السكن في السعودية وتفنّن ملوك الأمس واليوم في تأزيمه
بقلم: منصور البقشي...
الخوض في غمار أزمة السكن في شبه الجزيرة العربية دونه تفاصيل طويلة يكمن شيطان الأزمة فيها. بدءا من جذور الأزمة وليس انتهاءً بالمحاولات الحكومية المتوالية " ترقيع" المشكلة بما يسمونه حلولا. إلا ان هذه الحلول لا تتعدّى كونها امتصاصا لغضب الشارع، طمعا بكسب المزيد من الوقت ريثما يتعايش المواطن مع الأزمة؛ التي وُجدت أساسا مع عهد فيصل بن عبد العزيز آل سعود.
أمام تفاقم الأزمة تستمر الوعود الكاذبة بإصلاح مشكلة يعاني منها أكثر من ٨٠% من السكان. طوراً تدّعي السلطات أن الوزراء على رأس وزارة الإسكان هم المسؤولون عن تفاقمها ليتم تبديل ٤ وزراء في ظرف سنتين؛ ولكن مع بقاء المشكلة قائمة يعي المواطنين أن رأس الخطيئة هي الأصل الذي قام عليه هذا الكيان.
وفي حين لا تتعدى نسبة المنازل المملوكة ٣٠% بينما نسبة المستأجرة منها تتعدى ال ٦٠%، بدأت الأزمة مع قدوم فيصل بن عبد العزيز ولم تنتهِ مع رحيله بل تفنن كل " ملك" بعده بتأزيم الوضع أكثر وفق مصالح العائلة الخاصة.
قدوم فيصل بن عبد العزيز آل سعود أسس لحالة سيطرة على الأراضي التي كان يتقاسم أبناء الجزيرة العربية ملكيتها تبعا لقوانين حكمت ذلك العصر. أتى وسيطر على الأراضي بالقوة ووزّع الحصص على أبناء عشيرته دون وجه حقّ ليحيل ملكية الأراضي إلى " الأمراء" وغيرهم ممن كان يسترضيهم.
من هنا تفرّعت مشاكل لا تزال قائمة إلى اليوم، تملُّك " الأمراء" لمعظم الأراضي وخاصة في المناطق المأهولة للسكن حرم الناس العاديين من فرص تحسين ظروف حياتهم. فمن ناحية نشهد مثالا أن " الأمير" قد يُبقي على تملّكه للأرض لعقود طويلة يحتكر خلالها حق الناس من إيجاد أماكن للسكن، فلا هو يستثمر ولا هو يبيع.
على سبيل المثال ما نسبته تقريبا ٦٥% من أراضي الأحساء والقطيف غير معمورة لأن الأمراء مستولين علىها ويمنعون الناس من البناء عليها بطبيعة الحال؛ ما يضيّق الخيارات أمام الراغب بالتملك ويجبره على البحث عن مسكن في المساحات المتوفرة التي يكون الطلب عليها عاليا وبالتالي سكنها سواء للتملك أو الإيجار يكون مرتفعا.
هكذا ساهم تمليك الأراضي من الملك للأمراء في الماضي إلى رفع تكاليف الاجارات بشكل غير مباشر؛ ولكن له شكل مباشر أيضا عندما يعرض أحدهم -المُلّاك القدماء أو الجدد- جزءا من أراضيه للبيع ويكون العرض أقل من الطلب بكثير فيحتكر الأسعار ويحددها دون منافسة بمستوى لا تتحمله جيبة المواطن.
إلى جانب ذلك؛ تعتمد السلطات مبدأ قوننة الظلم، فتقوم بتحديد الشريحة ممن يحق لهم التقديم لتملّك منزل ضمن حدود راتب معين تحدده هي؛ ومن يكون راتبه أقل منه لا يُسمح له بتاتا. ومن ثم يتم تصفية هذه الشريحة مرة أخرى عبر إجبارهم على دفع ما نسبته ٣٠% من سعر الملك كدفعة أولى حتى يكون العقد سارياً، وهي نسبة تُعدّ مرتفعة جدا حيث يعجز المواطن ذو الدخل المحدود عن تأمين المبلغ دفعة واحدة، فإما أنه يأجل فكرة التملك أو أن يستدين اذا لم يكن يملك المبلغ.
واحدة من النقاط التي يذكرها المؤرخون والتي ساهمت بتعقيد خطوة التملّك، كانت عام ١٩٦٨ عندما صدر مرسوما ملكيا في عهد فيصل بن عبد العزيز ألغى فيه مبدأ " الإحياء" الإسلامي. وينص هذا المبدأ على تمليك الشخص للأرض عندما يُحييها في ظرف مدة زمنية معينة إما بالزراعة أو بالبناء وما شاكل. وبإلغاء هذا المبدأ تفرّغ " الملك" لانتزاع الأراضي من ساكنيها.
تقديم " الملك" الأراضي للأمراء؛ هو عين " بيع من لا يملك لمن لا يستحق" . وتبعا له يرزخ المواطن الى اليوم تحت أعباء كثيرة، منها اضطراره لتقديم رشوة للتمكن من الامتلاك؛ أو الاضطرار للجوء إلى الاجار الذي يهلك دخله فيتعدى في بعض الأحيان نصف راتبه؛ أو أن يلجأ إلى القروض العقارية التي شكلت في مايو الماضي ٦٧% من إجمالي القروض العقارية المصرفية حينها.
أمام الضجة والغضب الشعبيين الذين تليا تفاقم أزمة السكن؛ عمدت السلطات إلى طرح المسألة في وعودها لتمرير جرعات أمل تسكن غضب الشارع.
فمنذ عام 2017، أطلق مجلس “الشؤون الاقتصادية والتنمية” برنامج الإسكان الذي حددت أهدافه “بتقديم حلول سكنية للأسر السعودية تساعدهم على تملك المنازل المناسبة، أو الانتفاع بها وفق احتياجاتهم وقدراتهم المادية”، وذلك عبر حرصه على “تفادي التمويل المباشر لإنشاء الوحدات والمجمعات السكنية، والاستفادة من القطاع الخاص، ودعمه بالحلول التمويلية لتمكين الأسر السعودية من الحصول على مساكن ملائمة، وزيادة نسبة تملكها إلى 60%، مع زيادة المحتوى المحلي في قطاع الإسكان إلى 73.6%”، هذا المجلس وهذه الأهداف المحددة لم يحدث لها تطبيق على أرض الواقع، وقد خرجت الكثير من الانتقادات لبقاء المشروعات قيد العناوين رغم مرور سنوات على إطلاقها، فهي لم تدخل حيّز التنفيذ، وسط ما تعانيه الأسر من كثير من الأزمات والاكتظاظ والأوضاع الاقتصادية المتأزمة.
تتفاقم هذه الأزمة أيضا في ظل سياسة التهجير المعتمدة حيث طردت السلطات السعودية مئات الآلاف من السكان من منازلهم، وتسبب برنامج هدم احياء في جدة بأزمة نزوح كبيرة، زادت من أزمة السكن خصوصاً مع ارتفاع أسعار الإيجارات.
ورغم التعويضات التي تقدمها لأصحاب الأراضي والمنازل المُهجّرين، لكنها تعويضات شكلية لا تشكّل بديلا على الإطلاق لما تم سلبه.
ما أشبه اليوم بالأمس، تهجير وسلب أراضٍ، لعلّها اليوم مقوننة ومجمّلة خوفا من تصاعد ردات الفعل التي تعمل أجهزة البلاد على كبتها أكثر من عملها في أي شيء آخر.
ارسال التعليق