متى يكفّ منشار ابن سلمان؟
بقلم: إحسان الفقيه/ كاتبة اردنية
«saw»، أو المنشار، سلسلة أفلام رعب شهيرة من التي تستهوي الراغبين في إفراز الأدرينالين، وحقيقةً لم يتسن لي مشاهدة أيٍّ من أجزاء الفيلم، سوى ذلك الجزء الذي وقعت أحداثه في السفارة السعودية بتركيا، هنالك كان الصحافي السعودي جمال خاشقجي على موعد مع المنشار، منشار ابن سلمان.منشار ابن سلمان متعدد الخصائص.
يقطع اللحم والعظام…
يقطع سبل أرزاق العباد…
يقطع أوصال المجتمع وقيمه…
يقطع ألسنة المتكلمين بالحق..
يقطع حتى آمال وأحلام شعبه…
ابن سلمان مهووس بتأسيس مملكة سعودية رابعة، يكون هو فيها نقطة البدء، وينحصر الملك في نسله، وعلى الكون أن يُنسِّق نفسه على مقاس ذلك الحلم، وإلا فالمنشار بالانتظار. دخل السلطة في عباءة أبيه الشيخ الهرِم، أينما توجّه يصطحبه، فهو مستشارٌ لوالده إبان توليه إمارة الرياض، وعندما تولى سلمان ولاية العهد في 2012، نصّب ولده مستشارا خاصا ومشرفا على المكتب والشؤون الخاصة لوالده، ثم صدر في العام التالي أمرٌ ملكي بتعيينه رئيسا لديوان ولي العهد (والده) ومستشارا خاصا له بمرتبة وزير، ليضاف إلى هذه المناصب بعد أربعة أشهر منصب المشرف العام على مكتب وزير الدفاع، وبعدها بعدة أشهر تم تعيينه وزيرا للدولة بمجلس الوزراء السعودي أيضا. حزمة المناصب هذه كانت قبل أن يتولى سلمان الحكم عام 2015، وفور صعوده على العرش أصدر أمرًا بتعيين ولده وزيرًا للدفاع، ورئيسا للديوان الملكي، ومستشارا خاصا للملك، ثم أُنشئ مجلس الشؤون الاقتصادية والتنمية، ليترأسه الفتى الصاعد بقوة الصاروخ محمد بن سلمان. بعد تنصيب محمد بن نايف وليا للعهد على إثر إعفاء الأمير مقرن، أصدر الملك سلمان أمرا باختيار محمد وليا للعهد، إضافة إلى تعيينه النائب الثاني لرئيس مجلس الوزراء، بجانب منصب وزير الدفاع ورئيس مجلس الشؤون الاقتصادية والتنمية.
هذه القفزات المتتابعة على سلم السلطة أفصحت عن مغزاها عند ذلك المشهد المسرحي الذي مثّله محمد بن سلمان، وهو يجثو على ركبتيه ليلثم قدم محمد بن نايف، اعترافًا بالفضل وعلو المقام، بعد أن تسلّم منه منصب ولي العهد، كما يقولون في المثل «يقتل القتيل، ثم يمشي في جنازته»، وكأنه لم ينتزع من محمد بن نايف منصبه انتزاعا، لكن يبدو أنه جثا على الأرض ليقوم بتلغيمها تحت أقدام ولي العهد السابق. وأخيرًا صارت البلاد بحوزة محمد بن سلمان، لا عليك بالملك الوالد، فيكفيه اللقب، ولولده الأمر والنهي، وليست هذه بنادرة الدهر، فهو يحذو حذو مثَلِه الأعلى محمد بن زايد، الذي يحكم بولاية العهد، فيما يقبع الحاكم الفعلي للإمارات في طيات المجهول.
لكن الفتى لم يهدأ بعد، فالهوس بالسلطة وخوف ضياعها، جعله يستعير من صفحات التاريخ مذبحة القلعة، التي دبرها محمد علي والي مصر لأمراء المماليك، فأطلق المنشار ليقوم بعمله ضد كل من كان مَظنَّة تهديد عرش ابن سلمان بشكل أو بآخر.
اعتقل صفوة الدعاة الذين لم يسيروا في ركب التوظيف السياسي للدين، بل إنه لم يُبق حتى على الصامتين منهم، إيفاء بالوعد الذي قطعه على نفسه ضد الصحوة: «سندمرهم، وفورا». وقام باعتقال ومصادرة أموال أمراء آل سعود لتقليم أظافرهم الاقتصادية، فقد شن عام 2017 حملة اعتقالات واسعة ضد رموز من العائلة المالكة، وعدد من الوزراء ورجال الأعمال، واحتجزهم في فندق ريتز كارلتون بالرياض، ووجه اتهامات لعدد منهم، بالفساد والكسب غير المشروع، وألجأ بعضًا منهم إلى تسويات مالية.
المال، السيطرة على مفاصل الدولة والغطاء الدولي، تلك هي الثلاثية التي تكفل استمرار المنشار وضع الصحافة والإعلام في جيبه، وكانت جريمة قتل خاشقجي البشعة فصل الخطاب في أن ابن سلمان سيستخدم منشاره ضد من يخالفه، أو يمثل تهديدا لاستقرار عرشه المرتقب. سلك ابن سلمان مع الشخصيات المؤهلة للحكم مسلك البطش والقمع، فلم يكتف بخلع محمد بن نايف، بل وضعه رهن الإقامة الجبرية، ووفقا لبعض التسريبات المتداولة في الصحف الأجنبية والعربية، قام ابن سلمان في مارس الماضي باعتقاله هو وشقيق الملك الأمير أحمد بن عبد العزيز ونجله نايف.
يواجه محمد بن نايف حاليا ترتيبات لإدانته بالاستيلاء على 15 مليار دولار أثناء إدارته برامج مكافحة الإرهاب بالداخلية السعودية، من خلال شبكة من الشركات والحسابات الخاصة، وذلك بحسب «واشنطن بوست» الأمريكية.
آخر أخبار منشار ابن سلمان، تعلقت بأحد كبار رجال المخابرات السعودية السابقين، وهو سعد الجبري، الذي يقاضي حاليا وليَّ العهد السعودي متهما إياه بمحاولة اغتياله عبر فرقة النمر بعد أيام من مقتل خاشقجي. وكشف الجبري في دعواه عن تفاصيل تتعلق بالفريق الذي حاول اغتياله والشخصيات البارزة في نظام ال سعود المتورطة في الأمر، وشخصيات أخرى اقتصادية وطبية عملت على تسهيل الوصول إلى الجبري. بصرف النظر عن مدى صحة الادعاء الذي لا يزال رهن بحث القضاء، فإن الأمر برمّته يتفق مع توجهات ابن سلمان في التخلص من كل مصادر تهديد سلطته، ولكن لماذا الجبري؟
الجبري كان حلقة الوصل بين نظام ال سعود والمخابرات الأجنبية، والذراع الأيمن لمحمد بن نايف، وهو الصندوق الأسود الذي يُبطن معلومات بالغة الحساسية عن آل سعود، بحكم منصبه السابق، والقضاء نهائيا على محمد بن نايف مرتبط بالقضاء على الجبري، فكان لزاما على ابن سلمان أن يلاحقه، غير أن الرجل خبير بكواليس الأجهزة الأمنية السعودية، وتنقّل بين عدة دول، وارتباطه بأجهزة استخباراتية عالمية وشخصيات متنفذة لم ينتهِ تماما، فلذا لم يكن من اليسير اغتيال الجبري.
السؤال الذي ربما يساور عامة الأذهان، لماذا انتظر الجبري كل هذا الوقت ليكشف بعض أوراقه؟ علمًا بأنه يتحدث في دعواه عن محاولة اغتيال له عقب مقتل خاشقجي أي ما يقارب عامين. من الواضح أن الجبري لم يستطع إخراج اثنين من أولاده وهما سارة وعمر، ولذا آثر الصمت طيلة هذه الفترة حفاظا عليهما، وتفاديا لفتح جبهة جهنمية لا تحمد عقباها، لكن سلطات ال سعود ألقت القبض على سارة وعمر في مارس الماضي كورقة ضغط على الجبري لدفعه إلى العودة. وبلغ الأمر منتهاه الشهر الماضي، حيث أنه مطلوب أمام القضاء السعودي بسبب اتهامه بإهدار ما يقارب 11 مليار دولار خلال فترة عمله بالداخلية السعودية، ومن الواضح أن لها تعلقا بتدابير تقديم محمد بن نايف للمحاكمة بتهم الفساد أيضا، فلذا لم يعد هناك مفر من فتح النار على ولي العهد السعودي. ثمة أمر يُوجِّه محمد بن سلمان إلى هذا الهوس بالتطهير إن صح التعبير، وهو أنه قلق من عدم استمرار حليفه ترامب في رئاسة البيت الأبيض، خاصة أن استطلاعات الرأي تشير إلى ذلك، وهو ما جعله يسابق الزمن في التخلص من معارضيه لتثبيت أركان عرشه قبل أن يفقد ترامب.
ولكن من وجهة نظري، فإن محمد بن سلمان يستشرف ذلك من قبل، رغم ما قدمه ترامب للسعودية في ملف نووي إيران، وتغطيته على جريمة خاشقجي وصمته على الملف الحقوقي الأسود لابن سلمان، نظرًا لسياسات ترامب غير المتزنة، والتي أثارت سخط الداخل والخارج، فمن ثم اندفع ولي العهد بقوة للقضاء على جميع مخاوفه من المعارضين قبل خسارة ترامب، وقطع بالتوازي مع ذلك خطوات في اتجاه روسيا، وانسجمت سياساته في سوريا مع الرؤية الروسية. ولا أرى – رغم الأصوات المتعالية المتفائلة – بأن قضية الجبري ستعجل بنهاية محمد بن سلمان، طالما أن هناك غطاءً دوليًا مبنيًا على الاستفادة من السعودية، كقوة اقتصادية من الدول العشرين، إضافة إلى المكانة الدينية للمملكة، التي يستفاد منها لنشر نسخة من الإسلام تتفق مع التوجهات الغربية، وهو ما بدت إرهاصاته بعد حملة التحديث الديني التي يقوم بها ابن سلمان، تحت غطاء مكافحة التشدد والتطرف، والأهم من ذلك دورها المحوري ـ إلى جانب دور محمد بن زايد- في إمضاء صفقة القرن، ضمن إنشاء نظام إقليمي جديد في الشرق الأوسط.
المال، السيطرة على مفاصل الدولة، والغطاء الدولي، تلك هي الثلاثية التي تكفل استمرار المنشار، والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون.
ارسال التعليق