هوية عائلة على أنقاض هوية شعب..تزاوج بين الوهابية والسعودية
بقلم: منصور العلي...
يواصل النظام السعودي سياساته العدائية تجاه مكونات معينة يتشكل منها المجتمع في جزيرة العرب وهو بذلك يؤكد على أن الرهان على أن يتحول هذا النظام في عهد محمد بن سلمان إلى كيان أكثر انفتاحا وتفهما وتعايشا مع الأقليات، هو رهان خاسر، وإن حرص النظام وماكينته الإعلامية على الترويج المكثف لرؤية ابن سلمان الانفتاحية التي يروّجون بموجبها لـ"القومية السعودية" العابرة للطوائف والمرتكزة أساسا على "المصالح الوطنية" للسعوديين.
منذ "اعتلاء" الملك سلمان عرش المملكة!! في العام 2015، خلفا للراحل عبدالله بن عبد العزيز، أصبح نجله محمد هو الممسك الفعلي بمفاصل حكم المملكة. فراح يدخل تعديلات جوهرية على صعيد نظام الحكم وقاعدته الإجتماعية والدينية وعلاقته بالمذهب الوهابي وقواعد إنتقال السلطة ومراكزها، وأيضا على صعيد الثقافة السياسية والاجتماعية القائمة منذ عشرات العقود الزمنية.
أنفق ولي العهد محمد بن سلمان الكثير لأجل إظهار نفسه شخصا "إستثنائياً" و"واعداً"، لا سيما في ضوء ما أصاب صورته من تهشيم على خلفية جريمة تصفية الصحافي السعودي جمال خاشقجي في مقر القنصلية السعودية في إسطنبول والعدوان على اليمن.
"السعودية أولاً"!
يعمل ابن سلمان بقوة لفرض نزعة قومية جديدة بين الشباب.
فطرح شعاراً يعكس جهوده تلك وهو “السعودية للسعوديين”.
لا الهوية العربية ولا الإسلامية ولا الخليجية تتقدم على الهوية الجديدة. إلا أن طوحات بن سلمان "القومية" على مختلف المستويات تواجه معضلات وتحديات جمة وعقبات كبرى لا يمكن تجاوزها ببرمجة المشاريع الاقتصادية والتنموية في ما يسمى "رؤية 2030"، ولا في ابتداع أحداث تاريخية واحتفالات وطنية.
فالقومية مسار وتاريخ طويل من الإنجازات والإخفاقات وثوابت وأعراف وتقاليد ومشتركات.
علاقة الوهابية بآل سعود متجذرة في التاريخ، وأثمرت ولادة الدولة السعودية الأولى في منطقة الدرعية، في النصف الثاني من القرن السابع عشر ميلادي، حيث كانت المبايعة التاريخية، وهي عبارة عن اتفاق ثنائي صاغه زعيم ومؤسس الحركة الوهابية الشيخ محمد عبد الوهاب من جهة والأمير محمد بن سعود من جهة ثانية.
ويقوم هذا الاتفاق على أن يتولى الأمير الحكم ويوّرثه لذريته من بعده مقابل ترك الأمور الدينية وتنظيمها للشيخ وذريته من بعده أيضاً. وما زال هذا الاتفاق قائماً إلى يومنا هذا، راسماً خطاً واضح المعالم يفصل بين اختصاصات آل الشيخ في نظام المملكة واختصاصات العائلة المالكة.
يقول الكاتب مهدي عقيل في مقال عن ("القومية السعودية".. ومعضلات بن سلمان): إن ثمة معضلة سوف تلاحق بن سلمان وتبقى عصيّة على الحل، سواء في موضوع القومية او في أي عملية تحديث للنظام، تتمثل في استحالة انتقال المملكة من نظام ثيوقراطي – قبلي إلى نظام ديمقراطي يسمح بالمشاركة السياسية للشباب ولكافة أطياف الشعب.
متسائلاً: كيف لذلك أن يحصل وبن سلمان يعد نفسه بعرش المملكة إلى ما يشاء الله! إذ تبقى كل العراضات والتطلع إلى مستقبل أفضل للشباب السعودي دون إشراكه في العملية السياسية سراب لم تؤتِ أوكلها.
فائض القوة:
على مستوى السلطة، لا يحكم ابن سلمان بملء جدارته الذاتية، وإنما بحكم فائض القوة التي حصدها ابن سعود في معاركه، وتوارثها أجيال آل سعود في الدولة.
سياسات التمييز على خلفية مذهبية ومناطقية وقبلية لا تزال سمة النظام السعودي، ومفاعيلها في الجهاز البيروقراطي غير مستورة، وتترجم في أنماط العلاقة، والتصوّرات حيال الذات والآخر.
في هذا السياق، يقول الباحث الدكتور فؤاد إبراهيم، في مقال تحت عنوان (السعوديّة… أزمة الهويّة والكيان)، إنه حين ننقّب في تراث الدولة السعودية، قبل وبعد الإعلان الرسمي عنها سنة 1932، لن نعثر على إشارة، وإن مهملة، توحي بأن الشيعة، شأن الصوفية والإسماعيلية وحتى الحنبلية غير الوهابية في هذه البلاد، كانوا جزءا من نسيج (وطن).
على الضد، فقد جرى التعامل معها من خلفية خصامية. فمقاربة المسألة الشيعية كانت إشكالية: كانت في مظهرها عقدية، كما توحي فتوى العلماء في مؤتمر الرياض سنة 1927.
وكان السياسي هو صانع المشكلة وراعيها. ينقل أمين الريحاني في كتابه "ملوك العرب" ص 548 – 585 حين سأل عبد العزيز: هل ترون أن من الواجب الديني محاربة المشركين حتى يدخلوا في دين التوحيد؟ فأجاب عبد العزيز على الفور: “لا، لا”. وضرب بعصاه ثم قال: “هذا الحسا، عندنا هناك أكثر من ثلاثين ألفاً من أهل الشيعة، وهم يعيشون آمنين لا يتعرض لهم أحد”.
أعاد الريحاني طرح السؤال بصيغة أخرى: هل ترَون من الواجب الديني، وهل ترون من الواجب السياسي أن تُحاربوا المشركين حتى يدينوا؟ فأجابه ابن سعود قائلاً: "السياسة غير الدين، ولكننا أهل نجد لا نبغي شيئاً لا يحلّله الدين. فإذا حلّل الدين ما نبغيه فالسياسة التي نتخذها لتحقيقه محلّلة. وإذا عجزت السياسة فالحرب، وكل شيء في الحرب يجوز".
إذًا، التزاوج بين السياسة والدين، سمة أساسية في حكم آل سعود، تاريخاً وحاضراً ومستقبلاً، وهذه القاعدة ليس بإمكان ابن سلمان تجاوزه، حتى ولو حرص على إظهار نفسه “مُصلحاً” و"مُجدِّدا"، وحتى لو مارس النقد المسستمر بحق مشايخ الوهابية، وعمل على تهميش دورهم في المجتمع.
بين النظام والمؤسسة الدينية:
إن "الدولة السعودية"، قامت على أساس عصبيّة دينيّة ومذهبيّة ومناطقية. وهذه العصبيّة لم يجر التخلّي عنها لصالح عصبيّة أكبر (وطنيّة) بعد أن قامت الدولة، بل جرى ترسيخها رسمياً. فالمقاربة الدينية للموضوع السعودي تبقى ناقصة إن لم تعتمد تحليلاً لبنية المجتمع في الأساس وانقساماته المناطقية والطائفية والسياسية، بحسب الباحث الدكتور حمزة الحسن في مقال بعنوان (السعودية: دولة إمبراطورية… ومجتمع أقليات).
ولذا، استساغ البعض التعمية على الموضوع الديني، بنسبة كل الشرّ إلى المؤسسة الدينية، وتبرئة النظام الذي يمنحها القوة. وهي مقاربة ناقصة من جهة أن متبنيات النظام السياسية ودوافعها لا تفهم جيداً إن لم تعتمد مقاربة أو عدّة مقاربات أخرى من أجل فك طلاسم الغموض في الحراك السعودي الرسمي محلياً وخارجياً.
أزمة الهوية:
العائلة السعودية المالكة هي العائلة الوحيدة التي تنسب شعبها إليها، وتسمي الدولة باسمها، في إشارة إلى أن العائلة المالكة وبقاء الدولة لا ينفكان. وتفتح التسمية ذاتها أزمة الهوية الوطنية في دولة إمبراطورية يراد منها التحوّل إلى دولة قطرية/ قومية.
حتى الآن، هناك فشل ذريع في بناء هوية وطنية سعودية. ويقول الحسن إنه من الصعب استزراع هوية وطنيّة في دولة هكذا مواصفاتها: مناطق متعددة الثقافة والتاريخ السياسي والهوية، أجبرت أن تكون جزءاً من دولة موحدة، مع بقاء السيادة والثقافة والمنفعة للفئوية الجامحة. هذه أرض لا يمكن استزراع ثقافة وطنية فيها، إلا بتغيير كبير في بنيتها.
من نجد انطلقت الحملات العسكرية، فاحتلت المناطق المستقلة أو شبه المستقلة (الأحساء والقطيف عام 1913، والحجاز 1924ــــ1926، والجنوب 1921، وحائل 1922).
هذا يفسر لماذا أصبح مذهب الأقلية الوهابية حاكما، وهو ما يفسر في جزء كبير دور رجال الدين الوهابيين في الدولة التي ساهموا في صنعها، وأيضاً هذا ما يفسر حكم أقليّة على مقدرات الدولة، لأن نجد هي التي قامت بالتوسع، وبالتالي أصبح الحكم "غنيمة للمنتصر".
وهذا ما يفسر التقسيم في المواطنة ودرجاتها واستحقاقاتها في الدولة. وهذا أيضاً ما يفسّر اختفاء التنوّع الثقافي والمذهبي في المملكة، وسيادة أحادية ثقافية ومذهبية مفروضة من المركز، كما يفسر لماذا يكون وجه الدولة السعودية في الخارج "وهابياً نجدياً".
وعليه، فإن دور الدين في الدولة محوري، كما في معظم الإمبراطوريات. فأيديولوجية الدولة السعودية تتخفى وراءها المطامح السياسية، وكما الدين/الوهابية صار مطية للدولة للاستخدام الداخلي (تبرير التوسع، وفرض الثقافة الواحدية، وشرعنة الدولة وسياسات حاكميها)، كذلك فإن الدولة صارت مركباً للمذهب من جهة تسويده محلياً بقوة الدولة ونشره بإمكانياتها في الخارج.
لذا صار من غير الممكن اليوم مجرد التفكير في تخلّي الحكومة السعودية عن الوهابية كأيديولوجية وكأتباع جاهزين للاستخدام.
إن ذلك يقضي على الطرفين. ومهما اتسع الخلاف، أو اقتحمت الدولة فضاء الدين وضيّقت عليه أو العكس، فإن الخلافات تبقى تحت سقف المصلحة الخاصة الناتجة من التحالف بين الطرفين. ويمكن استخدام مقياس العلاقة بينهما كإحدى الإشارات إلى ما إذا كانت الدولة تميل إلى الانحلال من عدمه.
ولفت الحسن إلى أن فرض المذهب استتبعه تدمير الهويات الدينية في المناطق الأخرى، إلى حد يمكن القول معه اليوم إنه جرى على نحو شبه كامل تدمير الوجود الديني الحجازي، القائم على التعدد المذهبي، وغاب كل رجال الدين الحجازيين بالموت، ولم يبق سوى بضعة أنفار فحسب، مهمشين من الناحية الدينية.
ارسال التعليق