قذارة ودعارة الإعلام العربي المتصهين
بقلم: أحمد عبد الرحمن...
يمكن النظر إلى العلاقة بين وسائل الإعلام بمختلف أشكالها وألوانها من جهة، وبين الرأي العام من جهة أخرى من زاوية محدّدة وبسيطة، إذ تقوم العلاقة بينهما على المعادلة التي تقول: "من الذي يؤثّر في الآخر"! وبما أن وسائل الإعلام تُستخدم كوسيلة للتأثير، فيما يحوز الرأي العام على مكامن القوة والتغيير على الأرض، فإن تأثير الطرف الأول على الثاني هو الأرجح لما يملك من أدوات، وما يستخدمه من وسائل، حيث يصبح تأثيره أمراً في غاية الأهمية إذا ما جُيّر للصالح العام، ونشر قيم العدل والفضيلة بين أفراد المجتمعات، إلا أنه على المقلب الآخر يمكن أن يتحوّل إلى تأثير مدمّر وهدّام، ولا سيما إذا ما دعا إلى الضلال والفجور، واتباع سبل الشر، وتدمير الأجيال الناشئة، وإسقاط المجتمعات من الداخل.
في عالمنا العربي والإسلامي يمكن أن نجد مئات القنوات التلفزيونية، وآلاف المواقع والصفحات الإلكترونية، والكثير الكثير من الوسائل التي أتاحتها العولمة ببعدها التكنولوجي لتصبح أدوات ناقلة للأخبار، والمعلومات، ولم لا للأكاذيب والفبركات، وفي بعض الأحيان لتبرير الهزائم والانكسارات وربما الخيانات.
في تغطية وسائل الإعلام العربية للحرب على قطاع غزة، وما يرتبط بها في ساحات القتال الأخرى وخصوصاً مع لبنان برز الكثير من المتغيّرات، وبانَ العديد من السرديات، وظهرت بما لا يدع مجالاً للشك حقيقة الكثير من القنوات والشاشات، والتي كان بعضها حتى زمن قريب يخفي وجهه الحقيقي وراء شعارات برّاقة، وبرامج خدّاعة، ومبادئ كان الكثيرون يعتقدون أنها وطنية وشريفة.
وبما أن الإعلام ببعده الشامل أصبح صناعة أكثر منه مهارة مُعدّ، أو لباقة مذيع، أو كاريزما محلّل، فقد كنّا نأخذ وما زلنا على محور المقاومة عدم إيلائه الأهمية المطلوبة لوسائل الإعلام التابعة له أو المقرّبة منه، والتي كانت على الدوام مصدر المعلومات الوحيد الذي يمكن الوثوق به والاعتماد عليه في ظلّ حرب الرواية التي باتت تشكّل جزءاً مهماً من الرأي العام العربي والإسلامي وربما العالمي، ولشديد الأسف فإنّ هذا "التقصير" الذي له أسباب متعددة ما زال مستمراً على الرغم من اهتمام الطرف الآخر في محور الشر ببناء إمبراطوريات إعلامية جديدة، ورفدها بكلّ ما تحتاجه من خبرات وإمكانيات وقدرات لا مثيل لها، وهو الأمر الذي ينعكس في بعض تداعياته على الصورة الحقيقية للواقع، وعلى ما يجري من أحداث، وما يحدث من وقائع، والتي باتت وسائل الإعلام بمختلف مسمّياتها الناقل الحصري لها، وبإمكانها تجييرها للجهة التي تقف من خلفها، أو التي تقدّم لها الدعم المالي الذي أصبح ركناً أساسياً لا غنى عنه في صناعة الإعلام، ولا سيّما ونحن نعيش في عالم مليء بكلّ أنواع الأكاذيب، ومختلف أشكال الفبركات.
ولكن حتى نكون منصفين فإنّ حجم الإمكانيات المادية التي يملكها الطرف الآخر تتجاوز بكثير ما يملكه محور المقاومة، إلى جانب أن ذلك الطرف والذي يفتقد للمشروعية والمصداقية في كثير من المواقف التي يدافع عنها، أو يسوّقها، قد اهتم بشكل أكثر بتطوير ماكنته الإعلامية، بل وذهب أبعد من ذلك من خلال استقدام كلّ الخبرات والكفاءات المطلوبة من مختلف دول العالم من أجل تطوير وسائله الإعلامية، وجعلها تواكب العصر الحديث بكلّ ما يحتاج إليه من تفاصيل، وبكلّ ما يسعى إليه من رغبات.
بالإضافة إلى كلّ ذلك فإن بعض الدول والممالك والإمارات الصغيرة جغرافياً، والضعيفة عسكرياً، والمحدودة سكانياً، قد باتت تعتبر وسائل إعلامها بمثابة "الجيش" الذي يدافع عنها، ويحميها من كل ما يتهدّدها من مخاطر، بل وأصبحت بعد أن أنشأت إمبراطوريات إعلامية هائلة لا تغيب عن شاشاتها ومنصّاتها الشمس تهدّد من خلالها دولاً أخرى أكثر حضوراً، وأعمق تاريخاً.
على كل حال، وبعيداً من جلد الذات، وتحميل دول وجماعات محور المقاومة ما لا تحتمل، وبغض النظر عن كثير من المحاولات التي سعت فيها تلك الدول والجماعات التي تتعرّض للحصار والتضييق لتطوير وسائلها الإعلامية، وماكنتها الدعائية والتي نجحت في بعضها بشكل لافت، إذ باتت بعض القنوات التابعة لهذا المحور تؤدّي أدواراً في غاية الأهمية ولا سيّما في ظل ما يتعرّض له الشعبان الفلسطيني واللبناني من عدوان، إلى جانب كشف الكثير من الحقائق المتعلّقة بمخططات محور الشرّ في المنطقة والعالم، والتي كانت قبل فترة من الزمن تجري بسرّية مطلقة، بعيداً عن أعين الجميع، ومن خلف الأبواب الموصدة.
بعيداً من كل ذلك دعونا نلقِ نظرة على أداء وسائل الإعلام العربية بعد أكثر من ثلاثة عشر شهراً من العدوان على غزة، وما رافقه من جرائم ارتقت بحسب تصنيف محكمة العدل الدولية لمستوى جرائم الإبادة الجماعية، والتي حصدت حتى الآن أرواح أكثر من 50 ألف مواطن فلسطيني، بالنظر إلى وجود نحو 10 آلاف مفقود تحت ركام المنازل المدمّرة، والذين مرّ على بعضهم أو على من تبقّى منهم أكثر من عام كامل من دون أن يتمّ انتشالهم.
منذ بدء معركة طوفان الأقصى في صباح السابع من تشرين الأول/أكتوبر من العام الماضي، انقسمت وسائل الإعلام العربية إلى ثلاثة أقسام، الأولى وهي القنوات التابعة أو المحسوبة على محور المقاومة اتخذت موقفاً داعماً ومتضامناً ومؤيّداً لهذا الحدث المفصلي الهام، وأبرزت وما زالت حتى وقتنا الحالي أسبابه ودوافعه والأهداف المتوخاة من ورائه، وهي أيّ هذه الوسائل تعمل على مدار الساعة منذ ذلك الصباح المجيد على دعم الحشد اللازم جماهيرياً على أقلّ تقدير من أجل مساندة الشعب الفلسطيني ومقاومته الشريفة، وعلى الدفاع عنه أمام كلّ العالم، إضافة إلى إبراز مظلوميّته التي مرّ عليها أكثر من 76 عاماً من الاحتلال والقتل والتهجير والاعتداءات على المقدّسات، والتي كانت السبب الأساسي في إشعال هذه المعركة التاريخية والفاصلة.
المشكلة الوحيدة التي تواجه هذه القنوات هي أن مشاهدتها تكاد تقتصر على جماهير وأنصار محور المقاومة في المنطقة والعالم، وهذا الجمهور وإن كان لا يُستهان به، ولا يمكن التقليل من شأنه، إلا أنه يبقى أقل بكثير على مستوى العدد من جمهور ومشاهدي القنوات الأخرى.
القسم الثاني هو تلك القنوات التي تتبع لدول وممالك ألقت منذ فترة طويلة بنفسها في أحضان أميركا وبريطانيا وغيرهما من الدول الاستعمارية، وهي كانت وما زالت تمارس الدور المشبوه والمريب نفسه الذي مارسته في العراق وسوريا واليمن ولبنان، والذي يصبّ في صالح مشروع تفتيت صفوف الأمة، وتجزئة شعوبها إلى طوائف وفرق وجماعات، وباتت هذه الوسائل لا تخجل من إبراز وتظهير سردية العدو للحرب على غزة، وفي بعض الأحيان تتطوّع للدفاع عن مواقفه، وتبرير جرائمه وإرهابه.
هذه القنوات وما يتبع لها من أفرع عبر وسائل التواصل الاجتماعي المختلفة وبعد أن باتت مكشوفة أمام الرأي العام المحلي والعالمي، فقدت جزءاً كبيراً من متابعيها ومشاهديها، بل إن معظم المواقع الإلكترونية، والصفحات الإخبارية أصبحت تتحاشى البناء على معلوماتها، أو نقل تغطياتها، بل وأضحت تُصنّف من قِبل جماهير عريضة بأنها قنوات معادية، وبات الكثيرون يُطلقون على بعضها تسميات إسرائيلية بدلاً من أسمائها العربية.
أما القسم الثالث وهو الأخطر في هذه المرحلة الحسّاسة من تاريخ الصراع في المنطقة، فهي القنوات التي ترفع شعارات من قبيل "الواقع كما هو"، و"الرأي والرأي الآخر"، على الرغم من أن المواجهة الجارية الآن في المنطقة ليست بين بلدين عربيّين أو إسلاميّين حتى يتمّ التعامل معها وفق مبدأ الحياد، إذ يشير الواقع إلى أن هناك جهة ظالمة ومجرمة وقاتلة تعتدي على شعب أعزل ومحاصر منذ أكثر من ثمانية عشر عاماً، وأن هذه الجهة وهي "إسرائيل" تستخدم من أجل أن تحقّق أهدافها في القتل والتهجير كلّ الأسلحة المحرّمة دولياً، وهي تتجاوز كلّ المواثيق والأعراف الدولية الخاصة بحقوق الإنسان، وتلك المتعلّقة بحماية المدنيين وقت الحرب، وهو الأمر الذي وضعها بحسب تصنيف المحاكم الدولية في خانة الدول المارقة التي ارتكبت جرائم إبادة جماعية تحت بصر ونظر كلّ العالم، الذي يعجز عن وقف هذه الجرائم، ويفشل في إدخال ولو جزء يسير من المساعدات الغذائية والطبية التي من شأنها أن تقي أهل غزة الجوع والمرض الذي يفتك بهم وبأطفالهم.
هذه القنوات التي تبلغ موازنة إحداها التشغيلية نحو مليار دولار سنوياً بحسب بعض التقارير تقوم بدسّ السمّ في العسل، وهي على الرغم من مساهمتها في الكشف عن كثير من الجرائم والمذابح التي جرت وما زالت في قطاع غزة على وجه الخصوص، وهو الأمر الذي ساعد في انتشار مشاعر الغضب والكراهية ضد العدو الصهيوني في مختلف أرجاء العالم، بسبب الانتشار الواسع لتلك القنوات، والتي تحظى بنسب مشاهدة عالية جداً، إلا أنها تقوم وفق نظرية الرأي والرأي الآخر بإفراد مساحة واسعة لكلّ ما يصدر عن "دولة" الاحتلال و"جيشها" القاتل وقادتها المجرمين، ولا تترك تصريحاً صغيراً كان أم كبيراً لهؤلاء القتلة إلا ونشرته عبر كلّ منصاتها وشاشاتها.
بل الأخطر من ذلك أنها تعتمد في كثير من الأحيان على ما تنشره وسائل الإعلام الإسرائيلية، وتتعامل معه وكانه أصدق القول، وهنا تكمن المشكلة الأساسية، إذ إنّ شاشات هذه القنوات الموجودة في معظم المنازل، والمقاهي، والمؤسسات، والنوادي وغيرها، تصبح ناقلاً أساسياً لكلّ ما يريد الاحتلال أن يقوله، وهي عندما تقوم بهذا الأمر فإنها توفّر على العدو مشقّة أن يقوم بذلك الأمر بنفسه، وهو الذي يعرف أنه لن يستطيع أن يقوم بذلك بسبب مقاطعة الكثيرين لقنواته ووسائل إعلامه.
حتى على صعيد التحليل وقراءة تطوّرات الأحداث، فإنّ تلك القنوات تنتهج أسلوباً بعيداً كلّ البعد عن الواقع الحقيقي على الأرض وفي الميدان، وهذا ما يجعلها تختار محلّلين وخبراء من نوعيات خاصة، وهم بارعون في توجيه الرأي العام باتجاه ما تريده القناة التي تستضيفهم، والأجندة التي تسعى للتسويق لها، وكذلك بحسب قيمة المبلغ الذي يتلقّونه من جرّاء ذلك، وهو بحسب ما أعرف مبلغ كبير جداً.
على كل حال وعلى الرغم من بؤس معظم القنوات التلفزيونية العربية، ورداءة ما تقدّمه للرأي العام العربي والإسلامي، والذي أدّى بحسب وجهة نظر الكثيرين إلى ضعف التضامن مع الشعب الفلسطيني، وإلى انفضاض الكثير من جماهير الأمة من حول قضيته المشروعة والعادلة، وانكفاء هذه الشعوب نحو اهتماماتها الداخلية، ومشكلاتها الحياتية، وفي الملذات والشهوات والحفلات والمباريات وغيرها، إلا أنّ هناك شعاعاً من الأمل ما زال ينتشر في الأفق، يضيء عتمة السائرين في درب الألم والمعاناة والخوف، ويقدّم لهم ولو جزءاً يسيراً ممّا يبلسم جراحاتهم النازفة بفعل القتل والإجرام، والتضييق والحصار.
هذا الشعاع تمثّله قلّة قليلة من وسائل الإعلام الوطنية والشريفة، التي وعلى الرغم من فقرها، وضعف إمكانياتها، والحصار الذي تتعرّض له، والتضييق الذي يطاردها من مكان إلى آخر، إلى جانب قتل واستهداف طواقمها ومراسليها فإنها ماضية في هذا الطريق المعبّد بالمخاطر والصعاب، تؤدّي رسالتها المهنية بكلّ عزيمة واقتدار، غير آبهة بتراجع البعض، ولا بخيانة البعض الآخر، شعارها أننا مع فلسطين ولبنان والمقاومة ظالمة أو مظلومة، مع المظلومين والمعذَّبين والمحاصَرين في كلّ أرجاء المعمورة، مع كل قيم الحقّ والعدل والحرية، نسعى لغد أفضل، ومستقبل مشرق، وحياة كريمة، حياة مليئة بالحب والخير والتضامن والعيش المشترك، بعيداً عن كلّ أشكال الظلم والقتل والإجرام.
إن الآراء المذكورة في هذه المقالة لا تعبّر بالضرورة عن رأي الميادين وإنما تعبّر عن رأي صاحبها حصراً
ارسال التعليق