة السحاب عندما يكون هناك الكثير من الصحراء التي يمكن أن تمتد عبرها “نيوم”.
ويقول المطلعون إن التكنولوجيا اللازمة لمثل هذه المدينة غير موجودة وغير مرتبطة بالواقع، كما أن بناء مدن جديدة ضخمة من الصفر محفوف بالتحديات، وفي العادة لا تظهر هذه المشاريع بالطريقة التي يقصدها أصحاب الرؤى الأصليون، وغالبًا ما يقعون فريسة للظروف الاقتصادية أو لأفكار الآخرين حول ما يجب أن يحدث، أو ينتهي بهم الأمر إلى أن يكلفوا أكثر بكثير ممّا كان متوقعًا، كما يقول مهندس المناظر الطبيعية وأستاذ التصميم البيئي في جامعة كاليفورنيا في دافيس، ستيفن ويلر.
وبعد الكشف عن “ذا لاين” مباشرة تقريبًا، اكتشف المسؤولون التنفيذيون في “نيوم” مدى التحديات التي سيشكّلها المشروع، والتي يتمثل أهمها في بناء الطبقة تحت الأرض التي من المفترض أن تحتوي على مرافق النقل والخدمات اللوجستية، ووفقًا لتقرير مرحلي داخلي اطلعت عليه “بلومبيرغ“، ستكون هناك تكاليف غير طبيعية للبنية التحتية والمرافق العامة نتيجة للتصميم الخطي.
كما شكّك الكثيرون في حقيقة المشروع بعد الإعلان عنه ونشر الصور، وقال المهندس المعماري والمخطط الحضري إتيان بو عبدو لصحيفة “ديلي ميل” البريطانية: “الصور ثلاثية الأبعاد المقدمة ليست صورًا معمارية كلاسيكية ثلاثية الأبعاد”، وأن مصمّمي المشروع “استعانوا بمصممي ألعاب الفيديو”، وذكر كذلك أن الخطة تتضمن “الكثير من التكنولوجيا المتعلقة بالطاقة والنقل غير موجودة حتى اليوم”.
وفي مقاطع الفيديو الترويجية لـ”ذا لاين”، يتم إعطاء المشاهدين لمحة عن مدينة خيالية، ومع ذلك يرى الخبراء أن هذه الأهداف غير قابلة للتنفيذ، لأن خطة إنشاء خط طويل يبلغ طوله أميالًا وعرض يمكن السير فيه خلال 5 دقائق فقط أمر مشكوك فيه، كما أنها غير فعالة من الناحية المكانية، ومكلفة اقتصاديًا لتشغيل وصيانة قطارها السريع المخفي تحت الأرض.
كما أن التكنولوجيا اللازمة لنظام النقل المقترح لا تزال على بُعد عقد من الزمن على الأقل من الاستخدام، حيث يتطلب السفر لمسافة 170 كيلومترًا في 20 دقيقة سرعة تبلغ 512 كيلومترًا في الساعة، وهو ما يتجاوز القطارات عالية السرعة بفارق مسافة طويلة.
بالمقارنة، تسافر قطارات “يوروستار” في أوروبا بسرعة حوالي 320 كيلومترًا في الساعة، وتصل سرعة بعض القطارات في الصين إلى 380 كيلومترًا في الساعة، لكن متوسط سرعاتها تبلغ عمليًا نفس سرعة “يوروستار”.
ووصلت أسرع اختبارات كبسولات “الهايبرلوب” -مثل تلك التي تطورها شركتا “فيرجن” البريطانية و”سبيس إكس” الأمريكية لنقل الناس والبضائع بسرعة خيالية تحت الأرض- إلى سرعة 463 كيلومترًا في الساعة دون أي ركاب، وقامت شركة واحدة فقط، وهي “فيرجين”، باختبار هذه التقنية مع وجود ركاب بسرعة 172 كيلومترًا في الساعة، ومع ذلك تبخّر حلم الفكرة التي تقف خلفها الشخصية الجدلية إيلون ماسك بإغلاق شركة “هايبرلوب 1” بعد الإخفاق بالنقل المستقبلي.
بخلاف ذلك، تقع “ذا لاين” أيضًا في مناخ جافّ، وعليها أن تواجه مشكلات إمدادات المياه من خلال محطات تحلية المياه التي تعمل بالوقود الأحفوري، ولم تنجح محطات تحلية المياه باستخدام الطاقات المتجددة على الإطلاق، ويشعر خبراء المناخ بالقلق من أن رهان “نيوم” على تكنولوجيا غير موجودة هو مجرد مشروع تجريبي مفرط في التفاؤل التكنولوجي.
كما يبدو بناء “ذا لاين” غير فعّال من الناحية الوظيفية، بل إن صيانته أكثر تكلفة، فهي عبارة عن خط يمتد من ساحل البحر الأحمر الحارق بالشمس إلى الأراضي الجبلية الصخرية الوعرة، حيث تزيد درجات الحرارة في الصيف عن 100 درجة فهرنهايت (38 درجة مئوية)، ولا توجد مياه عذبة تقريبًا، وسيصبح المشروع قريبًا موطنًا للملايين في مثل هذه البيئة الصحراوية، فهل يبدو هذا قمة الرفاهية المعلنة؟
وإذا كان مستقبل التكنولوجيا يمثل تحديًا بالنسبة إلى المدينة الخطية، فإن الماضي كان كذلك، ففي عام 2006 كان من المفترض أن يبلغ عدد سكان مدينة الملك عبد الله الاقتصادية 2 مليون نسمة، لكن المشروع توقف منذ ذلك الحين، ويبلغ عدد سكانه اليوم 4 آلاف فقط.
كما تعثر مركز الملك عبد الله المالي في الرياض، الذي تبلغ تكلفته 10 مليارات دولار، والذي كان من المفترض أن يكون “منطقة خاصة”، منذ إنشائه في عام 2006، حيث واجه تأخيرات في البناء والارتباك بشأن الغرض منه، حتى بعد محاولات الحكومة إعادة إطلاقه عام 2016.
وفي الآونة الأخيرة، في عام 2013، استهدفت السعودية حرفيًا الوصول إلى السماء بمشروعها الفاشل “برج جدة” الذي كان من بنات أفكار الملياردير السعودي الوليد بن طلال، وهو الآن ناطحة سحاب مهجورة كان من المفترض الانتهاء من إقامته عام 2020، ليكون أطول مبنى في العالم بارتفاع 170 طابقًا (أكثر من 1000 متر)، ويتفوق على برج خليفة في دبي، أعلى ناطحة سحاب في العالم، لكن العمل توقف تمامًا بالبرج بعد “حملة مكافحة الفساد” التي عززت قبضة ابن سلمان، وأوقعت بالوليد ومجموعة “ابن لادن”، المقاول الرئيسي للبرج.
ويعاني منافسو الرياض الإقليميين أيضًا من تاريخ من المشاريع العملاقة الفاشلة أو المهجورة، ففي عام 2016 بدأ بناء برج خور دبي، والذي سيصبح أطول برج في العالم، متجاوزًا برج خليفة بتكلفة تصل إلى مليار دولار، وكان من المقرر افتتاحه قبل معرض إكسبو 2020، لكنه سرعان ما تعثّر بعد الانتهاء من أساساته فقط عام 2018.
ويقول منتقدو “نيوم” إن المشروع يواجه المصير نفسه، ويرون أن “رؤية 2030” تستمر في تكرار أخطاء المشاريع العملاقة الفاشلة دون تقييم ما إذا كانت تقنياتها ومواردها الحالية مواتية لدعم أهدافها الطموحة، وتثار المخاوف مؤخرًا من أن تلحق المشاريع التي تنفذها الحكومة السعودية في الوقت الحالي، بنظيراتها السابقة التي تم تجميدها بعد ثبوت عدم جدواها وفشلها.
علاوة على ذلك، فإن العديد من المدن الخيالية المبنية من الصفر لا تلبّي احتياجات السكان المحليين، بل السياح أو أصحاب المنازل الثانية، على سبيل المثال توصف المدينة المستدامة في دبي بأنها أول مدينة موفّرة للطاقة وصديقة للبيئة، لكنها تلبّي احتياجات الأجانب الذين يشترون منازل ثانية بشكل كبير، وبالمثل تتباهى المواد الدعائية لـ”نيوم” بأنها تقع على بُعد 40% من سكان العالم في رحلة بالطائرة مدتها 6 ساعات.
وبدلًا من إنفاق كل هذه الموارد على البناء من جديد وسط الصحراء، كان من المنطقي إنفاقها على تجديد البلدات والأحياء القائمة في البلاد، ووفق الخبراء عادةً ما يكون إجراء تحسينات تدريجية مدروسة على المدن الحالية أفضل بكثير من محاولة تصميم مدن جديدة تمامًا من الصفر، ففي كثير من الأحيان عندما يتم التخطيط للمجتمعات من الصفر، ينتهي الأمر إلى مجتمع عقيم لا يتمتع بالثراء.
وقد اقترح جمال خاشقجي هذا الأمر قبل بضعة أشهر من اغتياله عام 2018، أي بعد أقل من عام من إعلان محمد بن سلمان نواياه بشأن “نيوم”، وتحدث عن كارثية مستقبل “نيوم” على الاقتصاد السعودي، وقال إن “الاستمرار في هذا المشروع قد يؤدي إلى إفلاس البلاد”، وإذا صدقت تنبؤاته فمن المرجح أن يسجّل التاريخ هذا المشروع باعتباره واحدًا من أكثر الإخفاقات تكلفة للبشرية.
مشروع للغسيل الأخضر:
وفقًا لرواية ولي العهد، فإن المملكة ستصبح قريبًا مركزًا للابتكار وريادة الأعمال، وخالية من الفساد والتطرف الديني الذي أعاقها لفترة طويلة، ومع ذلك فإن المسار الفوضوي لـ”نيوم” حتى الآن يشير إلى أن حلم محمد بن سلمان الحضري قد لا يتحقق أبدًا، وينطبق الشيء نفسه على خططه الأوسع للتحول الاقتصادي.
ولم يكن هناك نقص في وعوده الغريبة لـ”نيوم”، فهذا المشروع “موقع ومكان للحالمين فقط” كما يقول، ويدّعي مشروعه “تغيير طريقتنا في حماية البيئة والطبيعة”، لكن المتفائلين لا يمكن خداعهم بهذا المشروع الذي يروّج له على أنه “متجدد بنسبة 100%، وخالي من الكربون، ولن يحتوي على طرق أو سيارات”.
وفي حين تشير المواد الدعائية إلى أنه سيتم توفير “طاقة لا تنضب” من خلال بحر من الألواح الشمسية، يعتقد أن مشروع “ذا لاين”، إلى جانب “نيوم”، لهما تأثير سلبي على البيئة، ويقول علماء البيئة إن المشروع الضخم هو واحد من أكثر 15 قضية إلحاحًا يجب الانتباه إليها في عام 2024.
وتستمر الحكومة السعودية في الإشارة إلى سياستها البيئية المزعومة مع الاستمرار في نموذج تنموي ناجح للغاية، لكنه كارثي بيئيًا يعتمد على استخراج الوقود الأحفوري، ووفقًا لتقديرات الخبراء، فإن بناء هذا المشروع سينتج أكثر من 1.8 مليار طن من ثاني أكسيد الكربون، وهذا يعادل إجمالي الانبعاثات في المملكة المتحدة لمدة تزيد عن 4 سنوات.
وفي حين يتم الترويج إلى أنه ستتم تغذية عملية تحلية المياه في “نيوم” بالطاقة المتجددة، وسيتم استخدام المياه المالحة، بدلًا من إعادتها إلى البحر، كمواد خام صناعية، إلا أنه هذه الدعاية تواجه عقبة واحدة فقط، وهي أن استخدام الطاقات المتجددة في محطات تحلية المياه لم يكن ناجحًا على الإطلاق.
والواقع أن السعودية بلد قاحل، ويتم إنتاج حوالي نصف مياهها من خلال محطات تحلية المياه التي تعمل بالوقود الأحفوري، وهي عملية مكلفة، ويتم التخلص من المنتج الثانوي، وهو عبارة عن محلول ملحي ومواد كيميائية سامة، في البحر، مع ما يترتب عن ذلك من عواقب ضارّة بالنظم البيئية البحرية.
ويجادل علماء المستقبل ودعاة حماية البيئة أيضًا بأن تصميم “ذا لاين” العمودي سيكون له تأثيرات خطيرة على الحيوانات التي تهاجر عبر المنطقة، وستتعارض الحواجز الممتدة لعشرات الأميال مع نمط حياة الكائنات الحية أثناء رحلتها عبر الصحراء.
ولإضافة المزيد من المعارك الأخلاقية التي يواجهها قادة المشروع، حذّر خبراء الطيور من أن الأسطح العاكسة للمباني ستكون “فخًّا مميتًا” لملايين الطيور المهاجرة بين أوروبا وأفريقيا كل عام عبر البحر الأحمر، حيث يمتد المشروع بطوله، وبالتالي قد تربك الجدران العاكسة الطيور وربما تقتلها.
ووفقًا للبروفيسور ويليام ساذرلاند، مدير الأبحاث في قسم علم الحيوان بجامعة كامبريدج، فإن “تحليق الطيور على النوافذ العالية يمثل مشكلة خطيرة، وهذا مبنى يمتد عبر السعودية بارتفاع 500 متر، وتعلوه طواحين الهواء، لذا ما لم يفعلوا شيئًا حيال ذلك، فهناك خطر كبير يتمثل في احتمال حدوث الكثير من الأضرار للطيور المهاجرة”.
وتظهر صور تصميم “ذا لاين” أيضًا حديقة عمودية تهدف إلى جعل السكان يشعرون بأنهم أقرب إلى الطبيعة دون قطع مسافة طويلة، لكن أنواع النباتات والأشجار المعروضة في المواد الترويجية ليس موطنها الأصلي في السعودية، وقد تعرِّض البيئة المحلية للخطر.
وقد تتسبّب النظم البيئية الاصطناعية مثل تلك التي اقترحتها “نيوم” في دخول أنواع نباتية وحيوانية غازية تهدد البيئة المحلية، كما يمكن للحشرات مثل النمل والبعوض أن تنتقل عبر هذه النباتات المستوردة، وتجلب معها مخاطر محتملة على صحة الإنسان، كما يمكن أن تصبح الممرات المائية الموضحة في صور التصميم أرضًا خصبة للبعوض الحامل للأمراض، والذي لا توجد بالقرب منه مفترسات طبيعية.
وهذا ليس مجرد سيناريو افتراضي، فقد أحدثت الحشرات فوضى في النظم البيئية الاصطناعية من قبل، وفي التسعينيات تم اجتياح مشروع “بيوسفير 2” في الولايات المتحدة -وهو منزل زجاجي بقيمة 200 مليون دولار تم بناؤه كمشروع بحثي- من قبل أنواع غازية من النمل أهلكت أعداد الحشرات التي تم إدخالها عمدًا.
لذلك، سارع الناشطون في مجال البيئة إلى إدانة “نيوم” باعتبارها حالة نموذجية من “الغسيل الأخضر”، أي تقديم وعود كبيرة بشأن البيئة لصرف الانتباه عن الواقع الذي يقول إن المملكة لا تزال ثاني أكبر منتج للنفط في العالم، وقد أعلنت مؤخرًا عن خطط لزيادة الإنتاج حتى عام 2027، وسبق أن وعدت بزيادة إنتاج النفط بعد أسابيع فقط من التعهدات الخضراء الرئيسية لمؤتمر المناخ “كوب 26”.
ورغم أن هدفها النهائي يعد بتوليد 50% من الكهرباء باستخدام الطاقة المتجددة بحلول عام 2030، إلا أنه تم توليد حوالي 0.1% فقط من الكهرباء بهذه الطريقة في عام 2019، وهذا يعني أنه لا يزال أمامها طريق طويل لتقطعه.
دماء على طريق نيوم:
تؤكد المواد الترويجية على أنه سيتم بناء “ذا لاين” على أرض “بكر” تتمتع بالكثير من الجمال وجاهزة للاستغلال باستخدام التكنولوجيا المستقبلية، وبحسب ما أعلنه أحد موظفي “نيوم” الذي ظهر في الفيديو الدعائي لإطلاق المشروع قبل 3 سنوات، مصحوبًا بلقطات بانورامية ملونة لمساحات صحراوية خلابة وبحيرات زرقاء عميقة، فإنه “بعد 10 سنوات من الآن، سننظر إلى الوراء وسنقول إننا كنا أول من جاء إلى هنا”، وقد أسرف في التفاخر قائلًا: “بشر أفضل، مجتمع أفضل”.
ووفقًا لوثائق تم تسريبها العام الماضي، من المقرر أن تتميز “نيوم” بوسائل الراحة للمقيمين على مسافة قريبة، وشواطئ تتوهج في الظلام، ومنحدرات للتزلج، وقمر اصطناعي ضخم، وشبكة من الروبوتات والذكاء الاصطناعي لخدمة المقيمين، وسيارات أجرة طائرة، وسيكون هناك مرسى لليخوت الفاخرة الخاصة بالمقيمين، ونادي شاطئي للأعضاء فقط، ومنتجع غولف فاخر، وملعب رياضي على ارتفاع 1000 قدم فوق سطح الأرض، ومعلم جذب على طراز الحديقة الجوراسية يضم ديناصورات آلية متحركة.
ورغم الادّعاءات بأن المساكن الزجاجية المعلقة “ستوفر نقاط اتصال بين البشر والطبيعة”، أثار مشروع تطوير “ذا لاين” في السعودية مخاوف بشأن حقوق الإنسان، واتهم النقاد “نيوم” بأنها تشكل تهديدًا لسكان القبائل الذين لن يتمكنوا لاحقًا من العيش فيها، لأنها مخصصة للسياح والأشخاص الذين لديهم المال، وبحسب وصف محمد بن سلمان، فإنها ستكون “ثورة حضارية يسكنها مليون شخص من جميع أنحاء العالم”.
لكن ما لم يقله ولي العهد هو أن تحت هذه الطبقة من اللمعان التكنولوجي تكمن قصة التهديدات والإخلاء القسري وإراقة الدماء، فهناك بالفعل آلاف الأشخاص الذين يعيشون في وئام مع الطبيعة في المنطقة نفسها، ويشكّلون مجتمعًا قَبَليًا كان موجودًا في منطقة تبوك شمال غرب المملكة منذ مئات السنين، ويتم الآن تهجيرهم لإفساح المجال للمشروع، في حين تصف الحكومة السعودية المنطقة بأنها “غير مطورة”.
وبحسب ما ورد، قادت الحكومة السعودية جهودًا عنيفة ومضطربة لإجبار السكان الأصليين على الرحيل من منازلهم الواقعة في “نيوم”، وواجه ما لا يقلّ عن 20 ألف من أفراد قبيلة الحويطات خطر الإخلاء قسرًا بسبب المشروع، مع عدم وجود معلومات حول المكان الذي سيعيشون فيه في المستقبل، رغم انتشار هذه القبيلة في السعودية والأردن وشبه جزيرة سيناء لأجيال، ويعود نسبهم إلى ما قبل تأسيس الدولة السعودية.
واعتقلت السلطات السعودية ما لا يقل عن 47 من أفراد القبيلة لمقاومتهم الإخلاء، بما في ذلك 5 حُكم عليهم بالإعدام، وحُكم على آخرين بالسجن لفترات غير عادية، وفقًا لتقرير صادر عن مجموعة “القسط” الحقوقية السعودية، ومقرّها المملكة المتحدة.
وأعرب حقوقيون عن قلقهم بشأن العقوبات القاسية التي فرضت على منتقدي المشروع السعوديين، حيث واجهت الناشطة فاطمة الشواربي من محافظة الإحساء حكمًا بالسجن لمدة 30 عامًا لانتقادها خطط “نيوم” ومعاملة الأشخاص الذين تم إجلاؤهم قسرًا من منازلهم لإفساح المجال لبناء المدينة المخطط لها.
وفي مايو/ أيار من العام الماضي، أعربت مجموعة من خبراء حقوق الإنسان المستقلين المعيّنين من قبل الأمم المتحدة عن مخاوفها، بعد أنباء عن احتمال إعدام ثلاثة من رجال القبائل لمقاومتهم عمليات الإخلاء القسري، وقالوا :”رغم اتهامهم بالإرهاب، فقد ورد أنه تم اعتقالهم لمقاومتهم عمليات الإخلاء القسري باسم مشروع “نيوم””.
وتجاوز الأمر حدود الاعتقال والسجن إلى معركة بالأسلحة النارية، فقد قام أحد رجال القبائل هؤلاء، وهو الناشط عبد الرحيم الحويطي ابن بلدة الخريبة، الذي قد لا يعلم الكثيرون أنه درس الجيوفيزياء في جامعة الملك سعود، بتصوير مقاطع فيديو من نوع مختلف عن تلك التي يظهر فيها محمد بن سلمان، وكشف فيها قيام القوات الأمنية في بلدته بعملية إجلاء الناس، بدءًا بمسح المنازل بقصد ترحيلهم من أراضيهم، واعتقال أي شخص قال إنه ضد الإخلاء.
وأظهرت إحدى اللقطات أنه يواجه مسؤولًا سعوديًا زار البلدة للتحدث مع السكان، حتى زعمت السلطات السعودية في بيان لها أنه قُتل في تبادل لإطلاق النار مع قوات الأمن في 13 أبريل/نيسان 2020، وعملت منذ ذلك الحين على التستُّر على مقتله استرضاءً للقبيلة.
ويكشف تحقيق نشرته “بي بي سي” قبل أيام قليلة أن السلطات السعودية أمرت قواتها بإطلاق النار على كل من يرفض مغادرة منازله، ونقلت عن العقيد ربيع العنزي، الذي لجأ إلى المملكة المتحدة هربًا من الانتقام، قوله إنه تم تكليفه بقيادة وحدة لتطهير عدة قرى تضم الآلاف من أفراد قبيلة الحويطات لإفساح المجال أمام الحفارات والجرّافات لتحضير الأرض للبناء في قرية الخريبة بمنطقة تبوك في ربيع عام 2020، مضيفًا أن هذا الأمر الصادر رخّص استخدام القوة المميتة ضد كل من بقيَ في منزله.
وتتوافق اتهامات العنزي مع التحقيقات التي أجرتها منظمة “القسط” في مشروع “نيوم”، التي أصدرت العام الماضي ملفًّا نشرت فيه النتائج التي توصلت إليها، وخلصت إلى أن السلطات السعودية ارتكبت مجموعة واسعة من الانتهاكات الخطيرة لحقوق الإنسان لتحقيق هذا المشروع، وقامت بتهجير القبائل المحلية بشكل غير قانوني دون تعويض مناسب أو تقديم سكن بديل، وقمعت بعنف أفراد القبيلة الذين عارضوا أو قاوموا الإخلاء سلميًا.
وتسلط هذه الأساليب القمعية الضوء على افتقار المملكة إلى الاهتمام بالمجتمعات القَبَلية التي يعود تاريخها إلى ما قبل تأسيس الدولة السعودية، ويستدل بعض أفراد القبيلة التي تم قمعهم من قبل الدولة لفترة طويلة بوعود سخية قدمها ولي العهد بأنه سيعمل على تطوير أراضيهم، وأن قبيلتهم ستجني المال بدروها، لكن هذه الوعود الفارغة تركتهم الآن بلا مأوى.
ووفقًا لصور الأقمار الصناعية التي بثتها “الجزيرة“، سيقام المشروع على أنقاض قرى تنشط فيها الزراعة بالإضافة إلى وجود مزارات سياحية ومواقع أثرية كما في قريتَي البدع ومقنا، ويقدر عدد المنازل المستهدف إزالتها وتهجير أهلها من قرية شارما نحو 600 مبنى.
وفي قرية الخريبة التي يعتمد الكثير من أبنائها في نشاطهم الاقتصادي على الصيد، يصل عدد المباني المستهدف إزالتها داخل نطاق المشروع نحو 700 مبنى، أما قرية العصيلة التي تعتمد في نشاطها الاقتصادي على الزراعة، فيبلع عدد المنازل المستهدف إزالتها نحو 417 منزل، في حين يقدر عدد المنازل المستهدف إزالتها وتهجير سكانها من قرى المرحلة الثانية بأكثر من 2000 مبني.
ويأتي تدمير المجتمعات في موقع “نيوم” بعد عقود من التوترات بين آل سعود والقبائل التي حكمتها منذ إنشاء الدولة السعودية عام 1932، وقد ميّزت السيطرة على الأرض من خلال مشاريع البناء أو تدمير بعض المواقع التراثية هذه القاعدة، وفي عام 2017 أدانت الأمم المتحدة هدم المملكة التهجير القسري في حي المسورة، في منطقة القطيف الشرقية، باعتبارها انتهاكًا لحقوق الإنسان.
وليس من المفاجئ لخبراء حقوق الإنسان أن يكون مشروع ضخم مثل “نيوم” -الذي يتطلب الاستيلاء على مساحة كبيرة من الأراضي- مصحوبًا بانتهاكات حقوق الإنسان، ويكون فيه التهجير القسري أمرًا لا مفرّ منه، فقد سبق أن قوبل مشروع “جدة داون تاون الجديدة” بانتقادات حقوقية، بعد تسبُّب عمليات الهدم للمباني بجدة في تهجير السكان لصالح خطط بن سلمان الخاصة، التي تستثمر في بناء أبراج فاخرة بدلًا من تحسين البنية التحتية المتداعية في جدة.
بالإضافة إلى ذلك، سلطت التقارير الضوء على ظروف العمل المروعة التي يعاني منها العمال في الموقع، وتشير إلى أن عشرات الآلاف من العمال المهاجرين لن يختبروا سوى القليل من إيجابيات المدينة المستقبلية الموعودة، أو سيهربون من الاستغلال الذي يعاني منه الملايين من العمال المهاجرين الآخرين الذين يكدحون بالفعل في السعودية، وربما يكون العمال الذين يبنون “نيوم” أكثر عرضة للخطر من نظرائهم في بقية أنحاء السعودية.
وبالنسبة إلى بعض السعوديين، ومن بينهم قبيلة الحويطات، تمثل “نيوم”، بنظامها القانوني الموازي الذي يرفع تقاريره مباشرة إلى الملك، نسخة نخبوية من المجتمع السعودي مصمّمة ببساطة لإبعادهم، فمن المقرر أن تشمل المدينة شبكة واسعة لجمع البيانات، بما في ذلك تكنولوجيا الطائرات بدون طيار والتعرّف إلى الوجه التي تغطي المدينة بأكملها.
كما يطلق على هذه المدينة الخطية “مدينة المراقبة المجيدة”، ويتوقع الخبراء تزويدها بالتكنولوجيا الصينية لجمع البيانات عن السكان، ووضعهم تحت المراقبة الكاملة كجزء من برنامج مراقبة شامل، ويمثل هذا أيضًا خطرًا حقيقيًا على خصوصية الأشخاص، خاصة بالاعتماد على كيفية جمع البيانات وتخزينها.
أحد الأشكال التي اتخذتها هذه التكنولوجيا الصينية هو كاميرات المراقبة المرتبطة بتقنية التعرّف إلى الوجه، والتي يمكن استخدامها لتتبع الحركات الماضية وفي الوقت الحقيقي، كما توفر هذه التكنولوجيا القدرة على ربط لقطات كاميرات المراقبة بمجموعات البيانات الأخرى، بما في ذلك المعلومات البيومترية.
ومن المخاوف المحتملة الأخرى التكنولوجيا السحابية، وتحديدًا الشركات التي تخزّن كميات هائلة من بيانات الكمبيوتر، فقد وقّعت شركة الاتصالات الصينية العملاقة “هواوي” بالفعل عقودًا مع السعودية، بما في ذلك في “نيوم”، ما يثير أسئلة كبيرة حول مقدار حماية الخصوصية التي ستوفرها الشركة للمستخدمين في المدينة.
ويتساءل الصحفي أمريكي روبرت وورث، ومؤلف كتاب “الغضب من أجل النظام”: من يفكر حتى في الانتقال إلى مدينة صحراوية نائية، ليخضع للمراقبة على مدار الساعة طوال أيام الأسبوع وأهواء أمير قاتل؟ في إشارة إلى تورّط محمد بن سلمان في مقتل الصحفي السعودي جمال خاشقجي في إسطنبول عام 2018، والذي صدمت تفاصيل مقتله الوحشي العالم، وجعلت ولي العهد السعودي منبوذًا على المسرح العالمي، وألقى الغضب الذي أعقب ذلك بظلاله على الاستثمار الأجنبي في السعودية، وقطع العديد من رجال الأعمال العلاقات مع المملكة ومع “نيوم”.
ووفقًا لوصف الباحث في مركز “تشاتام هاوس” للأبحاث في لندن جيمس شيرز، “إذا كنت تريد أن تعيش في مدينة حيث القيمة الحقيقية لحرية التعبير، والثقافة المضادة، والتعبير عن الفكر المستقل ومناقشته، فقد لا يكون هذا هو المكان الذي تريد الذهاب إليه”.
وفي حين أن الأخبار عن تقليص المشروع قد تكون محرجة للمسؤولين السعوديين، إلا أنها ستكون بمثابة ارتياح لأنصار حماية البيئة، وحتى الناشطين في مجال حقوق الإنسان سوف يتنفسون الصعداء.
في النهاية، تبقى الرؤى الاقتصادية التي تهبط من أعلى دون إشراك مجتمعي أو إشراك جاد للخبراء على ما يبدو السمة السائدة لإدارة الاقتصاد السعودي منذ خطوة ولي العهد السعودي الأخيرة نحو عرش المملكة، وأصبح نهجه التركيز على المستقبل من خلال الترفيه والتكنولوجيا الاستهلاكية التي لم تصنعها أياد سعودية.
ويتبقى لنا أن نرى بطبيعة الحال ما إذا سوف تظل بنات أفكار ولي العهد السعودي على اتصال بالواقع المالي والمادي، فربما ستثبت “نيوم” بمدنها المستقبلة وطريقة عيشها الجديدة أننا مخطئون، أو ربما ستظل أفكارها موجودة فقط في أفلام الخيال العلمي.
ارسال التعليق