ما هي المكاسب السياسية لدول الخليج بخروجها عن النص الدبلوماسي العربي والزج بنفسها في مشكلة معقدة و حساسة عربية/مغاربية وتعلن أن” دول مجلس التعاون والمملكة المغربية تشكل تكتلاً استراتيجياً موحداً، حيث إن ما يَمُسُّ أمن إحداها يمس أمن الدول الأخرى…و أن قضية الصحراء (المغربية)هي أيضاً قضية دول مجلس التعاون…و التعبير عن موقفهم الداعم (لمغربية) الصحراء.. ” كما جاء في البيان الختامي للقمة الخليجية المغربية (20 أبريل الماضي) و بغض النظر عن كون القضية بيد الأمم المتحدة بكل تفاصيلها التاريخية والقانونية كالاستفتاء على تقرير المصير،و هل فعلا هذا البيان نابع من إرادة كل دول الخليج و يمثل وجهة نظرها مجتمعة فعليا؟ وهل كانت السعودية التي دفعت نحو هذا الموقف في حاجة إلى هكذا تصرف دبلوماسي ” لتعاقب” دولة بحجم الجزائر فقط لأنها رفضت المشاركة فيما يعرف “التحالف الإسلامي العسكري” و لأنها رفضت قبل ذلك تصنيف الإخوان المسلمين جماعة “إرهابية ” ومن بعدها حزب الله ،إلى جانب اختلاف في “الرؤى” في قضايا أخرى سابقة أدى بالضرورة إلى خلاف في “المواقف” بين دول “سيدة ” في قراراتها؟.
السعودية تخطيء إن ظنت أنها “تستضعف ” الجزائر،إنها في الحقيقة تزيد الوضع العربي انقساما و تقضي على بقايا الجامعة العربية و ما تبقى من تضامن عربي،كما تضعف القضية الفلسطينية العربية المركزية،و تستعدي شطر الشعب العربي كما تزيد الفواصل بين المشرق والمغرب،و مهما قرّبت المصالح السياسية بين السعودية و المغرب، فان الجغرافية الواحدة و التاريخ المشترك و الوحدة الثقافية و التداخل الاجتماعي بين دول المغرب العربي عموما و بين الجزائر والمغرب خصوصا أقوى و أكبر و أدوم من أن تباعد بينها السياسة أو مزاج الحاكم في الجزائر أو الرباط.
ترى الجزائر أن السعودية تجانب الصواب عندما تفترض في نفسها ” زعامة ” العالم العربي و تعطي نفسها شارة القيادة في الميدان السياسي و بناء المواقف،و تصور نفسها على أنها تخوض حربا “عقائدية” من “أجل السنة ” في اليمن ضد صالح و الحوثيين بقيادتها “حلفا” عربيا و أن كل خروج عن هذه الرؤية من أي دولة عربية هو خروج عن “إجماع “عربي بل وقوف مع أعداء “العرب السنة”.
و في الحقيقة أن ضعف الدبلوماسية الجزائرية بسبب شلل مؤسسة الرئاسة في دولة تعتمد النظام الرئاسي،و مرور الجزائر بمرحلة تغيير سياسي داخلي في ظروف إقليمية و دولية متحولة و ملتهبة هو ما عكس حالة “ضعف “الجزائر ظاهريا و أدى ببعض الدول إلى توقع و انتظار تنازلات دبلوماسية كالسعودية و المغرب و فرنسا، و بعضها الآخر إلى “التمرد” و تغيير المعسكر و الموقف مثل تشاد والنيجر و مالي،وهذا الحكم صحيح نظريا لأنه يقوم على عدم فهم تعقيدات المشهد الجزائري و قابليته إلى التحول من النقيض إلى النقيض بتوافر شروط معينة.
و من هذه القراءة “الظاهرية “للواقع الجزائري جاء موقف السعودية الأخير من الجزائر كنتيجة لتراكم اختلافات في وجهة النظر حول كثير من القضايا و المواقف العربية و الدولية سابقا.
فعندما أصدرت السعودية(مارس2014)مرسوما ينص على اعتبار الإخوان المسلمين “جماعة إرهابية ” و طلبت لاحقا من الجزائر اتخاذ نفس الخطوة رفضت الجزائر”بلباقة” دبلوماسية وهدوء ذلك الطلب ،وأسدى وزير خارجيتها في زيارته للسعودية “نصائح” حول “الأضرار” السياسية مستقبلا لهكذا قرار، فالسلطة في الجزائر ترى أن الإخوان أحد شركاء الخروج من محنة ما يعرف بالعشرية السوداء في التسعينات، كما أن المشاركة السياسية لهم في الجزائر ساهمت إلى حد ما في توازن المشهد السياسي الداخلي،علما أن بعض دول الخليج لم تتوافق مع السعودية في هذا القرار إطلاقا و خاصة قطر والكويت.
و عندما حشدت السعودية عدة دول لتأسيس ما يعرف “التحالف الإسلامي العسكري” العام الماضي الذي من أهدافه المعلنة “محاربة الإرهاب بكافة أشكاله” رفضته الجزائر لأنها ترى فيه تحالفا “سياسيا” أكثر منه عسكريا،مع عدم وضوح مفهوم مصطلح “الإرهاب” و تحديد تعريف له، إضافة إلى أنه مبني على أسس “مذهبية” كونه تجمع سني ضد الشيعة، كرد فعل على سياسة ايران في المنطقة،وهو ما ترى فيه الجزائر خطرا على النسيج العربي بل على كيانه لأنه يعمّق المشكلات و يفاقم الأزمات ولا يقدم حلولا لمعضلات بظاهر مذهبي و هي سياسية بالأساس، مفضلة الحل السياسي ،خصوصا أن الطائفة الشيعية موجودة في المنطقة الشرقية في السعودية و في البحرين و لبنان، ونقلت وجهة نظرها إلى وزير الخارجية السعودي خلال زيارته الجزائر نهاية عام 2015 و هو ما لم تستسغه السعودية التي كانت ترى في انضمام الجزائر نهاية أخر المعترضين العرب “السنة” على مواقفها و قراراتها و بالتالي “افتكاك” اقرار ضمني بزعامتها للعرب بعد تحجيم السيسي لدور مصر التاريخي عربيا و تراجعه.
والموقف الثالث الذي أزعج السعوديين هو رفض الجزائر تصنيف حزب الله الشيعي اللبناني تنظيما إرهابيا،وهو تنظيم لم يصنف كذلك عندما صنفت السعودية الإخوان المسلمين “السنة ” جماعة إرهابية، بل جاء متأخرا عليه لأكثر من سنتين،و الجزائر ترى أن الانخراط في هكذا تصنيف يضر بمصالحها الإستراتيجية بالوقوف ضد المحور الروسي سواء في الحصول على السلاح أو التوافق في قضايا سوق النفط خصوصا أن روسيا أكبر منتج للنفط خارج منظمة أوبك و تمتعض من السعودية التي ترفض تسقيف إنتاج النفط وهي أكبر منتج داخل نفس المنظمة، كما لا تريد خسارة إيران حليف روسيا الاستراتيجي،ومن هنا ترى الجزائر في هذا التصنيف تضحية بمصالحها و خسارة لمكاسبها تماما كما تنظر السعودية إلى علاقاتها الإستراتيجية مع الولايات المتحدة الأمريكية.
صحيح أن النظام الجزائري مترهل و ضعيف،مرفوض داخليا وعاجز دبلوماسيا ، ولا يوجد إجماع داخلي إلا حول الجيش المؤسسة الأقوى و الأعلى تنظيما داخل الدولة،و مع ذلك تبقى مشكلة واضع السياسة الخارجية في السعودية أنه يقرأ المشهد الإقليمي و الدولي كما يرده لا كما هو على أرض الواقع، فالجزائر ليست الدولة الوحيدة التي لا تتوافق مع الرؤية السعودية، فقطر و الكويت و عمان لها وجهات نظر مستقلة في كثير من القضايا،وهناك أقرب حليفين لها خارج الخليج لا يتقاسمان الرؤية نفسها معها،فالأردن يتحسب جدا لوضعه الإقليمي الجيوسياسي وسط بيئة متحولة استراتيجيا و يبدو غير متحمس للانخراط الكلي في نفس السياسة السعودية، ومصر السيسي التي كانت السعودية أول معترف بانقلابه على شرعية الرئيس مرسي و أكبر داعم مالي و سياسي له التي أعلنت مشاركتها في التحالف الإسلامي العسكري استقبلت بحفاوة إعلامية وفد صالح و الحوثيين إلى القاهرة،كما أن السيسي لا يريد قطع العلاقة مع المحور الروسي لحساب السعودية و يترك الباب مفتوحا تحسبا للعبة التوازنات و المواقف الدولية،و حتى التحالف الإسلامي العسكري مبني على حاجة الدول المشاركة للدعم المالي السعودي،وهو في النهاية تخالف قابل للفض في أي زمان متى توافرت أسبابه ، خصوصا مع مراوحة الوضع مكانه في اليمن دون حسم بعد عدة أشهر من الحرب.
فالمستقبل العربي القريب مقبل على تحولات في وضعه ومعادلته، و يبدو أن خروج العسكر من معادلة الحكم في مصر بات قريبا وهو ما سيقلب المشهد المصري رأسا على عقب،خصوصا ما ترتب من استياء شعبي مصري على اتفاق السيسي مع السعودية على ترسيم الحدود و انتقال وضع جزيرتي تيران و صنافير واتساع رقعة الرفض الشعبي،كما أن دول تونس و ليبيا تتعافي جزئيا و تجتهد في صياغة رؤية مغاربية توافقية إقليميا،و الجزائر تعيش مرحلة تحول حاسم في جذور بناء نظامها السياسي الحالي الذي تآكل و فقد مبررات استمراره و بقائه، وهو ما سيفرز نظاما متحررا من الوصاية الغربية و أكثر قوة و صلابة و قدرة على خدمة المصالح الوطنية و لعب دور أساسي في الملفات المغاربية و الإقليمية،وستبقى الجزائر أقوى دولة في المغرب العربي لموقعها الجغرافي و غناها بالعنصر البشري و المورد المادي المتنوع، كما ستبقى اللاعب الرئيسي في منطقة الساحل بحكم الجغرافية السياسية مهما بدت للبعض ضعيفة.
ارسال التعليق