آل سعود يحاربون أردوغان بالعرَّافين
التغيير
يتسلق الملك الإسبارطي ليونيداس جبلا عاليًا، هو مستقر الأوراكل أو حرّاس الآلهة، يقومون بدور الوسيط بين آلهتهم والبشر، ليحصل منهم على الدعم في خيار الحرب ضد الفرس، فيقومون بجلب فتاة تستنشق الرائحة المقدسة، وتمضغ نباتا مخدرا تغيب معه عن الوعي، وتنطق بلسانها في هذه الأثناء عن رغبة الآلهة.
مشهدٌ من الفيلم الملحمي التاريخي «300» عن رواية فرانك ميلر، يجسد ولع الحضارات القديمة بمسألة التنبؤ، وهو ما تناوله المؤرخ ديورانت في «قصة الحضارة»، وذكر فيه أنهم كانوا يعتقدون أن النساء أكثر استعدادًا لتلقي وحي الآلهة المزعومة. وفي العصر الذي بدّد فيه الدين فكرة التنبؤ بالمستقبل، وهدَم العلم أساطير الأقدمين، تعود إلينا بعض المنابر الإعلامية بتجديد هذه التصورات التي عفا عليها الزمن، وتُكرّس من جديد لمحاولات الإنسان البائسة لاستشراف مصيره ومستقبله، على قناة mbc التابعة لآل سعود كان المشاهد العربي على موعدٍ مع استدعاء الخرافة والتنبؤ بالغيب، حيث استضاف الإعلامي المصري عمرو أديب إحدى العرافات، تضرب أوراقها ثم تخبر عن المستقبل.
عندما نتحدث عن تمويل آل سعود أو الإمارات، والتنفيذ المصري، يبقى طرف ثالث في المعادلة وهو المستهدف، وغالبا يكون قطر أو تركيا، وفي حلقة البرنامج بالفعل، كان المموِّل سعوديًا (القناة) إماراتيا (القناة على أرض الإمارات)، والمنفذ مصريًا (مقدم البرنامج)، وكان المستهدف تركيًّا (نظام أردوغان)، وعلى الفور طلب عمرو أديب من العرّافة، المتأنقة بما يناسب الكهانة العصرية- إخباره عن أردوغان في 2020 ما هو مصيره؟.
لقد اعتدنا من قِبل المؤسسات الإعلامية للأنظمة المعادية لأردوغان على محاربة الزعيم التركي بالصراخ والتلفيق والتدليس، وتأليب الرأي العام بإثارة عاطفة الجماهير ضد الرجل، واتباع أساليب الملاحقة والتكرار، التي اتبعتها دعاية جوبلز النازي، الذي قال إن سر الدعاية الفعالة يكمن لا في إذاعة بيانات تتناول آلاف الأشياء، ولكن في التركيز على بضع حقائق فقط، وتوجيه آذان الناس وأبصارهم إليها مرارا وتكرارا. لكنها هي المرة الأولى التي يحارَب فيها أردوغان من قِبل إعلام خصومه بالعرافين والمشعوذين، وعلى قناة شهيرة وفي برنامج يقدمه أشهر إعلاميي مصر، وذلك في سياق الحملة الشرسة التي تقودها أنظمة مصر وآل سعود والإمارات لإسقاط النظام التركي، الذي يرفض التماهي مع رعاة الثورات المضادة للربيع العربي.
الشيء الذي يثير السخرية، أن جنسية القناة تابعة لدولة يُفترض أنها أرض التوحيد، وقامت مؤسساتها الدينية على دعوة محمد بن عبد الوهاب، رحمه الله، التي اشتُهرت بمحاربة الخرافات، وتشبَّع المجتمع السعودي أكثر من غيره بنبذ الكهانة والعرافة والسحر، وكل مظاهر القدح في عقيدة التوحيد، فكيف يخرج على قناة تابعة لتلك الدولة عرافون للتنبؤ بمصير الدول والزعماء، مع أنه قد ثبت التحذير والزجر والترهيب من إتيان العرافين في صحيح السنة النبوية، وربما يجدر أن يُذكِّر علماءُ السعودية عمرو أديب وتركي آل الشيخ بأنهم مع هذا الصنيع لا تُقبل منهم الصلاة أربعين يومًا.
وليست هي المرة التي يحدث فيها ذلك على القناة السعودية، فقبل عام في نهاية ديسمبر/كانون الأول 2018 استضافت القناة نفسها والمذيع نفسه، العرافة ذاتها، التي يطلقون عليها خبيرة التارو، ومن الطريف أنها توقّعت في هذا الوقت أن تكون سنة 2019 سنة استقرار للمصريين، وأنهم سوف يشعرون بأثر المشروعات الاقتصادية التي بدأها السيسي، مع أن هذا العام كان هو الأسوأ في حياة المصريين من الناحية المعيشية.
أمثال عمرو أديب ممن يُروجون للتنويريين والثائرين على النص والتراث الإسلامي، يستنكفون عن ذكر النبوءات المذكورة في القرآن والسنة الصحيحة، من أحداث آخر الزمان، ويرون فيها تخلفا ورجعية، ويتعاملون معها باستخفاف وتهكّم، لكنهم لا يجدون غضاضة في أن يُخضِعوا الجمهور لتأثير الخرافة، ولا يعتبرون ذلك تخلفا ورجعية. ومما يلاحظه المشاهد في اللقاء، أن الإعلامي المصري كان يسأل العرّافة بجدية وقلق عن مصير أردوغان في العام الجديد، ينتظر البشارة بزوال النظام التركي، وزاد قلقه عندما أخبرته بأن الرجل لديه بعض الحظ هذه السنة، إلا أنه تهللت أساريره عندما قالت، إن أردوغان لن يستمر معه هذا الحظ وأنه (هيتبهدل) فسألها في شغف هل تعنين أن ذلك سيكون في 2020، فأعادت النظر في أوراقها وهو يقول لها مشجعًا مترقبا للبشرى (هحلي لك بؤك) أي سيكافئها على لهجة المصريين، وأخبرته عن التحالفات التي سيواجهها أردوغان وتخلي حلفائه عنه.
مشهد عبثي إلى أقصى حد، يعبر عن حالة العجز عن مواجهة النظام التركي التي تمر بها هذه الدول، حيث فشلت كل محاولات التآمر والتأليب وصناعة الأزمات في إخضاع تركيا، خاصة بعد اتفاقية أنقرة مع حكومة الوفاق الشرعية في ليبيا، والتي خوّلت تركيا إرسال جنودها للقتال إلى جانب الحكومة الشرعية ـ بناء على طلبها – ضد قوات حفتر التي تدعمها مصر وروسيا وآل سعود والإمارات.
زعمت العرّافة أن هذا العام يواجه فيه أردوغان حلفاء مجتمعين، وكأنها قد أتت بجديد، فالنظام التركي يواجه بالفعل تحالفا مصريا سعوديا إماراتيا صهيونيا صريحا، اجتمع إليه الضرب الروسي تحت الحزام، وبشكل غير مباشر، والكيد الأمريكي القائم على محاولات الترويض وتجنب العداء السافر في آن.
ربما يسعى الإعلام المصري السعودي، من خلال هذه النبوءات إلى بث المخاوف بين مؤيدي أردوغان داخل تركيا وخارجها في الدول العربية خاصة، على طريقة النظرية القائلة بأن النبوءة تُحقق ذاتها، والتي وضعها عالم الاجتماع كي ميرتون عام 1949، ومفادها أن توقعاتنا السابقة تتحكم في سلوكنا الاجتماعي وتُبلورها، ويُحكى عن أمير الشعراء أحمد شوقي أن عرافا أخبره بأنه سيؤلف قصيدة يقول في مطلعها «رمضان ولّى هاتها يا ساقي»، وبالفعل ألّف شوقي هذه القصيدة، والأمر واضح، التعلق الذهني للشاعر بكلام العراف حمله على تأليف القصيدة بهذا المطلع. فربما كان هذا هو الهدف من استعانة القناة السعودية، ومقدم البرنامج المصري عمرو أديب بالعرافة لزعزعة الثقة في نظام أردوغان لدى مؤيديه. وفي الوقت الذي تستعين فيه هذه الدول بالخرافات لمواجهة أردوغان، ينشغل الرجل بالاحتفال بإنتاج أول سيارة تركية محلية الصنع، وبالمشروعات الاقتصادية الضخمة، واستكشاف الغاز في البحر المتوسط، والاتفاقيات الإقليمية التي جعلت المجتمع الدولي ينتفض فجأة للتعامل معها بجدية، وأعني الملف الليبي.
ارسال التعليق