الترفيه في زمن الإبادة: إخراج الوعي من الصراع
بقلم: ساري موسى...
يختصر أنطون تشيخوف جانب "الأضواء" من واقع اليوم في قصّته "فرحة"، المكتوبة سنة 1883. يحتفي بطل هذه القصّة بكونه صار مشهوراً، بعد أن ورد اسمه في الجريدة، رغم أنّ الخبر يتحدّث عنه ثملاً وواقعاً بين قوائم حصان جرّ الزحّافة فوقه فأصابه في رأسه. ينطبق الأمر ذاته على المواسم الترفيهية التي تشهدها دولٌ عربية، ويوصف بعض فعالياتها بأنّها الأضخم من نوعها على مستوى العالم، وتحظى بتغطية إعلامية واسعة لها بُعد عالمي كذلك، إذ يُدعى إليها نجوم ومشاهير في مجالات التمثيل والغناء والرياضة وعروض الأزياء وغيرها.
يُصرَف لتنظيم هذه المناسبات واستقطاب حضورها مئات الملايين من الدولارات، وهي تُقام للسنة الثانية بعد بدء الإبادة الجماعية الإسرائيلية المستمرّة على مقربة منها، في بلاد لم تعرف يوماً مثل هذه المظاهر. كما أنّها تجري هذه السنة بالتزامن مع تعرُّض المساعدات الإغاثية المدخَلة إلى قطاع غزّة للسرقة المنظّمة، بعد أن كان ممنوعاً دخول أيّ نوعٍ من المساعدات بما فيها الطبّية، بفعل الحصار الذي تشارك فيه دول عربية إلى جانب الاحتلال الإسرائيلي. ومع بدء هطول الأمطار وحلول البرد، فإنَّ النازحين المنسوفة بيوتهم والمقيمين في شبه عراء سيواجهون ذلك كلَّه بعظامهم الهزيلة وأجسادهم الناحلة.
في الماضي القريب، كانت الاعتداءات والحروب الإسرائيلية على فلسطين ولبنان تُواكَب عربياً بأعمال فنّية من وحيها، نذكر منها على سبيل المثال مسلسلا "التغريبة الفلسطينية" و"عائد إلى حيفا"، اللذان عُرِضا سنة 2004، بينما كانت مشاهد الانتفاضة الثانية ما تزال طازجةً في العيون والذاكرة. هل هناك من يعتقد اليوم أنّ مسلسلاً مثل "الأمير الأحمر"، الذي كتبه السيناريست الفلسطيني السوري الراحل حسن سامي يوسف (1945 - 2024)، ويحكي قصّة حياة القيادي في حركة "فتح" الشهيد علي حسن سلامة (1941 - 1979) الغنية درامياً، يمكن أن يُسمح له بأن يبصر النور من قبل المتحكّمين بشركات الإنتاج وقنوات التلفزة ومنصّات العرض؟
في الوقت نفسه، تُنتج هذه الجهات مسلسلات عربية سخيفة، تحاكي إنتاجات تركية تُصوَّر في القصور الفارهة ومقارّ الشركات الضخمة (كأنّ أغلبنا يعيش ويعمل في أماكن كهذه)، توضَع في خدمتها مواكبة إعلامية كثيفة تُدخلها البيوت كلّها، وتحظى بمتابعة الصغار قبل الكبار.
الخطورة في مشاهد الاستعراض والبلاهة التي تضرب العيون على مدار الساعة، في هذه الأوقات المصيرية من أعمار قضايا وشعوب وبلدان، أنّها تحُتُّ وعي متابعيها عمّا يهدّد مستقبلهم في الحقيقة، إلى أن تفتّته بمرور الزمن، كما تفعل أمواج البحر بصخرة الشاطئ، وتُخرج هذا الوعي من الصراع، وبالتالي تُخرج منه شريحةً واسعةً من الشباب العربي تحديداً، خاصّةً أولئك الذين لا يتعرّضون للاعتداءات الإسرائيلية بشكل مباشر، ولا يرون تأثيراتها على الأرض من دمار ونزوحٍ وضيق عيش. فالجماهير كسولة بطبيعتها، وقصيرة الذاكرة، بالإضافة إلى أنّها "لم تكن في حياتها ظمأى إلى الحقيقة، وهي تحوّل أنظارها باتّجاه آخر أمام الحقائق التي تزعجها، وتفضّل تأليه الخطأ إذا وافقها هذا الخطأ"، مثلما يقول غوستاف لوبون في كتابه "سيكولوجيا الجماهير".
ارسال التعليق