من حلَب إلى حصار قطر.. وقائع تصدُع الجبهة “الإسلامية الأمريكية”
سبق الخطوة السعودية الخليجية تجاه قطر (اللاحقة لقمة ترامب آل سعود) انحسار كبير لمشروع قطر والإخوان المسلمين في المنطقة، انحسار بدأ بسقوط ممثلهم عن مقعد الرئاسة في مصر عام 2013، وشهدت الفترة اللاحقة لتلك البداية مكوّنات عديدة لهذا الانحسار اجتمعت في تصاعد وصولاً إلى موقف المحور السعودي من قطر، الحاضنة الاجتماعية والسياسية والاقتصادية للإخوان مع تركيا، والحاوية لأكبر القواعد العسكرية الأمريكية على الإطلاق في المنطقة.
لم يكن “تقارب” قطر مع إيران أحد أسباب الموقف بل يتكوّن الآن كأحد نتائجه في الواقع، كما أن التناقض القطري مع المصالح السعودية جاء تناقضاً ثانوياً يعبر عن الرغبة في هامش استقلال عن العباءة السعودية الضيقة بالذات، وليس تناقضاً رئيسياً يعبرعن برنامج سياسي بديل ومختلف جوهرياً عن البرنامج السعودي، فكلاهما بطبيعة بنائه مشيخة نفطية ذات دور وظيفي (اقتصادي واستراتيجي وسياسي) لأمريكا والغرب وكلاهما يضم قواعد عسكرية أمريكية ضخمة.
من ناحية أخرى كان التقدم السوري الكبير في الميدان، الذي انطلق ببداية عام 2017 بعد نصر حلب، مفتتحاً لتغير ميداني واسع شمل العراق وسوريا واضطلع فيه الحشد الشعبي العراقي بدور بارز، ووصل إلى قلب الجيش السوري للمعادلة العسكرية داخل سوريا برمتها بسيطرته على كامل المحيط الحيوي للمساحة المسيطرة عليها الدولة وإزاحته لداعش خارج العمق السوري نحو الأطراف، ثم إسراعه نحو السيطرة على القطاع المخترَق أمريكياً من الحدود مع العراق مع إسراع الحشد الشعبي من داخل العراق في ذات الإتجاه، الأمر الذي مثّل محصلة شِبه نهائية لفشل التنسيق بين المكوّنات المختلفة لمشروع إسقاط الدولة السورية، ودعّم حقيقة أن المعادلة التي تجمع قوى المشروع لم تعد فاعلة بشكلها القديم لدرجة استدعت نزول الأمريكيين بأنفسهم في البادية السورية بين العراق وسوريا، للخروج من مجمل الحرب السورية بمكسب (إضافي) يعوّض فشل إدارة اوباما وهو وجودهم مع فصائل محلية صنعوها على الطريق بين دمشق وبغداد وطهران.
حلب والاستدارة التركية.. منعطف تاريخي
تطلّب تحرير حلب عملية عسكرية وسياسية بالغة الصعوبة، أعطتها الدولة السورية وحلفاؤها أولوية مطلقة لفترة معتبرة من عمر الحرب السورية، في ظل الموقع الاستراتيجي للمحافظة وثقلها الديموغرافي وهي العاصمة الثانية للبلاد وأكبر مرتكزات الصناعة بها، كما كانت مرتكزاً حديثاً للإخوان المسلمين في سوريا وللفصائل المسلحة الرديفة المصنوعة تركياً، صنف من الفصائل نراه كذلك مركَّزاً في إدلب المجاورة وفي درعا أقصى جنوب سوريا وغيرهما، وكان مفهوماً أن لتركيا طمع رئيسي في حلب تحديداً كأحد أجزاء أقصى الشمال السوري على الحدود التركية، تمهيداً لاقتطاعها وفرض واقع سيطرة عليها كلواء الاسكندرون السوري المحتل تركياً منذ عشرات السنين، وكإدلب الواقعة الآن تحت سيطرة الفصائل المصنوعة تركياً وغيرهما، الجدير بالذكر أن القطاع الذي لم يتم تحريره في شمال حلب، أي على الحدود التركية مباشرةً، شكّلت فيه تركيا قوات شُرَطية سورية قوامها الرئيسي من الإخوان المَحليين تحت قيادة أمنية تركية.
شكّلت الفترة اللاحقة لتحرير حلب تحوّلاً بالتراجع للدور التركي بدأ بفرض روسي لوقف إطلاق النار آخر العام الماضي، وصولاً إلى تولّي تركيا لجم وتحجيم الفصائل المصنوعة تركياً وذات الارتباط بالاخوان المسلمين في الداخل السوري، وفي الداخل التركي حيث يحكمون، بالدخول في مشروع روسي إيراني للتسوية مع سوريا خلال مفاوضات أستانة، ولكن على جانب آخر شمل رد الفعل التركي على انتكاسة فقد حلب والتقدم الكاسح للدولة السورية في شمال سوريا إرتدادة في الداخل، فوطّد نظام أردوغان سيطرته على الدولة التركية بتوسعة صلاحيات الرئيس في الدستور باستفتاء، وصلّب من جبهته الداخلية بعد محاولة إنقلاب لم تشكّل خطراً بقدر ما هيّأت فرصة ذهبية لابتلاعه للدولة التركية، وتعويض ما نزفه بوجود داعش – التي ساهم في إيجادها بالشراكة مع آل سعود – مع استكمال ضربها وإزاحة وجود الأكراد عن حدوده، وتشكيله لقوات درع الفرات لذلك وللالتفاف حول فشل فصائله الٌأقدم على الأرض في سوريا.
على صعيد آخر شملت التداعيات مسار آخر لدى قطر فكثّفت الفصائل المصنوعة قطرياً من نشاطها في الجنوب السوري، مع تكثيف للعمل الإعلامي “السياسي” القطري ومزيد من “المنصات” الإعلامية تضخ خطاباً سياسياً داعماً لمشروع الدور الإقليمي لقطر، تحت أغطية “عروبية” وليبرالية وتحررية، وشعارات وطابع مرتكزين على مناخ الربيع العربي واتجاهه، وفي ظل تأمين قطر لغطاء مالي لقطاع غزة الواقع عبئه على حماس ومع تباعد وفتور حمساوي مع إيران التي تهب السلاح ولا تملك فائضاً ضخماً يؤهلها لتخصيص اعتمادات كبيرة لحماس، جاء إعلان الوثيقة الأساسية لحماس قابلاً بدولة على حدود 67 بعد أن كان الأمر في حكم الخط الأحمر لحماس، وجاء معبّراً عن المأزق الإقليمي للإخوان بعد كل ما سبق ذكره وبعد تغيّر الإدارة الأمريكية وتولي ترامب مقاليد الحكم.
تغيُر الإدارة الأمريكية
منذ اليوم الأول استهدفت إدارة ترامب خصم ما لحق بمحور المقاومة من عنفوان مستحدث جاء كرد فعل طبيعي على محاولة إسقاط الدولة السورية واليمن، وكلاهما اضطلع فيه الإخوان – على تنوع قواهم – بدور رئيس اصطفافاً مع الغرب وداعش ومملكة آل سعود والإمارات، التقى ذلك مع الأولوية السعوديةة الخالصة من جهة، ومن جهة اخرى برحيل إدارة اوباما المنفتحة على الإخوان وقطر جاء التوقيت المنطقي لحسم مملكة آل سعود مشكلتها مع مشروع الدور الإقليمي الخاص – الذاتي لقطر، وما شمله من اندماج مع الإخوان الذين تصاعد دورهم بالربيع العربي على حساب الدور السعودي، مع كون الدور القطري في سوريا قد تم تجاوزه أجمالاًعلى الأرض ولم يعد من مبرر للاصطفاف معه أو السماح به، ومع استمراره في ليبيا الذي يزعج المملكة والحليف المصري المتضرر موضوعياً من سياسات قطر منذ سنوات .
يقول ترامب في أحد تغريداته اللاحقة لقمة الرياض إنه تحدث مع القادة الحضور حول وجوب وقف تمويل الجماعات الإرهابية، فإذا بهم “يشيرون جميعاً” إلى قطر، وفي الأشهر الأولى لولاية ترامب شهدت منطقة الغوطة الشرقية لدمشق اقتتالاً بعنف غير مسبوق، وصل حد الإفناء، بادر به فصيل تابع للمملكة (جيش الإسلام) على فصائل تابعة لقطر (أبرزها فيلق الرحمن وبقايا جبهة النصرة)، تحت دعاوى واهية عن تراكمات وخلافات قديمة بين الفصائل المسيطرة على الغوطة منذ سنوات.
ما بعد قمة الرياض.. “لا دور إقليمي إلا السعودي”
بدأ الأمر بتلاسن إعلامي مفاجيء جاء بعد أزمة مفتعلة ووصل إلى حصار بحري (بالغ الخطورة بحكم الجغرافيا والأمر الواقع) وآخر جوي على قطر، التي تعتمد على السعودية، منفذها البري الوحيد، وعلى الإمارات كذلك في الحصول على المواد الغذائية، ونظراً لصعوبة وتكلفة جلب جميع احتياجات سكان قطر من المواد الغذائية عبر الطيران يبدو أن المملكة كانت تعي ما تفعل بضربتها تلك، فطبقاً لموقع قطر الجغرافي والمساحات المحظورة بحرياً المحيطة لها من كل جانب تقريباً لن يكون ثمة مفر من الحصول على ما يلزم من مواد أساسية من إيران المقابلة لقطر بحراً عبر الخليج وهو ما يكفل تبرير الضربة السعودية، وتجذير خروج قطر من العباءة السعودية التي لم تلتزم بها بالقدر المطلوب، ومن الصياغة التآلفية القديمة التي عبّرت عن “تكتل سنّي أمريكي” يضم الوهابيةة وحلفاءها والقوى الإخوانية وحلفاءها، وكانت قمة الرياض آخر مظاهره بعد فشله الذريع في سوريا والعراق .
مع تصدّع التكتل سابق الذكر كان طبيعياً أن ينتج الاستقطاب الجديد تآلفاً قطرياً تركياً أعلى تمثّل في زيادة عدد القوات التركية القديمة في قطر، كما كان طبيعياً أن تتجاوب إيران – التي تقف ضد التجويع السعودي للشعب اليمني المحاصر – مع إقامة تبادل تجاري غذائي مع قطر، وبذلت الكويت مساعٍ دؤوبة للتوسط والمصالحة نظراً لموقعها الذي يؤهلها لإمداد قطر بما يلزم لولا الخوف من غضبة سعودية قد تنتج عن تحدٍ كهذا لقرارها، بالإضافة لعداء كويتي تقليدي مع الإخوان.
بقلم : محمود عبدالحكيم
ارسال التعليق