هل بحجب المواقع عن شعوبكم تتحصّنون
بقلم: إحسان الفقيه/ كاتبة من الاردن
«لكل شخصٍ الحق في حرية الرأي والتعبير، ويشمل هذا الحق حرية اعتناق الآراء، من دون أي تدخل، واستقاء وتلَقّ، وإذاعة الأنباء والأفكار، من دون تقيد بالحدود الجغرافية وبأي وسيلة كانت».
ذلك هو نص المادة 19 من الميثاق العالمي لحقوق الإنسان الذي أصدرته الأمم المتحدة عام 1952، كغيره من القواعد المثالية، التي وضعها الإنسان لنفسه، ثم التهمها وهو يتعامل على أرض الواقع.
فعندما يكون الحديث عن الحق المكفول للإنسان في التلقي والاستقاء، من دون تقيد بالحدود الجغرافية، يكون الاصطدام بالاستبداد الجاثم على صدر الشعوب، الذي يغتال عقول الناس، ويحجر على أفكارهم، ويسجن وعيهم. قديمًا فرض فرعون الوصاية على وعي الجماهير تحت شعار (ما أريكم إلا ما أرى وما أهديكم إلا سبيل الرشاد)، سعى لحجب أسماع شعبه على أن تتجه لغيره، وعقب البعثة النبوية كانت الوصاية القرشية للوافدين من القبائل العربية، بألا يجلسوا إلى محمد (صلى الله عليه وسلم) وألا يستمعوا إليه. هو المسلك ذاته، الذي تخوضه حكومات بعض الدول العربية، الحل السهل إزاء تحصين الوعي لدى الجماهير ضد المواد الوافدة إليهم، والتي تنتقد نظامهم الحاكم، وهو إصدار القرارات بحجب المواقع الإلكترونية، فماذا تكون النتيجة؟
منذ بضع سنوات أُجريت دراسة في جامعة كولومبيا البريطانية، ونشرت على موقعها الرسمي، أظهرت بإجراء تصوير وتخطيط خاص للدماغ، أن ردة فعل الدماغ واهتمامه بالأشياء الممنوعة عنه، مماثل لاهتمامه بالأشياء التي يملكها، ما يعني تأكيد مقولة «الممنوع مرغوب»، ومنها تنطلق الجماهير في التعامل مع حظر المواقع، حيث يهرع الناس إلى برامج فك الحظر المبثوثة على الإنترنت بالمجان، ثم يطالعون ما حُجب عنهم، وربما كان الحجب وسيلة ترويج بلا ثمن لتلك المواقع، فيتعرف عليها من كان يجهلها، فعن أي تحصين للوعي يتحدثون؟
هي الأنظمة نفسها التي بدّدت ثروات البلاد على تحصين العروش ورفاهية مؤسساتها الصلبة، وأهملت صحة المواطنين وصيّرت المستشفيات الحكومية أماكن خربة، ثم وجدت نفسها وجها لوجه أمام فيروس يحصد الأرواح ولا يُفرّق بين راعٍ ورعيّة، هي ذاتها التي خربت وعي الجماهير على مدى عقود، بالعسف والقهر والجهل والتجهيل، وسلب الأمن النفسي والغذائي، ثم جاءت اليوم تسعى لتحصين عقولهم من غزو الأفكار المسمومة والأخبار المغلوطة، وقطعا لا يفوتها في ذلك أن تعزو هذه الإجراءات إلى ضرورات الأمن القومي.
تحصين العقول وصيانة الوعي لا يكون بشد العصّابات السوداء على الأعين، وإنما بتوفير بيئة صحية تنضج فيها العقول
حجب المواقع دليل دامغ على أن هذه الأنظمة تدرك جيدًا أنها لا تحظى بثقة شعوبها، وإلا كانت تركت الأمر لتفاعل الجماهير، وانبعاث الرفض الذاتي لما تروجه هذه المواقع، لكن أنّى لها بستر سوءتها، ولا أوراق توت!
لم تصارح هذه الأنظمة يومًا شعوبها بحقيقة ما يجري، بل على طول الخط تعمية وتغطية وتدليس، فلم تجد لها رصيدا لدى وعي المواطنين، لينوبوا عنها في ردع المناوئين، لقد أدرك تشرشل رئيس الوزراء البريطاني، في فترة الحرب العالمية الثانية، أهمية عرض الحقائق في تحصين الرأي العام، كبديل عن الأسلوب الشائع في الاعتماد على الأكاذيب والشائعات، فنجح في تجنيب شعبه آثار الحرب النفسية التي تشنها النازية.
حجب المواقع الالكترونية يعبر عن إفلاس حقيقي لدى هذه الأنظمة في قيادة الرأي العام، فكل بضاعتها شرذمة من الإعلاميين المأجورين، الذين لا ينفكون ليلا ونهارا عن التسبيح بحمد الزعماء الملهمين، والتشغيب على خصومهم، بإسفاف وتلبُّس، بالانحياز المكشوف للسلطة، حتى بات البسطاء يدركون حجم الاستخفاف بالعقول الذي يُمارس عليهم من المنابر الإعلامية. ولا تخلو تلك الإجراءات التي تتخذها السلطات العربية في حجب المواقع من انتقائية واضحة، فتحجب مواقع إلكترونية بسبب مواقف الدول الحاضنة لها من سياسات هذه السلطات، حتى إن كانت تنتهج المهنية في تناولها، لكنها في الوقت نفسه تغض بصرها عن مواقع أمريكية وأوروبية، تسخر على أغلفتها من الزعماء العرب وتشدد عليهم النكير، من دون أن تجرؤ على حجبها. ولا أدري كيف تقوم هذه الحكومات بحجب المواقع، في حين أن العالم ليس، كما قال البروفيسور مارشال ماكلوهن، «قرية صغيرة» فحسب، بل أصبح تحت تأثير الإعلام بيتا واحدا يحوي غرفا متجاورة، فمواقع التواصل الاجتماعي بناشطيها تقوم بدور الإعلام البديل، وتوصل محتوى هذه المواقع المحجوبة إلى الجماهير، فهل تقل السوشيال ميديا خطورة عن المواقع المحجوبة؟
إن هذه الحكومات تتعامل مع رعاياها على أنهم بلهاء لا عقل لهم ولا تمييز، وهي نظرة تلفح كرامة المواطن لا شك، وهذا بدوره ينتقص من انتمائه لقيادته، لكن ماذا يمكن أن يُقال حيال أنظمة دأبت على البتر، والتي لم تُدرك حتى الآن، بأن الأنظمة الديمقراطية لا تقاوم التطرف الفكري بتطرف أمني، ولا تواجه أقلام الحبر بالرصاص. تحصين العقول وصيانة الوعي لا يكون بشد العصابات السوداء على الأعين، وإنما بتوفير بيئة صحية تنضج فيها تلك العقول، حياة آدمية كريمة، يصاحبها قسط وافر من التعليم الفعال الذي يتجاوز كونه شهادة يعلقها الدارس على جدار بيته، بينما وعاؤه العلمي فارغ. تحصين العقول يكون بالحفاظ على حق الناس في نيل الحريات التي يبدع العقل في ظلالها وينشط، ويمارس عمله في الربط والتحليل والاستنتاج والتمييز. تحصينها يكون بشفافية يتعامل بها الحكام مع الشعوب، ساعتها ستنوب الجماهير في الرد بنفسها على كل مادة سلبية وافدة أو خبر مُختلق أو حقيقة مُزيفة أو ادّعاء كاذب، والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون.
ارسال التعليق