أميركا والسعودية... المأزق الثنائي والابتزاز المفتوح
يرى الكثيرون ان قانون الكونغرس الاميركي الذي يسمح بمقاضاة الدول التي ترعى أعمالاً ارهابية على الأراضي الاميركية المعروف اختصار باسم "جاستا"، يمثل ضربة قاسية للحليف السعودي، وهو كذلك. لكنه أيضاً - في رأيي – علامة على أزمة في النظام الأميركي.
تطبيق القانون قد يؤدي الى تجميد او مصادرة أموال واستثمارات سعودية في الولايات المتحدة، وسيكبح -على الأرجح- العلاقات السياسية والاقتصادية بين البلدين، وقد يُرغم السعودية على تقديم تنازلات مالية او سياسية لتفادي دفع أثمان اكبر في حال التمنع عن الانصياع، كما قد يدفعها على المدى البعيد الى البحث عن شركاء اكثر موثوقية من الولايات المتحدة. ومن المنطقي الاستنتاج ايضا ان النظام السعودي بات يشعر اكثر فأكثر انه فقد الحظوة التي كان يعتقد انه يتمتع بها لدى الغرب بفعل ثقله المالي. المال لم يعد يكفي للتغطية على العيوب، ونظرة الى الأهمية المتزايدة التي توليها مراكز البحث السياسية الأميركية الى التعاليم المذهبية المتطرفة في السعودية تنبئ بأن الأميركي لم يعد يستطيع منح السعودية الحصانة من الملاحقة بتهمة رعاية التطرف، وبالتالي الإرهاب.
وكانت مقابلة الرئيس الأميركي الشهيرة مع مجلة "أتلانتيك" في شهر آذار/مارس الماضي، والتي رأى فيها ان السعودية أسهمت مثلاً في قلب وجهة التسامح في اندونيسيا اكبر دولة في العالم الاسلامي الى التشدد، إشارة واضحة الى تغير مكانة السعودية في العقل الأميركي. يومها اعتقد المسؤولون السعوديون ان المشكلة هي مع اوباما الذي يُلقي إخفاقه على حلفائه وان من الأفضل انتظار رئيس أميركي يتبنى رؤية قريبة من المصالح السعودية. لكن الأيام أثبتت ان شريحة كبرى من النخبة الأميركية تشارك اوباما في نمط التفكير بل انها تتقدم عليه في الخطوات العملية. والمهم في الموضوع ان الضربة الأميركية التي يقال إن اوباما لم يسعَ بشكل حثيث الى منع تسديدها الى الحليف السعودي، والدليل ان أغلب الديمقراطيين وقفوا الى جانب القانون، جاءت في وقت تعيش السعودية أزمة مالية غير مسبوقة ربما كانت سبباً أساسياً دفعت الجانب الأميركي الى الاستعجال في إقرار القانون. وهنا بيت القصيد.
فالولايات المتحدة ربما ترى أن هذا الوقت هو الأنسب لوراثة الأرصدة السعودية، والحجة جاهزة: ضحايا هجمات 11 ايلول يطالبون بتعويضات، ولا يهمّ اذا كانت السعودية شجعت أو لم تشجع المهاجمين، فقد جرت صياغة القانون بطريقة ذكية تقود الى النتيجة المطلوبة: وضع اليد على الأصول السعودية في المصارف الاميركية. والقانون المذكور يطال السعودية من منطلق انها قدمت الدعم والموارد المالية لأشخاص شاركوا في تلك الهجمات، بصرف النظر عن الحجة السعودية في تقديم هذا الدعم.
توقيت صدور القانون في الكونغرس يعكس الحاجة الى المزيد من عمليات النهب لثروات الدول. بالأمس القريب، وضعت السلطات الأميركية اليد على أموال ايرانية بقيمة ملياري دولار أميركي بزعم مساندة ايران لـ"أعمال ارهابية". والنظام الأميركي يمارس الابتزاز المالي على نطاق واسع لا تعرفه أية دولة اخرى. ويمول هذا النظام نفسَه من خلال فرض عقوبات وغرامات خيالية على شركات ومؤسسات ودول بذرائع مختلفة، آخرها مصرف "دويتشه" الالماني الذي فرضت واشنطن عليه غرامة تبلغ 14 مليار دولار فقط لا غير!
إضافة الى ذلك، يُخضع النظام الأميركي حكومات الدول لقيود وضوابط مالية لا يلتزم هو بها. مثال على ذلك، طباعة الدولار من دون اية تغطية ذهبية، وهذه الممارسة النقدية تسهم في تمويل النظام الأميركي بطريقة مفتوحة.
واذا عرفنا ان الولايات المتحدة تعيش مأزقاً مالياً مزمناً يتعلق بالديون التي تصل - وفق المعلن منها- الى 17 تريليون دولار، وقد لا تستطيع الاستمرار في مسلسل طباعة الدولار لأسباب تتعلق بالتضخم الحاصل. واذا عرفنا ان جزءاً كبيراً من سندات الخزينة الأميركية تستحق لدول توجد مشاكل بينها وبين الولايات المتحدة مثل روسيا والصين والسعودية، فقد يجد النظام الأميركي من مصلحته فتح ملفات للتفاوض مع هذه الدول حول مستحقاتها من الفوائد والأصول. والهدف من ذلك الحصول على موارد إضافية للخزينة الأميركية، وكذلك اقتطاع فوائد لم تعد الخزينة قادرة على تسديدها.
ولهذا، نجد ان قانون الكونغرس الذي بات الآن قانوناً أميركياً بعد ردّ فيتو اوباما عليه، ترك هامشاً للابتزاز المالي حينما نص على انه "بشكل عام، يحق لمحكمة اميركية وقف دعوى ضد حكومة اجنبية اذا ما شهد وزير الخارجية (الأميركي) بأن الولايات المتحدة تشارك في محادثات بنيّة حسنة مع الدولة الأجنبية المدعى عليها بغية التوصل الى حلول للدعاوى المرفوعة على الدولة الاجنبية او على اية جهات اخرى مطلوب إيقاف الدعاوى المرفوعة بشأنها" (المادة 5، الفقرة ب). بل إن القانون أعطى المدعي العام الأميركي "حق التدخل في أية دعوى تخضع بموجبها دولة اجنبية للسلطة القضائية للمحاكم الأميركية... وذلك بغرض السعي لوقف الدعوى المدنية كليا او جزئيا (المادة 5 من القانون).
يعني، المقصود فتح باب للتفاوض من اجل الحصول على مكاسب من هذه الدول التي ستجد أنها مرغمة على دفع الخوّة للسلطوي الأميركي من اجل دفع مفاسد وأضرار اكبر عنها. والنظام الاميركي هو نظام يقوم على التسويات المالية والقضائية، ولا يهمّه التوصل الى الحقيقة في أية قضية مرفوعة، وانما الحصول على تنازل من الطرف الآخر بعد وضعه تحت الضغط.
وفي التوقيت أيضاً، يأتي "قانون العدالة ضد رعاة الإرهاب" الأميركي ليشكل ضربة قوية ضد مساعي الرياض لتجاوز ملامح الانهيار المالي السعودي (محمد بن سلمان تحدث صراحة عن فرضية الانهيار المالي في المملكة في مقابلة مع موقع "بلومبيرغ" الأميركي في الربيع الماضي). وأبرز تجليات هذه المساعي ما اطلق عليها رؤية 2020-2030 التي قدّمها ولي ولي العهد السعودي. أي شركات كبرى ستقدم على الاستثمار في مكونات هذه الرؤية، والسيف الأميركي مصلت على رقبة الحكومة السعودية؟ والحديث هنا يدور ايضا عن الجائزة الكبرى المتمثلة بخصخصة شركة "أرامكو" النفطية العملاقة، كيف سيكون مآلها في هذا الوضع، وهل تذهب بها التسوية المفترضة الى حظيرة الشركات الأميركية؟ السؤال منطقي في مثل هذا الوضع الشائك الذي يشوبه غموض في النوايا الأميركية وغموض في مستقبل النظام السعودي الذي يترنح تحت ضغوط الخارج لأسباب تتعلق بانتفاء بعض مبررات بقائه بصيغته الحالية وضغوط الداخل (إحتجاجات عمالية متصاعدة على عدم دفع الرواتب، واعتراضات علنية على زيادة الضرائب والرسوم المستحدثة ...).
أزمة النظام الأميركي قد تكون سبباً في مفاقمة أزمة النظام السعودي، وأزمة النظام السعودي قد تسهم في توفير بعض الحلول المؤقتة لأزمة النظام الأميركي. الكل مأزوم، والكل يبحث عن حلول لأزماته ولو بجرعات مسكّنة. السعودية الغنية التي تشتري رضا العالم بالمال ربما انتهت الى غير رجعة. وأميركا التي كانت تقول انها "الدولة – القائدة" (leader state) للعالم انتهت، وهي تصارع وحسب للبقاء وللإيحاء بأنها لا تزال صاحبة الحل والربط على الأقل بالنسبة لحلفائها، هل نقول: السابقين؟
بقلم :علي عبادي
ارسال التعليق