تركيا و"السعودية"..مصالحة أم تأجيل للخلاف؟
لطالما قيست العلاقات بين أنقرة والرياض من بوابة التنافس على تزعم "العالم السني"، وإذ أن مؤشرات التقارب مع "أعداء" الأمس لا تنحصر بـ"السعودية" فقط، بل تتعداها لخطوات شبيهة باتجاه كل من الإمارات و"إسرائيل"، إلا أن زيارة الرئيس التركي رجب طيب أردوغان إلى "السعودية"، أمس الخميس والمستمرة ليومين، تأتي في سياق استكمال مسار طيّ صفحة قتل الصحافي جمال خاشقجي في قنصلية بلاده في إسطنبول عام 2018، كخطوة تلت تثبّيت القضاء التركي إحالة المحاكمة الغيابية التي كانت جارية في إسطنبول لستة وعشرين "سعودياً" إلى السلطات "السعودية".
بطبيعة الحال، لم تكن جريمة اغتيال خاشقجي أولى نكسات العلاقة المزمعة بين البلدين، بل سبقت الواقعة عدد من التجاذبات السياسية والتراشق الإعلامي الناتج عن وديّة العلاقات القائمة مع قطر واستثمار ذلك في الحرب على سورية من خلال دعمهما لما يسمى "الجيش السوري الحر" والفصائل الدينية ذات التبعية الإخوانية بمواجهة التمويل السعودي لقوات سورية الديمقراطية (قسد) الكردية، وما عناه الأمر من مسّ بالمحظور وتهديد للأمن القومي التركي بعد سيطرة قوات قسد على المناطق الحدودية مع تركيا والخوف من مهبة تشجيع أكراد تركيا على الانفصال وتوحيد الجبهات، الأمر الذي دفع أنقرة لشن حملات عسكرية في الشمال الشرقي لسوريا ووقف تمدد قسد. بالإضافة إلى ذلك، تم الاتفاق التركي مع روسيا وبرعاية أميركية على سيطرة قواتها على منطقة بعمق 32 كيلومترا في سوريا وتسيير دوريات مشتركة روسية- تركية في ما سميّ بالمنطقة الآمنة.
شكل "الإخوان المسلمون" القطبة التي أفلتت من عقال الودّ بين البلدين، حيث لم يرق للرياض تولي الإخوان السلطة في كل من تونس ومصر بعد سقوط الأنظمة فيها، وكانت مستعدة لدعم أي خيار بديل عن حزب النهضة التونسي وحزب الحرية والعدالة المصري، لذلك وجدناها أكثر انفتاحا وفي صف واحد مع عبد الفتاح السيسي كما هللت لوصول قيس سعيد وسارعت لدعوته لزيارة "المملكة".
إلى ذلك، راكم حصار قطر في العام 2017 من الجمود بين البلدين خاصة لجهة شمول الشروط الـ13 المقدمة إغلاق القاعدة التركية، حيث صرّح وزير الدفاع التركي على الفور بأن تركيا لن تغلق القاعدة العسكرية التركية في قطر، وأضاف: "القاعدة في قطر قاعدة تركية من شأنها الحفاظ على أمن قطر والمنطقة". وفي 7 يونيو/حزيران 2017، وعلى وجه السرعة، وافق البرلمان التركي على تشريع يسمح بنشر القوات التركية في القاعدة العسكرية التركية في قطر. ولم يقتصر الرد التركي على التعاون العسكري بل امتد ليشمل شحنات الغذاء والماء والأدوية عن طريق الشحن الجوي والبحري.
في الحسابات القطرية، تركيا شريك استراتيجي بحكم الاتفاقية التي وُقِّعت مع قطر نهاية عام 2014، وبالتالي فقد كان متوقعا من أنقرة أن تقوم بما قامت به بموجب هذه الاتفاقيات، فضلًا عن حقيقة أن الدوحة كانت أول من أدان، في يوليو/تموز 2016، المحاولة الانقلابية الفاشلة في تركيا، وبالتالي فقد كان من المنطقي أن تتوقع أن يتم رد الجميل لها وقت الحاجة.
وبالعودة إلى الزيارة، يبدو أن أردوغان في خضم تبني سياسة جديدة مع منافسيها في الشرق الأوسط، الأمر الذي يعود بنا إلى سياسة "تصفير المشكلات" مع الجوار التي كان حزب العدالة والتنمية قد أعلنها وانتهت مع انفصال مهندسها أحمد داوود أوغلو وتزخيم العداء مع الدول العربية انطلاقا من آليات التعامل مع التحركات في سوريا وصولاً إلى التآمر عليها.
ما يجمع الرياض وأنقرة سوية يتمثل في خيبة الأمل العسكرية لهما في السنوات الأخيرة. حيث أظهر الطرفان ثقة مفرطة بقدرتهما على حسم جولات ومعارك إقليمية دون أن ينالوا حتى ولوّ قطرة من الانجازات، سواء في سوريا أو اليمن. منّى أردوغان نفسه بالصلاة في الجامع الأموي في دمشق في حين أن محمد بن سلمان كان حازما بأن المعركة في اليمن لا تستحق البحث وأنها مسألة أسابيع فقط. ومرّت السنين في سيناريو خالف توقعات الطرفين، وراكم الطرفان خيباتهم العسكرية وأحلامهم السياسية.
على الضفة السياسية، خيبة أخرى. فمن جهة شكل وصول الرئيس الأميركي جو بايدن وقراره القاضي بالانسحاب من أفغانستان صدمة بالنسبة لأدوات أميركا في الشرق الأوسط و"الخليج"، الأمر الذي دفعهم للبحث عن شركاء جدد والتصدي للتحديات المنتظرة في المرحلة المقبلة. كما ساهم العدوان على أوكرانيا والانشغال الغربي في مواجهة روسيا في تثبيت دعائم الانعتاق الغربي عن ملفات الإقليم، وبالتالي زيادة منسوب الضغط على الدول، وتبيان تشبيك المصالح كضرورة إقليمية بمواجهة قرب توقيع الاتفاق النووي مع إيران، بما يمثله الأمر من تهديد مشترك لمختلف الأطراف.
أما إقتصادياً، بدون شكّ تأتي زيارة أردوغان إلى السعودية في سياق استمرار تأزم الوضع الاقتصادي في البلاد وانخفاض قيمة الليرة التركية، وما يعكسه الأمر من انخفاض في مستوى المعيشة ، بالإضافة إلى عبئ اللاجئين، واتهامات المعارضة التركية لأردوغان بامتناعه عن إعادته إلى سوريا عملاً بالتعليمات الأميركية.
تأتي زيارة أردوغان إلى الرياض لإعادة إحياء التبادل التجاري بين البلدين، وخاصة أن تركيا احتلت في ديسمبر/كانون الأول 2019 المرتبة الـ11 في قائمة الموردين إلى "المملكة"، لتحل في المرتبة 85 في نفس الشهر من العام التالي، واستمر هذا التراجع متأثرا بجائحة كورونا وانعكاساتها على السوق العالمي.
يبدو أن محمد ابن سلمان، بعد تراجع وضعف دور "المملكة" نتيجة سياساته الخاطئة، قد قلب صفحة خلافه مع تركيا وأراد أن يكون براغماتياً كأقرانه، وذلك بهدف التقرب من تركيا ومنع جنوحها أكثر نحو الحضن القطري والإماراتي. أضف إلى أولوية مواجهة تبعات توقيع إيران للاتفاق النووي مع الدول الغربية، ما يدلل على مرحلة جديدة في المواجهة مع حلف المقاومة.
ارسال التعليق