الحج للأغنياء.. لماذا أصبحت مكة أغلى من لاس فيغاس
إن الحج فرض على كل مسلم قادر جسديا وماديا أن يتحمّل كلفة ومشقة الذهاب إلى البيت الحرام، على الأقل لمرة واحدة في حياته. إذ يؤمن المسلمون أن السير في خطى النبي إبراهيم وعائلته وإعادة عيش محنتهم، يطهرهم من كل ذنوبهم، قبل أن يعودوا إلى ديارهم أنقياء، مثل اليوم الذي وُلدوا فيه.
ولكن قبل إدخال اختراع وسائل النقل الحديثة وتبنيها في رحلات الحج، لم يكن لدى سوى عدد قليل من المسلمين القدرة على استكمال هذا الركن الخامس والأخير من الإسلام. فقبل منتصف الخمسينيات، كان عدد الحجاج في الخارج نادرا ما يتجاوز الـ١٠٠ ألف، ولم يكن إنشاء المؤسسات السعودية الحديثة قد اكتمل بعد. ولكن بحلول أوائل العقد الأول من القرن الحالي، كان العدد الإجمالي للحجاج قد تجاوز حاجز المليونين حاج، ليصل إلى ذروته بتخطيه رقم الـ ٣ ملايين في عام ٢٠١٢.
في عصر النقل الجوي، جلبت فرصة تأدية الحج بسهولة أكبر ضغوطا هائلة على البنية التحتية في مكة المكرمة. يفقد المئات أرواحهم خلال الكوارث الدورية التي تحدث هناك، بما في ذلك الحرائق وحوادث التدافع، وآخرها في عام ٢٠١٥. لذلك، استثمرت السلطات السعودية مبالغ ضخمة في سعيها المستمر لتحسين مرافق الحج وطريقة إدارة شعائره، حيث يقول منظمو الحج والمرشدون إن مهمة الإشراف على الحج يمكن مقارنتها بمتطلبات تنظيم واستضافة الأولمبياد ولكن بشكل سنوي بدلا من كل أربع سنوات!
لكن رؤية المملكة ٢٠٣٠ التي تبنّاها محمّد بن سلمان في عام ٢٠١٦ تُظهر أن سوق السياحة الإسلامية لها دور مهم في الجهود الرامية إلى تنويع الاقتصاد السعودي غير النفطي. وبينما تركز الإستراتيجية في رؤية ابن سلمان بشكل أساسي على العُمرة (التي يمكن تأديتها في أي وقت خارج موسم الحج وهي ليست فريضة)، فإن الغرض الحقيقي من وراء استثمار المملكة ٥٠ مليار دولار أميركي في النقل والبنية التحتية الأخرى هو مضاعفة عدد الوافدين إلى الحج بنهاية العقد القادم!
الحج و"العرض والطلب"إن إلقاء نظرة على ترتيبات الحج لدى المسلمين البريطانيين في عصر العولمة كفيل بأن يظهر الدور المتنامي لسوق الدينية للسياحة في التأثير على طبيعة الحج وتنظيمه. بحسب مجلس الحجاج البريطاني، فإن سوق الحج في المملكة المتحدة تبلغ قيمتها نحو ١٥٠ مليون جنيه إسترليني (٣١٠ مليون جنيه إسترليني إذا ما احتسبنا سوق العمرة)!
على خلاف جميع الدول ذات الأغلبية المسلمة، لا توجد "كوتا" للحجاج من الأقليات المسلمة في الغرب، والتي تحسب عادة على أساس منح ١،٠٠٠ تأشيرة حج لكل مليون نسمة. إن الأقليات المسلمة في الغرب غنية نسبيا ومتعلّمة ومتحرّكة اجتماعيا بشكل متزايد، وأفرادها عموما أحرار في أداء فريضة الحج في الوقت الذي يختارونه. كما أن الحجاج في الغرب غالبا ما يكونون أصغر سنا من أولئك الذين يأتون من بقية العالم الإسلامي.
مثلا، فلقد ارتفع عدد المسلمين البريطانيين الذين يؤدّون فريضة الحج كل عام من ٧٥٩ في عام ١٩٦٨ إلى نحو ٢٥،٠٠٠ بحلول منتصف عام ٢٠٠٠، أي ضعف معدل نمو السكان المسلمين في المملكة المتحدة في الفترة نفسها. اليوم، يسافر نحو ١٠٠،٠٠٠ من مسلمي بريطانيا سنويا إلى مكة لتأدية العُمرة.
كما أنه في الغرب لا تلعب الحكومات أي دور مباشر في تنظيم الحج. حتى التسعينيات من القرن الماضي، لم يكن هناك سوى عدد قليل من الشركات التي تقوم بتنظيم حملات الحج بشكل رسمي في بريطانيا. لذا، كان يسافر معظم مسلمي المملكة المتحدة إلى السعودية كأفراد أو كجزء من مجموعة صغيرة. لكن في أوائل العقد الأول من القرن الحالي، وفي محاولة لتحسين الخدمات المقدمة للحجاج، كان أن أصرت السلطات السعودية على أن أي شخص يقوم بتنظيم رحلات إلى الحج يجب أن ينشئ شركة مسجلة وأن يكون لديه كافة الرخص الصحيحة. ثم بحلول منتصف عام ٢٠٠٠، فرضت السعودية على أي مسلم في الغرب يريد تأدية فريضة الحج أن يشتري أولا "حزمة" من أحد هؤلاء المنظمين!
للأغنياء فقط؟ سعر الحج يرتفعاليوم هناك نحو ١١٧ من منظمي رحلات الحج في المملكة المتحدة مرخصين مباشرة من قِبل السعودية. كل منها مسؤول عن حصته السنوية البالغة ١٥٠ إلى ٤٥٠ تأشيرة حج. لدى المسلمين البريطانيين الآن الكثير من الخيارات لشراء حزمات الحج. لكنّ الحجاج البريطانيين الراغبين في أداء فريضة الحج في عام ٢٠١٨ عليهم أن ينفقوا ما يصل إلى ٦ آلاف جنيه إسترليني للوصول إلى مكة. في الربيع الماضي، بحسب معرض مختص بصناعة الحج، قدّمت إحدى الشركات الكبيرة حزما للحج بسعر ٩٥٠٠ جنيه إسترليني للشخص وبيعت هذه في غضون ستة أسابيع. حتى حزمة "التوفير" إلى الحج هذا العام تُكلّف أكثر من ٤٠٠٠ جنيه إسترليني. بشكل عام، ازدادت تكلفة الحج بنحو ٢٥٪ في السنوات الأخيرة!
وتقول بعض الجمعيات الخيرية العريقة المختصة بشؤون الحجاج مثل جمعية الحجاج البريطانية (تأسست عام ١٩٩٨) بأن الأسعار المرتفعة تعكس العقلية الربحية لدى المنظمين البريطانيين. لكن الصورة الأكبر هي أن السعودية قد أعادت هيكلة صناعة الحج بشكل أدّى إلى المزيد من خصخصتها وتحويلها إلى قطاع تجاري ربحي. وفي حين أن المسلمين الذين يصلون إلى مدينة مكة المكرمة، والذين يصل عددهم إلى ٣ ملايين في أسبوع الحج، يخلقون طلبا كبيرا على السفر وحجوزات الفنادق وغيرها من الخدمات، التي لا تتحكم بها السعودية على الرغم من استثماراتها الكبيرة في البنية التحتية للحج، فإن الحكومة السعودية قامت بتخفيض بعض الإعانات المحلية والدعم على الأسعار وزادت ضريبة القيمة المضافة والضرائب البلدية مؤخرا.
وبالنظر إلى طبيعة تعامل السعودية مع مسألة الحج في الغرب، فإن أعضاء جمعية منظمي رحلات الحج المرخصة حديثا في المملكة المتحدة (تأسست عام ٢٠١٦) يواجهون مخاطر عدّة. في صناعة السياحة والسفر عادة، يتم سداد المدفوعات بشكل متأخر، أي بعد التحصيل من العملاء، لكنّ منظمي الحج في المملكة المتحدة يقومون في الغالب بسداد مبالغ كبيرة للسعودية ولمورديهم الآخرين قبل بيع الحزم الخاصة بهم. ولأنهم يفتقرون إلى القدرة التفاوضية للحكومات الإسلامية الكبيرة، يمكن لمنظمي الحج في الغرب أن يدفعوا تكاليف أكبر من المعتاد مقابل بعض الخدمات. كما أن عدم الاستقرار السياسي والاقتصادي، مثل الحروب في الشرق الأوسط والتأثير السلبي لخروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي على الجنيه، يؤثران أيضا على أسعار الحج.
هل يجب أن يتم تنظيم الحج من قِبل جهات دولية؟
تعي القيادة الجديدة لجمعية منظمي رحلات الحج حجم القضايا المعقدة التي تواجهها "صناعة" الحج والعُمرة. إذ إنه لا يمكن لمعظم منظمي رحلات الحج في المملكة المتحدة بيع حزماتهم بالكامل دون الحفاظ على العلاقات مع شبكات كبيرة من الوكلاء الفرعيين. كما أن هناك ظاهرة "احتيال الحج" التي تحدث في مكان ما في سلاسل البيع الطويلة حيث يمكن لنقص الوثائق المناسبة أن يشجع على "البيع المزدوج" للحزم وحتى الحيل الإجرامية.
إن وجود رغبة جديدة في هذا القطاع لمحاسبة المنظمين هو نتيجة مدونة سلوك جديدة أطلقها منظمو الحج المرخص لهم قبل موسم الحج هذا العام. وفي الوقت نفسه، لا يزال العديد من منظمي الحج يقولون بأن لوائح السفر الأوروبية، التي تهدف إلى تنظيم "العطلات الجماعية"، لا يمكنها أن تنطبق على التعقيدات اللوجستية والتجارية في تنظيم رحلات الحج.
لكن التحولات في عملية تنظيم الحج في بريطانيا ليست سوى دراسة حالة محلية تظهر حجم التحديات التي تواجه صناعة الحج والعُمرة في جميع أنحاء العالم. كانت التقوى والتجارة دائما تتعايشان في مكة، لكن تطوير نموذج استهلاكي رأسمالي للسياحة الدينية على النطاق المتوخى من قِبل السعودية هو شيء لم يسبق له مثيل. وفي حين أنه تربط سلاسل كبيرة من البيع والشراء وكذلك الإيمان المسلمين مع مهد الإسلام اليوم فإنه هناك قضايا رئيسية يجب حلها عبر إنشاء طرق تنظيم مختلفة تماما. بالنسبة للبعض، قد يعني ذلك الحاجة إلى تدخل تنظيمي دولي أكبر في الحج والعُمرة.
ارسال التعليق