عن التخطيط العمراني وغيابه في السعودية
بقلم: حسن الشيختُعرف المساكن العشوائية بكونها مجتمعات سكنية عالية الكثافة وواسعة الانتشار، تم إنشاؤها غالبا خارج الهياكل القانونية والاقتصادية الرسمية للعديد من مدن العالم الثالث.
كان عدم قدرة الحكومات المحلية والوطنية على خلق فرص عمل مناسبة وإسكان فقراء الحضر هو العامل الذي أجبر ذوي الدخل المنخفض على إنشاء مثل هذه العشوائيات السكنية.
في بداية القرن العشرين، استقرّ الوضع على قبول الكثير من هذه العشوائيات، باعتبارها مجتمعات سكنية بسبب انتشارها الواسع وصعوبة إزالتها.
وحتى نفهم هذا الموضوع بعمق، يجب أن نعرض الظروف التقليدية والجديدة التي قام بها المخططون للتعامل مع هذه العشوائيات في دول مختلفة وأصبح التصور الحديث للتوسع الحضري، من أسفل إلى أعلى، في تخصصات الجغرافيا وعلم الاجتماع والدراسات الحضرية، يشمل استراتيجيات مختلفة، تحت مسميات مثل التنفيذ الذات ، وإلابداعية غير المألوفة أو المنبثقة، والتكتيكية الحضرية.
تعتمد فكرة التخطيط العمراني، مبدئياً، على ابتداع “نشاط يسبق اتخاذ القرارات وبدء الاجراءات”.
كان هذا النوع يُنفذ على المجتمع برمته، بما في ذلك فئات القاع الفقيرة، أسلوباً نموذجياً لبناء المدن والتجمعات السكنية وإدارتها فترة طويلة.
ووفقاً لجيمس سكوت، يمكن النظر إلى هذا النهج من أعلى إلى أسفل، باعتباره محاولة من الدولة لتشكيل المجتمع، وفي هذا المجتمع يُسيطر المُخطط على مجمل العملية، إلى جانب التمتّع برؤية واضحة للمصلحة العامة واعتداده بالتقدم العلمي والتكنولولجي.
نجح هذا النوع من التخطيط الفوقي، أي من القمة إلى القاع، في خلق بيئات نابضة بالحياة، لكن ذلك لم يتحقق غالباً إلا بأثمان باهظة، تضمنت عمليات هدم وإخلاء، تُصاحب عمليات تهجير وإحلال وتجديد.
ويخطر على البال هنا المناظرة الشهيرة بين جاين جاكوبز Jacobs Jane ولويس ممفورد في ستينيات القرن الماضي، حيث أصر ممفورد على إمكانات التخطيط من أعلى إلى أسفل، في حين ركزت جاكوبز على حق الناس العاديين في فراغات الشوارع العامة، ورفضت التدخلات الحكومية الواسعة.
أما عن الفكرة المناهضة لما ورد أعلاه، فقد تمحورت حول التخطيط من القاعدة الشعبية إلى أعلى، من خلال تمكين المستخدمين وتشجيع المشاركة المجتمعية، ولا سيما سكان الأحياء والمدن.
حيث كانت جاكوبز شخصية مؤثرة في هذه لحركة؛ إذ إنها آمنت بقدرة الناس العاديين على معرفة حاجاتهم.
وبخلاف نهج موزس للتخطيط الفوقي الذي انعكس على مشاريع تجديد واسعة للمناطق العمرانية في نيويورك، أكدت جاكوبز أهمية الشوارع والأحياء والكتل الصغرى التي، وإن بدت عشوائية في عيون المخططين في تخطيطهم من أعلى إلى أسفل، تشكل في الواقع ” أنساقًا معقدة للنظام الوظيفي”.
وسرعان ما أصبحت “المشاركة” شعاراً لهذا النمط من التخطيط الذي يتبنى استراتيجية تسمح للمواطنين المحرومين بدور في “السلطة الإدارية الكاملة” بإبداء حاجاتهم ورغباتهم في العملية التخطيطية.
قد نستفيد فيما ورد أعلاه للعودة إلى الوراء في سبعينيات القرن الماضي وثمانينياته، عندما بدأ النظام السعودي وتحت ذريعة التحسين وتوسعة الحرمين الشريفين بدأ بعملية هدم ضخمة طالت مكة المكرمة والمدينة المنورة، مرتكباً الكثير من الانتهاكات المالية والمظالم ضد الشعب في الداخل من خلال التخويف والاعتقالات التعسفية لمن يعترض، وقد أحال المعترضين على المحاكم التي قرر فيها بسرية القضايا التي تخص مصالح النظام نفسه، وبعد التوسعة الكبرى للحرمين الشريفين إبان فترة حكم “الملك” عبد الله بن عبد العزيز كرر التجربة ونزع الملكيات بلجان قام بوضعها غير ممثلة عن أحد ولا تعبر عن إرادة الشعب وأصحاب العلاقة ذات الصلة، وكانت هذه اللجان متحيزة للنظام ضد مصلحة أبناء الشعب.
والآن في ظل النظام الحالي نظام الملك سلمان بن عبد العزيز وولي عهده محمد بن سلمان تُكرَّرُ هذه الإجراءات ففي الحويطات منذ أشهر مثالاً قتل كل من اعترض ثم لم يعوض المستحقين ممن هجرّوا من أراضيهم والذين عوضوا فبنذر يسير، وبعد زمن مما اضطر بعضهم لافتراش العراء تحت الجسور لصالح مشاريع الوهم مثل نيوم وغيرها ، ثم كرر ذلك بتهجير قبيلة جهينة التي تطل أراضيها على البحر الأحمر والجريمة نفسها كُرِّرَت في تندحة في إقليم عسير، حيث هُجّر الأهالي وانتزعت أرض أبائهم وأجدادهم منهم.
أما الآن فلقد تم الاستحواذ على واحد وثلاثين مليون متر مربع في أشهر مدينة ساحلية في إقليم الحجاز، فجرَّف عشرات الأحياء وأصبح ما يقارب مليون مواطن ومقيم خارج بيوتهم في ظروف صعبة للغاية، ينتظرون الوعود التي أقل ما يقال عنها أنها زائفة من قبل النظام السعودي.
أراد السكان، في جميع الأمثلة المذكورة، الحصول على شرعية مؤسسية واقتصادية أكثر من أي شيء آخر.
فما حصلوا عليه عموما كان في أحسن أحواله حدا أدنى من الاعتراف بوجود هذه الفئة والتعويض المادي غير المنصف، كما لا يتمتع بقوة الشرعية.
فالشرعية تحيل إلى الاعتراف والقبول بصلاحية وملاءمة الناس والأشياء والأماكن. وفي حين لا ينفصل مفهوم الشرعية من الناحية النظرية عما هو قانوني، فثمة أشياء على أرض الواقع قد تكتسب الشرعية من دون أن تكون قانونية، أو قد تكون قانونية من دون أن تكتسب الشرعية، فالشرعية أكثر تعقيداً بكثير، فمن خلالها يرغب السكان في تحسين بيئتهم العمرانية وأوضاعهم الاقتصادية والاجتماعية أيضا.
إلى ذلك، وفي محاولة لمقاربة وضع “السعودية” بالعودة إلى سياسات التخطيط العمراني المعتمدة، فيمكن القول وبكل ضمير مرتاح، بأن آل سعود، في الوقت الذي منعوا فيه إجراء الانتخابات البلدية، على شكليتها وصوريّتها، بالتأكيد لن تسمح وليست بوارد اتباع التخطيط الذي يحاكي المساعدة الذاتية، والقائم على المشاركة ولعب دور أساسي في إبداء حاجاتهم.
الأمر الذي أثبتته ممارسات السلطات إزاء أي اعتراض على ممارسات التهجير، الذي وصل حداً لم يمتنع فيه النظام عن القتل في سبيل الاستحواذ على الأراضي، وخير مثال عبد الرحمن الحويطي.
أما عن التخطيط الفوقي، فلا نرى بأنه أيضا ينطبق على الحالة التي نحن بصدد معالجتها، إذ أنه وبحسب ما كنا قد أسلفنا، فإن عمليات التخطيط الفوقي تشمل المجتمع برمته ولا تستثني القاع، وبالتالي فإن ممارسات النظام السعودي تنفي وجود هدف مجتمعي شامل، إنما يقتصر على مناطق في الحجاز بعينها، ما يدفعنا للتساؤل هل يجرؤ محمد بن سلمان، بوصفه الملك غير المتوّج، على اعتماد إجراء شبيه في الرياض مثلاً أو أي منطقة في نجد؟
ارسال التعليق