آل سعود والتحكم في لبنان..استثمار سعودي لا يلغي المواجهة(3/3)
بقلم: يارا بليبل...
اعتمد لبنان تاريخيا على رؤوس الأموال المتدفقة إلى مصارفه عبر القنوات الخارجية، كتحويلات المغتربين، والاستثمار الأجنبي المباشر، والاقتراض من الخارج، وبقي الأمر كذلك حتى عام "2011"، حيث بدأت القنوات الخارجية بالجفاف واحدة تلو الأخرى حتى وصل العجز في ميزان المدفوعات مستويات لم يبلغها حتى في سنوات الحرب الأهلية، وذلك بسبب تقلُّص مصادر تدفق الأموال الخارجية، نتيجة الانخفاض الهائل في صادرات السلع والخدمات، وتقلص الاستثمار الأجنبي وخصوصًا الخليجي منه، وتوقف القروض الدولية التي كان لبنان يتلقاها في السابق. واشتُهر لبنان بنظام تحاصصي-ريعي، ضخَّم الثروات الريعية والعمل غير المنتج، وعطَّل النمو الاقتصادي، كما عقَّد، في نفس الوقت، إمكانية تنفيذ سياسات اقتصادية جديدة من شأنها إخراج الاقتصاد من مأزقه الذي يراوح فيه لعقود؛ حيث تسبَّب الهدر في قطاع الكهرباء وحده، على سبيل المثال، بخسائر تعادل 40% من إجمالي الدَّيْن العام، أي ما يقارب الـ37 مليار دولار أميركي.
وفيما يتعلق بإعادة الإعمار، والتي برَّر رئيس الحكومة الراحل، رفيق الحريري، نتائجها السلبية على لبنان بعبارته الشهيرة: "اضطررنا لشراء السلم الأهلي بالمال"، فلم تنفق الحكومات اللبنانية المتعاقبة في مشاريع الإعمار منذ الطائف إلا نسبة تقل عن 7% (15.12 مليار) من إجمالي إنفاقها، الذي بلغ نحو 216 مليار دولار خلال الفترة ما بين (1993-2017)، في الوقت الذي كانت فيه "خدمة" الدين العام (الفوائد) تستنزف أكثر من ثلث الإنفاق، مقابل ربع الإنفاق الذي استحوذ عليه الدعم النقدي والتحويلات (الإنفاق الحكومي)، علمًا بأن حجم المداخيل التي حصل عليها لبنان، منذ 1992 وحتى الأشهر الأخيرة من العام 2019، بلغ ما يقرب الـ1192 مليار دولار أميركي، بحسب الخبير المالي اللبناني جاسم عجاقة، تتوزع ما بين 801 مليار للناتج المحلي الإجمالي، و305 مليارات للاقتصاد غير الرسمي (رقم مقدَّر)، و86 مليار للدين العام.
حرب الرياض على دمشق قبل الثورة:
في 15 أكتوبر/ تشرين الأول 2006، نشرت مجلة "الحجاز" مقالاً تحت عنوان "السعودية تتبنى بشكل صريح مشروع إسقاط النظام السوري"، تناول طبيعة التحرّكات السعودية المريبة إزاء الحكومة السورية والتي بدأت بدعوة نائب الرئيس السوري السابق المنشق "عبد الحليم خدام" لزيارة الرياض، حيث التقى الملك عبد الله وولي العهد الأمير سلطان، وجمع اللقاء رفعت الأسد، شقيق الرئيس السوري السابق حافظ الأسد ونائب الرئيس الأسبق، مع خدّام في الرياض لوضع خطة إطاحة نظام "بشار الأسد". وهذه الأنباء، حسب "الحجاز"، "جاءت في سياق أنباء أخرى حول دعوة الولايات المتحدة لرفعت الاسد من أجل مناقشة مستقبل سوريا ومصير نظام الحكم فيها!". ولفت المقال الى معطيات عدة تشي بتورّط القيادة السعودية في مشروع تغيير النظام في سوريا، "وهو مشروع تشارك فيه أطراف عدة لبنانية وأميركية وأوروبية".
وفي 15 نوفمبر/ تشرين الثاني من العام نفسه نشرت"الحجاز" مقالاً تحت عنوان "مستقبل العلاقات السعودية السورية: من التحالف إلى القطيعة"، تمّ تسليط الضوء فيه على مآخذ سوريا على "السعوديين" وكان من بينها "أن السعودية تحرّكت في الآونة الأخيرة للعب دور في إسقاط نظام الحكم السوري من خلال احتضان المعارضة السورية في أوروبا (الإخوان المسلمين وعبدالحليم خدام) إضافة الى تأجيج الحملة العدائية ضدها من خلال أتباعها في لبنان. فضلاً عن أن "السعودية" ومن خلال علاقاتها المتميزة مع أميركا طرحت عبر "بندر بن سلطان" مشروع إسقاط النظام السوري والمساهمة فيه، حتى قبل أن تتوتر العلاقات السعودية السورية، بل بمجرد سقوط نظام الحكم البعثي في العراق".
وفي الخامس عشر من مايو/ أيار 2007، كشفت " الحجاز" عن نبأ الانقلاب العسكري في سوريا بتمويل "سعودي"، والذي تمّ إجهاضه في نوفمبر/ تشرين الثاني 2006. وجاء في النبأ أنّ المخابرات الإسرائيلية كانت على علم به من خلال رئيس الاستخبارات السعودية الامير "مقرن بن عبد العزيز"، الأمر الذي زاد من وتيرة التوتر في العلاقات السعودية السورية.
كل ما سبق يندرج في سياق المعلومات الخاصة، ولكن لم يمضِ زمن طويل حتى بدأت تتكشّف الحقائق الميدانية لتؤكّد مخطط سعودي ـ أميركي ـ إسرائيلي لناحية إشعال حرب في سورية بالتعاون مع جماعات مسلّحة مرتبطة بالقاعدة.
صحيفة "ذي أبزورفر" البريطانية نقلت في عددها الصادر في 30 سبتمبر/أيلول من العام نفسه معلومات تفيد بأن انفجار دمشق نفّذه جهاديون بعضهم يقيم في طرابلس شمال لبنان. وقالت الصحيفة بأن الخلفية الحقيقية لنشر القوات السورية على الحدود اللبنانية ليست محاربة أعمال التهريب وانما ضرب المسلّحين السلفيين الذين يتسللون الى الأراضي السورية ويشنون هجمات في داخلها.
حلم بندر بن سلطان في إسقاط الأسد وإلحاق "حزب الله" به:
يمثّل التنافس الاستراتيجي "السعودي" مع إيران المصلحة الجيوسياسية الرئيسة الكامنة خلف تدخّل الرياض في سورية. فقد أقام نظام الرئيس السوري "بشار الأسد" منذ فترة طويلة علاقات وثيقة مع إيران، وهو ما شكّل إهانة لادّعاء السعودية بالزعامة العربية في ما يتعلّق قضية بلاد الشام والقضية الفلسطينية.
وفّرت التحركات في سورية فرصة للرياض للتخلص من عبئ هذه الشراكة، والتعافي من خساراتها خاصة في العراق بعد تولي "نوري المالكي" رئاسة الحكومة، والأهم بعد تشكيل حكومة "نجيب ميقاتي" بمعزل عن "حرد" سعد الحريري وفريقه.
كما استخدمت "السعودية" الحرب على سورية لتأكيد تفوّقها في "مجلس التعاون الخليجي"، ولجم جرأة قطر المتزايدة بصورة خاصة. وقد تحدّث بعض المعلّقين "السعوديين" عن الصراع، على نحو أقلّ صراحة، باعتباره اختباراً دالاً على ظهور نظام إقليمي جديد، بقيادة "السعودية"، يتميّز بتضاؤل نفوذ الولايات المتحدة.
سعت الرياض إلى إقامة نظام سلطوي سنّي مستقرّ في دمشق يكون شريكاً طبيعياً لمنطقة "الخليج"، ويقضي على المحور الايراني القديم المكوّن من إيران وحماس وحزب الله. كما تبنت ودعمت تطييف التحركات وغذتها بخطابات مذهبية تشحن النفوس، حيث رعت العديد من الفضائيات الدينية الناشئة والتي ركزت خطابها على "مظلومية أهل السنة" والدعوة إلى "نصرتهم" مقابل ما أسموهم "الكفار والرافضة".
وبالعودة إلى التدخل "السعودي" في الحرب على سوريا، فلا بد أن نأتي على ذكر الدور الذي لعبه بندر بن سلطان، رئيس الاستخبارات السعودي الأسبق، الذي ساق حرب الرياض على دمشق بدعمه وتمويله الجماعات الإرهابية من خلال التدريب وشحن الأسلحة المتطورة. حيث أنشأت لهذه الغاية غرفة عمليات "سعودية"-قطرية-تركية مشتركة في اسطنبول، ونقلت الأموال عبر وسطاء في تيار المستقبل في لبنان، ونسقت عمليات التدريب العسكري مع الأردن.
ويروي هيثم المناع، المعارض السوري، لـلصحفي سامي كليب كيف أنه منذ الأيام الأولى لتشكيل ما سميّ "التحالف الدولي ضد النظام السوري"، "كانت الاجتماعات تحصل في تركيا ... وكان من بين الحضور النائب اللبناني عقاب صقر، ولؤي المقداد، وكنا نرى في الواقع أن المال الخليجي يوزع بنسبة 70% منه إلى أصحاب اللحى"، ويضيف " جاءتنا فترة الأمير بندر بن سلطان وإشرافه على عمل بعض المعارضة وتنسيق الاجتماعات في الأردن، .. وأعتقد شخصياً أن الفترة البندرية كانت واحدة من مآسي التآمر على الإنسان السوري وليس النظام".
لبنانيا، وحيث شهدت فترة اندلاع شرارة الحرب على سوريا، مارس/آذار 2011، تشكيل الحكومة اللبنانية برئاسة نجيب ميقاتي، يونيو/ حزيران 2011، بمقاطعة قوى 14 آذار عدا رئيس الحزب التقدمي الاشتراكي، وليد جنبلاط. فلا يمكن أن لا تنال بيروت حصتها من القرار "السعودي" القاضي بالانتقام، إن كان لجهة الاختلاف الداخلي حول توصيف ما يجري في سورية والموقف الرسمي من النظام السوري، وصولا إلى مشاركة حزب الله إلى جانب الجيش السوري بطلب من القيادة للمساعدة في العمليات القتالية الجارية.
بناء على ما مر لجأ بندر بن سلطان إلى تفعيل جبهة جديدة في لبنان بغية التأثير على التطورات الميدانية في سوريا (بعد تحرير منطقة النبل والزهراء) وكان الخيار مصوّب على فتح جبهة جديدة في شملي لبنان، والجدير بالذكر أن هذه الفكرة تم عرضها لأول مرة من جانب المعهد المقرب من الكيان الصهيوني، معهد واشنطن لدراسات الشرق الأدنى، حيث أشار الباحث في الشؤون السورية والمعروف بعلاقته الوطيدة مع اللوبي الصهيوني بأميركا "فابريك بالانج" إلى هذه الخطوة. حيث تمكّن هذه الخطوة من إدخال الجماعات الوهابية المحلية وآلاف اللاجئين السوريين المحبطين في هذا الصراع. وتضع هذه المبادرة المراكز الحيوية عرضة للتهديد بقطع خطوط الاتصال والإمداد من لبنان إلى سوريا.
من ناحية أخرى، كان لتنظيم داعش جولات في لبنان استهدفت بشكل خاص الضاحية الجنوبية لبيروت معتقل "حزب الله"، التي شهدت مناطق الضاحية تفجيرات متكررة عبر السيارات المفخخة المرسلة من سوريا، وكان تنظيم داعش ومن خلفه الداعم السعودي المتبني الأول لهذه العمليات، التي كانت بمثابة ورقة السعودية الأخيرة للجم دور "حزب الله" وتحقيقه إلى جانب الجيش السوري للانتصارات، فرأى بن سلطان في النزيف اللبناني سبيلا لتأليب بيئة الحزب عليه، ودفعها للتشكيك في صوابية التدخل وصولا إلى دعوته بالانسحاب، الأمر الذي كان بمثابة "حلم إبليس في الجنة".
الاستثمار السعودي في القوى المسيحية المارونية في لبنان:
غداة انتخابات 2009، حصلت انتكاسة مرحلية في علاقة السعوديين بجعجع، عندما رفض المهادنة في لحظة "السين سين"، لكن مع إسقاط حكومة سعد الحريري بضربة استقالة ثلثها المعطل (8 آذار + الوزير الملك عدنان السيد حسين)، ومن بعدها انتقال الحريري للإقامة في الخارج، بحجة الوضع الأمني، تحول جعجع بحكم الفراغ إلى زعيم 14 آذار الفعلي، لتبدأ العلاقة المميزة بين "السعودية" ومعراب.
لم يتردد سمير جعجع، في بداية الأزمة السورية في المجاهرة بموقفه الداعم للمعارضة السورية، ونجح في صياغة علاقة ثابتة مع المخابرات السعودية، بدءاً من بندر بن سلطان، مروراً بمقرن بن عبد العزيز، وصولاً إلى خالد الحميدان. علاقة وفّرت الدعم السياسي ومعه مبالغ شهرية للقوات، تدفع إما على شكل مخصصات، أو هدايا، أو بدل شراء مواسم التفاح في منطقة بشري.
في عام 2014، لم ينجح جعجع في معركته الرئاسية، على الرغم من دعم "السعودية" له، وقد اعتذر منه السفير علي عواض العسيري يومذاك، قائلاً له: "أنت مرشحنا، إنما الظرف ليس مؤاتياً بعد لانتخابك رئيساً للجمهورية".
ربما يريد سمير جعجع أن يلعب دور بشير الجميّل الذي صحّ القول فيه في حقبة معينة إنه "الأقوى مسيحياً"، فاستطاع أن ينسج علاقة مع "السعودية" التي زكّت انتخابه رئيساً للجمهورية عام 1982.
ارسال التعليق