دراسة ترصد مخاطر تبعية الإصلاحات لتفضيلات ابن سلمان وليس لحاجة الواقع
رصدت دراسة أصدرها مركز الفكر الاستراتيجي للدراسات، مخاطر تبعية الإصلاحات في السعودية لتفضيلات محمد بن سلمان ولي العهد وليس لخطط منهجية وحاجة الواقع.
وقالت الدراسة إنه حتى يحقق التنويع الاقتصادي استدامة حقيقية ينبغي أن ينطلق من احتياجات الواقع وقدراتها التنافسية، في حين أن الإصلاحات في السعودية عادة ما تعكس تفضيلات صانعي السياسات أكثر منها مكامن القوّة التنافسية لاقتصاداتها.
وذكرت أن التركيز على القوة التنافسية لدى الدولة يسهل لها تحقيق تنويع اقتصادي من جهة، كما يحقق لها سهولة التفوق في المجال الذي تتميز فيه عن غيرها.
ويُلاحظ أن معظم مشاريع رؤية السعودية 2030 ركزت على جانبيين رئيسيين، الأول يتعلق بإصلاحات مجتمعية، والثاني يتعلق بالمشاريع الترفيهية.
ومن يتتبع سير تطبيق خطوات تنفيذ مشاريع الرؤية يدرك أن معظم تلك المشاريع لا تتبع خطة منهجية في التنفيذ وبالتالي تنعكس بشكل سلبي على هدف التنويع الاقتصادي بشكل عام، وعلى الرؤية بشكل خاص.
وفيما يلي النص الكامل للدراسة:
يعد النفط حجر الزاوية التي يقوم عليها الاقتصاد في السعودية، كونه المحرك الرئيسي لميزانية الدولة، ولطالما شكل ارتفاع أسعاره في السوق العالمية فرصة لخلق رخاء اقتصادي طيلة العقود الماضية.
لكن مثل هذا الرخاء لم يكن ليستمر نظراً لتذبذبات أسعار سوق النفط، والمرتهنة بشكل أساسي للتقلبات السياسية والاقتصادية على نطاق عالمي.
وبالتالي بقدر ما تشكل أسواق النفط فرصة سانحة لخلق رخاء اقتصادي تشكل في الوقت نفسه مصدر تهديد حقيقي كونها غير مأمونة النتائج.
ومن هذا المنطلق ركزت “رؤية 2030 ” على ضرورة التنويع في مصادر الدخل من أجل التخلص من التبعية المطلقة للنظام الريعي الذي شكله الاقتصاد القائم على أسواق النفط.
تم الإعلان عن الرؤية في 25 ابريل 2016، وتضمنت 80 مشروع حكومي، تفاوتت ميزانياتها بين 3.7 مليار ريال وبعضها يصل إلى 20 مليار ريال.
كما تفاوتت في مجالاتها إذ يركز بعضها على الجانب المجتمعي كمشروع جودة الحياة، وبعضها يركز على جانب اقتصادي كمشروع “نيوم” أو المشاريع الترفيهية التي تهدف إلى إنعاش الجانب الاقتصادي، إضافة إلى أنها تنوعت في الجهات المشرفة على تطبيقها بين القطاع الحكومي والخاص والقطاع غير الربحي من أجل ضمان تكامل أدوار هذه القطاعات بشكل ينعكس ايجابياً في تطبيق الرؤية.
هدفت الرؤية بشكل أساسي إلى تحقيق أهداف طموحة منها:
امتلاك أضخم صندوق سياسي في العالم:إذ تهدف السعودية إلى تحويل صندوق الاستثمارات العامة السعودي إلى صندوق سيادي بأصول تقدر قيمتها بتريليوني دولار إلى 2.5 تريليون دولار.
ليصبح قادراً على السيطرة على أكثر من 10% من القدرة الاستثمارية في الكرة الأرضية، ويقدر حجم ممتلكاته بأكثر من 3% من الأصول العالمية.
وبهذا سيمكن السعودية من أن تلعب دوراً جوهرياً- على مستوى عالمي- في الجانب الاقتصادي. ومن أجل تحقيق هذا الهدف تم تبني استراتيجية ” طرح أرامكو بالبورصة” والتي تقدر قيمتها المالية بحوالي 1.2 تريليون دولار.
فمن خلال طرح أقل من 5% من شركة النفط الوطنية العملاقة أرامكو للاكتتاب العام في البورصة تهدف السعودية إلى تحقيق هدفين، الأول يتعلق بتوفير سيولة نقدية للصندوق السيادي السعودي، والثاني يتعلق بإمكانية تحقيق قدر عالي من الشفافية، والتي بدورها يمكن أن تشكل عاملاً مهماً لجذب الشركات الدولية.
التحرر من النفط:
تضمنت الرؤية أيضاً- بشكل أساسي- هدف التخلص من التبعية للنفط بحلول العام 2020، حينها افترض أنه يمكن المضي بالخطط الاقتصادية للرؤية حتى إذا وصل سعر النفط إلى 30 دولاراً أو أقل. على افتراض استحالة أن ينزل سعر البرميل إلى ما دون ذلك بسبب الطلب العالمي.
ومن خلال تطبيق تلك المشاريع هدفت الخطة إلى زيادة الإيرادات غير النفطية ستة أضعاف من نحو 43.5 مليار دولار سنويا إلى 267 مليار دولار سنويا، كما هدفت إلى زيادة حصة الصادرات غير النفطية من 16% من الناتج المحلي حاليا إلى 50% من الناتج.
وكل هذه الجهود تأتي في سبيل تحقيق هدف أن تحسن السعودية وضعها الاقتصادي لتصبح ضمن أفضل 15 اقتصادًا في العالم بدلا من موقعها الراهن في المرتبة العشرين.
ومن أجل تطبيق مشاريع الرؤية تبنت السعودية جملة من الاستراتيجيات الرامية إلى توفير سيولة نقدية، تسهل من عملية تمويل المشاريع الضخمة من أجل تحقيق الهدف الرئيسي من الرؤية وهو تنويع مصادر الدخل، والتخلص- بمرور الوقت- من التبعية للاقتصاد الريعي القائم على أسواق النفط.
ومن تلك المشاريع التي تم تطبيقها تفعيل استراتيجية الاستثمارات الخارجية، وتقديم تسهيلات للشركات الدولية، والبدء بتنفيذ المشاريع الضخمة كمشروع نيوم الذي يعد أحد أكبر مشاريع الرؤية من حيث الميزانية، إذ بلغت ميزانيته 500 مليار دولار.
على الرغم من الأهداف الطموحة التي تبنتها الرؤية منذ انطلاقها في 2016، لم تتمكن من تحقيق معظم أهدافها بسبب مجموعة من التحديات الداخلية والخارجية، لكن أبرزها تأثيرات جائحة كورونا منذ مطلع العام 2020، والتي تسببت ولأول مرة في هبوط سعر برميل النفط إلى 16 دولار لأول مرة في التاريخ.
وهو ما أثر بشكل كبير على توقف معظم مشاريع الرؤية ودفع السعودية إلى تبني سياسيات تقشفية لأول مرة في تاريخها الحديث.
وحتى تستمر السعودية في دعم مشاريع الرؤية لتحقق هدف التنويع الاقتصادي، تبنت استراتيجيات مختلفة أبرزها قرار توطين الشركات المتعددة الجنسيات في السعودية، من أجل الاستفادة من إمكانيات وعلاقات هذه الشركات بما يعود بالفائدة على الاقتصاد السعودي، وبما ينعكس بشكل إيجابي على تطبيق مشاريع رؤية 2030.
تهدف الورقة- بشكل أساسي- إلى تسليط الضوء على مجموعة من القضايا المتعلقة بقرار توطين الشركات المتعددة الجنسيات في السعودية، منها:
– دراسة التغيرات الاقتصادية التي شكلت تحديات إضافية لتطبيق رؤية 2030
– التركيز على الأسباب التي دفعت السعودية إلى تبني قرار توطين الشركات المتعددة الجنسيات في السعودية
– إيضاح التحديات الداخلية والخارجية التي تواجه تطبيق هذا القرار
– استشراف انعكاسات تطبيق هذا القرار على الجانب الاقتصادي، والاجتماعي، والسياسي.
الاقتصاد السعودي وتحديات تنويع المصادر الاقتصادية:
أدى ظهور النفط في السعودية وتصديره خلال فترة الأربعينيات والخمسينيات إلى زيادات ضخمة في العائدات والثروات، وهو ما انعكس على الحياة الاجتماعية والاقتصادية، حيث قدمت الحكومة هذه الثروات لمواطنيها من خلال ثلاث قنوات أساسية.
أوّلاً، توسعة وتحسين الخدمات والمنافع العامة في قطاع التعليم والصحة وقدرة الوصول إلى التمويل.
ثانياً، تمكين مواطنيها من الوصول إلى فرص العمل في القطاع العام لقاء رواتب ومنافع أعلى بكثير من تلك التي يمنحها القطاع الخاص.
ثالثاً: تمكين أصحاب الأعمال من الوصول إلى الريوع الاقتصادية من خلال العقود الحكومية والتراخيص الحصرية، ممّا سمح لهم بكسب عائدات وأرباح فائضة من أعمالهم.
هذا النظام الاقتصادي الذي اعتمدته الحكومة في السعودية خلق عقداً اجتماعياً له أطره الخاصة، والتي تحكم العلاقة بين الجهات الحاكمة وبين الناس.
وفهم طبيعة هذا العقد الاجتماعي يسهم في معرفة إمكانية نجاح الإصلاحات السياسية التي يتم تبنيها من عدمه.
فالمواطنون اعتادوا نظاماً معيناً يمكنهم من الاستفادة من الثروات المتراكمة المتحققة من انتاج النفط، وبالانتقال إلى سياسات اقتصادية أخرى لا تعتمد على النفط، سيكون لها تبعاتها على هذا العقد الاجتماعي الذي يجمع بين المواطنين والدولة.
وتضع قنوات الوظائف الحكومية قنوات العقد الاجتماعي قيد التنفيذ ولن يكون من السهل إعادة التفاوض بشأنها، حتّى لو تضاءلت عائدات النفط.
ونظراً لأن تبني إصلاحات اقتصادية بات ضرورة، وهو ما أثر على الفوائد المتحققة من الالتحاق بالقطاع العام، وبالتالي أثر على قدرة المواطنين من الوصول إلى حصتهم من الثروة من خلال علاوات الرواتب في القطاع العام.
وهو ما يعني الحدّ من قدرة وصول الأعمال التي يملكها المواطنون إلى العقود الحصرية أي أنّهم – من خلال هذه الأعمال التي يملكونها- وإن كسبوا الأرباح التي يفرضها السوق لن تعود لهم القدرة للوصول إلى حصّتهم من الثروة من خلال عقود الأعمال الحصرية.
وطرح إصلاحات اقتصادية كهذه، من دون تحديد وإنشاء قنوات بديلة لتشاطر ريوع الموارد الطبيعية، أمر غير عادل ومصيره الفشل على حدّ سواء”.
نجحت السعودية- شأن الدول الخليجية الأخرى- في تحقيق رفاه اجتماعي من خلال الاعتماد على النفط، لكن فشل جميعها بنسب متفاوتة من الاستغناء عن تبعيته للنفط وتحقيق تنوع اقتصادي يخلق له استقرار اقتصادي حقيقي يقوم على الإنتاج والتصدير.
ويتطلب التنويع الاقتصادي إلى قدرة على أنتاج سلع وخدمات -غير الهيدروكربون ومشتقّاته- يمكن المتاجرة بها مع باقي العالم. لكن يبدو أن السعودية لا زالت بعيدة عن تحقيق مثل هذا الهدف، ففي العام 2018، شكّل الهيدروكربون والمنتجات المرتبطة به أكثر من 80 % من الصادرات الإجمالية في السعودية.
ويعد الاستثمار الأجنبي المباشر، أحد أبرز الوسائل التي تمكن الدول من تحقيق التنويع الاقتصادي فيها، لكن دول الخليج بشكل عام لا تزال غير نشطة في هذا الجانب، إذ لم تبلغ التدفّقات الصافية من الاستثمار الأجنبي المباشر إلى مجلس التعاون الخليجي ككلّ سوى 1,1 في المئة من الناتج المحلّي الإجمالي بين العامين 2015-2019.
ويمثّل هذا الرقم أقلّ من نصف المتوسّط العالمي وأقلّ بثلاثة أضعاف تقريباً من تدفّقات الاستثمار الأجنبي المباشر إلى الاقتصادات العالية الدخل.
تحديات تنويع المصادر الاقتصادية في السعودية:
تواجه السعودية مجموعة من التحديات التي تشكل عقبة تحول دون تمكنها من تطوير قدرتها في تنويع مصادرها الاقتصادية، وتتمثل تلك أبرز تلك التحديات في النقاط التالية:
ضعف بيئة الأعمال:
تعد بيئة الأعمال الضعيفة أحد أبرز الأسباب التي تقف خلف التدفقات المنخفضة من الاستثمار الأجنبي المباشر إلى السعودية.
إذ تفتقر بيئة الأعمال في السعودية إلى وجود أطر قانونية محددة الملامح توضح شروط عمل الشركات الأجنبية، وعادة ما يتم إجراء التعديلات في السياسات على أساس مرتجَل بدون إنذار أو مراجعة.
وقد تشمل هذه التعديلات الحدّ من تراخيص العمل من دول معيّنة والحدّ من تحويل الأموال إلى الخارج وقطع العلاقات الاقتصادية مع الدول المجاورة.
ويزيد هذا الغموض في السياسات من الخطر للشركات الدولية، وحتّى المحلّية، التي ترغب في الاستثمار في المنطقة.
عدم نجاح السعودية في تطوير القطاعات غير النفطية:
على الرغم من مرور أكثر من خمسة أعوام على إطلاق رؤية 2030 والتي هدفت بشكل رئيسي إلى التخلص من التبعية للنفط، لا زالت معظم المشاريع القائمة في الرؤية تعتمد على تمويل النفط.
وبعيداً عن تأثيرات جائحة كورونا، لم تتخذ السعودية الإجراءات اللازمة لتحقيق هذا الهدف المهم وإن كانت قد عملت على تغيير بعض سياساتها الاقتصادية.
وبشكل عام يتطلب التنويع الاقتصادي الناجح والنمو الاقتصادي المستدام بناءَ قطاعات مستقلّة فعلاً عن النفط والغاز.
فعلى مرّ الزمن، مع انخفاض عائدات النفط والغاز، بإمكان هذه القطاعات المستقلّة التوسّع مع ابتعاد النشاط الاقتصادي عن القطاعات المدعومة بالهيدروكربون.
وترتكز القدرة على إنشاء قطاعات مستقلّة على ثلاثة أسس:
(1) اعتماد إطار عمل مالي يخصِّص عائدات النفط والغاز للريوع القصيرة الأمد أو للاستثمارات الطويلة الأمد مع الحد الأدنى من التشوهات الاقتصادية.
(2) تمكين قطاع خاص موجّه نحو التصدير لا يعتمد على النفط والغاز لكي ينمو ويزدهر.
(3) بناء يد عاملة قادرة ومحفَّزة خارج القطاع العام تتضمّن روّاد الأعمال.
ومن خلال تتبع الإصلاحات الاقتصادية التي تبنتها السعودية عقب إطلاق رؤية 2030 نجد أنها حققت تقدماً إلى حد ما في بعض الجوانب لكنها لم تحقق تنوعاً حقيقياً في الجانب الاقتصادي والسبب هو أنها عمدت إلى تبني إصلاحات جزئية، في حين استمرت بالاعتماد بشكل كبير على العائدات من الغاز والنفط.
العشوائية في عملية الإصلاح:
حتى يحقق التنويع الاقتصادي استدامة حقيقية ينبغي أن ينطلق من احتياجات الواقع وقدراتها التنافسية، في حين أن الإصلاحات في السعودية- وغيرها من دول الخليج- عادة ما تعكس تفضيلات صانعي السياسات أكثر منها مكامن القوّة التنافسية لاقتصاداتها.
إذ أن التركيز على القوة التنافسية لدى الدولة يسهل لها تحقيق تنويع اقتصادي من جهة، كما يحقق لها سهولة التفوق في المجال الذي تتميز فيه عن غيرها.
ويُلاحظ أن معظم مشاريع الرؤية ركزت على جانبيين رئيسيين، الأول يتعلق بإصلاحات مجتمعية، والثاني يتعلق بالمشاريع الترفيهية.
ومن يتتبع سير تطبيق خطوات تنفيذ مشاريع الرؤية يدرك أن معظم تلك المشاريع لا تتبع خطة منهجية في التنفيذ وبالتالي تنعكس بشكل سلبي على هدف التنويع الاقتصادي بشكل عام، وعلى الرؤية بشكل خاص.
ترهل القطاع العام وجمود القطاع الخاص:
نظراً للميزات التي يوفرها النظام العام، يتوجه معظم المواطنين إليه، لكن التنويع الاقتصادي يقوم بشكل أساسي على تعاون وتكامل القطاع العام بالقطاع الخاص بالقطاعات غير الربحية.
ونظراً لإقبال المواطنين بشكل كبير على القطاع العام توسع بشكل مضطرد خلال العقود السابقة، لكن اليوم ومع تراجع أسعار النفط، ووجود حاجة ملحة للاعتماد على سياسة التنويع الاقتصادي بات من المهم تفعيل دور القطاع الخاص.
لكن القطاع الخاص في السعودية- شأنه شأن معظم دول منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا – لا يزال يعاني من إشكاليات جوهرية، إذ يعاني هذا القطاع من غياب التنظيم المؤسسي وإن وجد فيكون مفرطاً في التنظيم، ناهيك عن أنه يدار -عادة- من قبل نظام مترسّخ من المحسوبيات والمعارف.
وعادة ما يتم تمويله من قبل المؤسسات المالية العامة كما أنه ينال دعماً من خلال الإعانات الحكومية، وبالتالي من الصعب أن يقف القطاع الخاص ويعتمد على نفسه بشكل كامل، كما يصعب عليه أن ينمو بشكل طبيعي، إضافة إلى ذلك يصعب على أي شخص بلا معارف سياسية أن يؤسّس عملاً ناجحاً وينمّيه.
وترجع جذور هذه العوامل إلى الاقتصاد السياسي وإلى العقد الاجتماعي الحاكم في دول مجلس التعاون الخليجي.
الشركات المتعددة الجنسيات:
منذ مطلع القرن الماضي انتشر ما عرف باسم بالشركات المتعددة الجنسيات، وفي 1914 قدر الرصيد العالمي للاستثمارات الأجنبية المباشرة لهذه الشركات بـ 14 مليار دولار، واعتبرت الشركات البريطانية آنذاك المصدر الأكبـر للاستثمار، تليها الشركات الأمريكية والألمانية.
ومنذ ظهورها- خصوصاً الحرب العالمية الأولى- حرصت هذه الشركات على السيطرة على المـوارد الأوليـة الكامنـة فـي أراضـي المـستعمرات ومنهـا المطـاط الطبيعـي والـنفط والنحـاس، وبعـد الحـرب العالميـة الثانيـة توسـعت هذه الشركات في الأسواق التصديرية الأوروبية.
وخلال فترة السبعينات نتيجة لتطور البحث العلمي والتكنولوجي انخفضت تكلفـة الإنتـاج، كما أن تطور الالكترونيات خـلال الثمانينـات جعـل العـالم يعـيش الثـورة الصناعية الثانية التي أدت لزيادة كبيرة في أرباح الشركات المتعددة الجنسيات.
ومنذ التسعينات تعاظم دورها وتزايدت أرباحها نتيجة لانتشار تطبيقات العولمة، ومنها العولمة الاقتصادية التي ربطت مختلف اقتصادات العالم بسوق موحدة، استفادت منها هذه الشركات بشكل كبير.
ونظراً لتعاظم دورها في العقود الأخيرة تسعى كثير من الدول إلى الاستفادة من وجود هذه الشركات على أراضيها لما يتحقق من الفوائد الاقتصادية بوجودها، حيث تسهم في جذب استثمارات أجنبية أخرى.
كما تسهم في خلق فرص عمل نوعية بما ينعكس بشكل إيجابي على الجانبين الاجتماعي والاقتصادي على حد سواء.
وتعد الإمارات أبرز نموذج خليجي سعى منذ وقت مبكر إلى جذب هذه الشركات ضمن خططها لتطبيق استراتيجية التنويع الاقتصادي، وتسعى السعودية إلى تطبيق نفس الاستراتيجية بشكل موسع، وهو ما دفعها منذ إطلاق رؤية 2030 إلى تبني مشاريع اقتصادية تقوم على شراكات مع استثمارات أجنبية.
كما أن كثير من مشاريعها العملاقة المتعلقة بتطوير البنية التحتية يأتي ضمن سعيها لجذب الاستثمارات الأجنبية بشكل عام والشركات متعددة الجنسيات بشكل خاص، ولعل قرارها الأخير بضرورة توطين الشركات متعددة الجنسيات ليكون لها مقار دائمة في السعودية يصب ضمن سعيها لتطبيق استراتيجيات التنويع الاقتصادي بشكل فاعل.
توطين الشركات المتعددة الجنسيات:
تضم منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا مقرات إقليمية لحوالي 346 شركة عالمية، لا يتجاوز نصيب المملكة منها 7 %، ويعد الاقتصاد السعودي أكبر اقتصاد في المنطقة العربية. كما أنها الدولة العربية الوحيدة في مجموعة العشرين الدولية التي تضم أقوى 20 اقتصادًا حول العالم.
وحتى تعزز من تواجد الشركات العالمية فيها وتستفيد من وجودها، أعلنت الرياض في منتصف فبراير 2021 أنّها ستوقف اعتباراً من 1/1/ 2024 التعامل مع أي شركة أجنبية تعمل من مكاتب إقليمية لها خارج السعودية.
وذلك من أجل تحقيق هدف تعزيز الاستثمار الأجنبي في المملكة بعد ارتفاع معدّل البطالة فيها، ويشمل القرار الهيئات والمؤسّسات والصناديق التابعة للحكومة أو أيّ من أجهزتها وذلك من اجل تقليص التعامل الرسمي مع هذه الشركات من اجل دفعها لإدارة أعمالها من داخل السعودية نفسها بدلاً من مكاتبها الإقليمية.
يأتي هذا القرار في ظل مجموعة من التحديات التي تواجه الاقتصاد السعودي، تحديات مزمنة فرضها واقع الاقتصاد الريعي الذي اعتمدت عليه السعودية طيلة العقود السابقة.
وتسبب في حدوث اختلالات اجتماعية واقتصادية بسبب ارتباطه بشكل رئيسي بتقلبات أسواق الطاقة وعدم اعتماده على الإنتاج بمختلف مجالاته وأنواعه.
ناهيك عن الفواتير الضخمة التي فرضتها تأثيرات تفشي جائحة كورونا التي لا تزال آثارها مستمرة على مستوى السوق العالمي بشكل عام وعلى مستوى سوق الطاقة بشكل خاص.
كما يهدف هذا القرار إلى تحقيق جملة من الأهداف منها:
– تحويل الرياض إلى مركز تجاري ومالي يضم مقرات الشركات الأجنبية، مما يسهم في خلق حركة اقتصادية ومالية أكبر، وهذا بطبيعة الحال سيعزز من سمعة السعودية اقتصادياً ويسهم في تدفق الاستثمار الأجنبي أكثر.
– الاستفادة من الشركات والمؤسسات الأجنبية التي لها تعاملات مع حكومة المملكة والهيئات والمؤسسات والصناديق التابعة للحكومة أو أي من أجهزتها، تشمل هذه الاستفادة عدة جوانب منها ربط أنشطة هذه المؤسسات والشركات الأجنبية بالمؤسسات الحكومية بشكل يسهل عملية تفاعلها وانتاجها وتأثيرها على أرض الواقع كونها ستعمل من الداخل السعودي بدلاً من تعاملها عن بعد عن طريق مكاتبها الإقليمية.
– توفير وظائف نوعية في مجالات مختلفة، كما هو معلوم تتميز معظم الشركات متعددة الجنسيات بوجود كادر نوعي مؤهل ومتنوع، وبانتقال مقراتها إلى الداخل السعودي ستتاح وظائف مختلف للمواطنين السعوديين.
وهو ما سينعكس بشكل إيجابي يسهم في حل مشكلة البطالة، من جانب آخر تفتقد السعودية إلى الكفاءات النوعية كونها اعتمدت بشكل رئيسي على العمالة الأجنبية لشغل الوظائف النوعية.
– الحدّ من التسرّب الاقتصادي، إذ أن هذه الخطوة ستقلل من خروج رأس المال الأجنبي من السعودية إلى دول اقليمية أخرى، بمعنى توطين الشركات في السعودية بدلاً عن وجودها المؤقت للتعاقد مع الجهات الحكومية.
كما أنه من شأن هذا القرار سيسهل عملية متابعة الانفاق واجراءاته، وهو الأمر الذي يصعب قياسه ومتابعته في حال عملت من مكاتبها الإقليمية، كون إجراءاتها تكون مرتبطة بشكل رئيسي بالأنظمة الاقتصادية التابعة للدول التي تقيم فيها.
– رفع كفاءة الإنفاق، وهي نقطة تتعلق بالجانب الإداري ولها علاقة وثيقة بالقدرة على المحاسبة وتطبيق مبادئ الشفافية، وهي عناصر تزيد فاعليتها بقربها وانسجامها مع النظام الاقتصادي المطبق.
– ضمان أنّ المنتجات والخدمات الرئيسية التي يتم شراؤها من قبل الأجهزة الحكومية المختلفة يتم تنفيذها على أرض المملكة وبمحتوى محلّي مناسب.
يمكن أن ينعكس تطبيق قرار توطين الشركات المتعددة الجنسيات على أبعاد مختلفة منها:
البعد الاجتماعي:
تعد مشكلة البطالة أحد أبرز الإشكاليات التي تواجهها السعودية في الوقت الحالي، فعلى الرغم من الوفرة الاقتصادية التي حققها الاقتصاد الريعي القائم على النفط في وقت سابق لم تتمكن السعودية من خلق فرص عمل حقيقية للمواطنين.
ومن أجل إدارة الأعمال النوعية اعتمدت على العمالة الأجنبية، ومن أجل حل مشكلة البطالة تم إنشاء “هيئة توليد الوظائف ومكافحة البطالة”، والتي ألغيت في وقت لاحق في (5 مارس/ آذار2018) بعد ان اقر أعضاء مجلس الشورى بأن مشكلة البطالة لا ترتبط بقلة وجود الفرص، بل بعدم توطين هذه الفرص.
ورغم جهود الحكومة السعودية في توطين الوظائف لا زالت مشكلة البطالة قائمة، فبحسب مسح أصدرته الهيئة العامة للإحصاء في السعودية بلغ معدل البطالة للذكور السعوديين 7.2% في الربع الأول من عام 2021، مقابل 7.1% في الربع الرابع من العام الماضي، في حين بلغ معدل البطالة للسعوديات 21.2% خلال الربع الأول من عام 2021، مقابل 24.4% في الربع السابق.
وهي نسبة وان أظهرت تحسناً طفيفاً إلا أن مجمعها الكلي يشير إلى وجود هدر في قدرات المجتمع. ويرجى من تطبيق قرار توطين الشركات متعددة الجنسيات أن يكون لها دور إيجابي يسهم في حل هذه المشكلة بشكل ينعكس بشكل جيد على البعد الاجتماعي.
البعد السياسي:
ضمن مقاربتها في التنويع الاقتصادي الذي تتبناه رؤية 2030 لا تريد السعودية أن تحقق أهدافاً اقتصادية وحسب، بل تريد أن تحقق مجموعة من الأهداف السياسية أيضاً، فمن خلال تبنيها لمشارعي ضخمة مثل مشروع “نيوم”، إضافة إلى رغبتها في امتلاك أكبر صندوق سيادي في العالم تريد السعودية أن تحقق مكانة عالمية.
البعد الاقتصادي:
تسبب انهيار أسعار النفط بسبب تفشي جائحة “كوفيد 19” في خلق ضغوطات هائلة على الاقتصاد السعودي، إذ أثر ذلك على الميزانية بشكل مباشر، كما ان تراجع أسعار النفط ألحق أضراراً جسيمة بالقطاعات غير المرتبطة بالطاقة التي تحاول السعودية تطويرها بهدف تحقيق التنويع.
إذ تبنت السعودية ولأول مرة في تاريخها إجراءات تقشفية من أجل معالجة عجز الميزانية، وهو ما تسبب في توقف الكثير من اعمال مشاريع الرؤية، الأمر الذي سينعكس على خطط تنفيذها وانجازها في تواريخها المحددة سلفاً.
ففي مارس 2020 سجّل صافي الأصول الأجنبية السعودية تراجعاً قدره نحو 27 مليار دولار ليصبح 464 مليار دولار، وهو أدنى مستوى له منذ 19 عاماً.
وقد رفعت وزارة المالية سقف ديونها من 30 في المئة من إجمالي الناتج المحلي إلى 50 في المئة. وأعلنت شركة أرامكو تراجع صافي إيراداتها بنسبة25% في الربع الأول من عام 2020، وبحسب صندوق النقد الدولي، يجب أن يبلغ سعر برميل النفط 76 دولاراً كي تتمكن السعودية من تحقيق توازن في ميزانيتها، في حين استمر سعر البرميل يراوح 30 دولار لأول مرة في أسواق الطاقة نتيجة لتفشي الجائحة.
تحديات تطبيق القرار:
على الرغم من المزايا النوعية التي يتمتع بها الاقتصاد السعودي يوجد مجموعة من التحديات- العامة والخاصة- التي تواجه عملية تطبيق القرار، ومن أبرز تلك التحديات:
– تأثيرات جائحة كوفيد 19، كما هو معلوم أثر تفشي جائحة كورونا على الاقتصاد العالمي بشكل عام، وتأثرت الدول التي يعتمد اقتصادها بشكل رئيسي على النفط بشكل خاص ومنها السعودية.
إذ أن ميزانية السعودية تعتمد بشكل كلي على إيرادات النفط، وعلى الرغم من اعتماد رؤية 2030 على مشاريع متنوعة ألقت في 2016 لا زال الاقتصاد السعودي عاجزاً عن الاستغناء عن النفط، وهذا بدوره يجعله رهينة لتقلبات أسواق الطاقة ويقلل من قوة سمعته في أسواق الاستثمار عالمياً.
– تأخر عملية الإصلاح والتنمية، ترتب على ظهور عجز في ميزانية السعودية وتبني إجراءات تقشفية تأخير عملية سيرورة تنفيذ مشاريع الرؤية، وهذا بدوره سينعكس على جانبين، الأول تحقيق تنوع اقتصادي، والثاني تأخر تنفيذ مشاريع الرؤية سواء في مشاريع البنية التحتية أو المشاريع الاستثمارية سيكون له أثر سلبي على الاقتصاد السعودي بشكل عام، وتحقيق عامل جذب للاستثمارات الخارجية بشكل خاص.
– عملية التغير السياسي وتبعاتها، تشكل عملية التغير السياسي السريع في السعودية إضافة إلى عدم اتساق النظام القانوني عامل قلق لكثير من الشركات الأجنبية، إذ أن حادثة مقتل خاشقجي على سبيل المثال أثرت بشكل كبير على سمعة السعودية سياسياً واقتصادياً.
ناهيك عن أن حادثة اعتقالات السعودية لرجال الأعمال وأفراد العائلة المالكة فيما وصفته بحملة على الفساد في فندق ريتز كارلتون بالرياض عام 2017، إضافة إلى غياب وجود ملاذ قانوني في حال لم تلتزم الجهات الحكومية بالدفع، وتضاعف ضريبة القيمة المضافة 3 مرات.
كل هذه العوامل خلقت حالة من عدم اليقين انعكست سلبياً على الصورة العامة للسعودية باعتبارها مكاناً غير مهيأ للاستثمارات الأجنبية والاستثمارات الضخمة خشية من العواقب المترتبة على وجود مثل هذه العوامل.
– تعقيدات طبيعة السوق السعودية، إذ يعاني السوق السعودي من وجود مجموعة من الاختلالات منها ضعف بيئة العمل بسبب افتقاره إلى القوانين الملزمة والواضحة والقادرة على التعامل مع التحديات التي يفرضها اختلافات الشركات الدولية.
كما أن العشوائية في اتخاذ القرارات وغياب الهيكلية الواضحة في ترتيب إجراءات واحتياجات السوق يخلق تخوفات لدى الشركات الأجنبية، ناهيك عن أن ترهل القطاع العام وضعف القطاع الخاص وضعف الإنتاجية يجعل من طبيعة السوق السعودي بيئة طاردة للاستثمارات الأجنبية.
– استمرار حرب اليمن، والتي تمثل تحدياً للاقتصاد السعودي من جانبين، الأول أنها تحولت إلى حرب استنزاف ترهق كاهل الاقتصاد السعودي كونها لم تعد واضحة الأفق، من جهة أخرى استمرار الحرب في اليمن يؤثر على سمعة السعودية سياسياً.
وهذا ينعكس بدوره على الجانب الاقتصادي إذ تحجم كثير من الشركات الأجنبية الاستثمار في السعودية خشية أن تطالها تأثيرات قد تترتب على إصدار عقوبات ضد السعودية بسبب استمرار الحرب في اليمن.
– النظرة الضيقة لشركات الاستثمار بخصوص الاستثمار في السعودية، بلغ الاستثمار الأجنبي المباشر في السعودية ذروته بين عامي 2008 و 2012، بمتوسط يزيد عن 26 مليار دولار، وكان الاستثمار وقتها مدفوعًا في الغالب بمصافي التكرير الكبيرة ومشاريع البتروكيماويات التي تم تطويرها مع شركاء أجانب في وقت كان متوسط سعر النفط فيه أكثر من 90 دولارًا للبرميل.
وعلى الرغم من إجراءات المملكة لتحرير الاقتصاد وفتح للاستثمار في صناعات جديدة، فإن الاستثمار الأجنبي المباشر لم يأت بالطريقة التي كان مخططاً لها .
إذ لا تزال معظم الشركات الدولية تتعامل مع السعودية بنفس وجهة النظر السائدة باعتبارها مصدر لرأس المال، أكثر من كونها وجهة استثمارية وهو ما ينعكس على طريقة تعاملهم معها.
وتركز معظم هذه الجهات على توفير المنتجات لا تصنيعها داخل السعودية، ويأتي قرار توطين الشركات متعددة الجنسيات ليعالج هذه الإشكالية.
خلصت الدراسة إلى:
– قرار توطين الشركات متعددة الجنسيات بإمكانه أن يحقق جملة من الفوائد في مجالات مختلفة، لكن الأهم من ذلك هو التنبه لضرورة تهيئة البنية التحتية والقانونية الضامنة لانتقال المزيد من الشركات الأجنبية إلى السعودية وعدم الرحيل عنها بمجرد انتهاء مدة الحوافز.
– على الرغم من ان تأثيرات جائحة كورونا أثرت بشكل كبير على الاقتصاد العالمي بشكل عام والاقتصادات الريعية بشكل خاص، إلا أنها قد تعد فرصة لمراجعة أولويات مشاريع رؤية 2030.
إذ تمثل المشاريع الترفيهية عصب الرؤية، في حين أن أي دولة تريد النهوض اقتصادياً ينبغي عليها التركيز على مشاريع الإنتاج والتصنيع كونه يخلق قاعدة اقتصادية أكثر استقراراً.
– الوضع الاقتصادي في السعودية يتطلب تعديلات وإصلاحات قانونية قادرة على التعامل مع تعقيدات الاحتياجات المرتبطة بالاستثمار الأجنبي والشركات العملاقة.
– تقلبات المشهد السياسي في السعودية تعد عامل قلق يدفع الكثير من الاستثمارات لتفضيل السعودية كبيئة استهلاكية لا استثمارية، وبمجرد أن يحدث استقرار في هذا الجانب ستقبل الكثير من الاستثمارات الأجنبية دون إلزام قانوني أو تقديم حزم مزايا قد تثقل الكاهل الاقتصادي للسعودية.
– المواءمة بين الاحتياجات الاقتصادية والمطالب المجتمعية ضرورة من أجل تحقيق تنمية اقتصادية مستدامة، وبغير ذلك يمكن أن يحدث تطور اقتصادي دون تنمية حقيقية في الجوانب الاجتماعية والسياسية والاقتصادية.
ارسال التعليق