اختيار توقيت محاكمة قتلة خاشقجي السرية ليس صدفة
نشرت صحيفة “واشنطن بوست” الأمريكية تقريراً بعنوان “ما يعنيه حكم السعودية الباطل في قضية خاشقجي للمعارضين العرب”، أعده الناشط الحقوقي المصري محمد سلطان، كشف فيه بعض ما يدور خلف الكواليس في السعودية لدفن جريمة اغتيال الصحافي جمال خاشقجي التي أربكت النظام السعودي وفضحته عالميا.
وبحسب تقرير سلطان كان الحكم الصادر في المحاكمة السرية لقضية مقتل جمال خاشقجي إجهاضاً مقيتاً للعدالة أنهى محنة مثيرة للاضطراب والانزعاج، وكان بإمكان أي مراقب عادي أن يتوقع أن النظام الملكي السعودي سيفعل ما اعتاد فعله في الماضي، دون اتباع أبسط أشكال الإجراءات القانونية أو سيادة القانون، وكانت محاولات تقديم حفنة من الأفراد في هذه الجريمة الشنيعة أكباش فداء لصرف الانتباه عن تورط قيادة المملكة متوقعاً أيضاً.
لكن المحاولة الفجة لدفن أهم قضية قتل في العقد الماضي نهاية العام أكثر وقاحة من الجريمة نفسها، التي وقعت منتصف النهار على أرض أجنبية، وداخل قنصلية.
لماذا الأحكام في ذلك التوقيت؟
وهذا التوقيت ليس من قبيل الصدفة، إذ أنهى السعوديون المحاكمة السرية بسهولة خلال موسم العطلات، في الوقت الذي تكون فيه الحكومة والإعلام في أدنى مستويات نشاطهما خلال السنة. ويتزامن هذا أيضاً مع تركيز وسائل الإعلام الأمريكية على عزل الرئيس الأمريكي ومحاكمته في مجلس الشيوخ. وفي الوقت نفسه، يبدو أن وسائل الإعلام المعارضة العربية خففت من انتقادها للسعودية لاستيعاب التقارب بين قطر والسعودية. وهذه كلها هي الظروف الأساسية التي سهلت محاولة السعودية دفن مقتل خاشقجي مع دخول عام 2020.
والحكم يوضح كيف قويت شوكة ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان؛ إذ أصدرت المحكمة الجزئية السعودية حكماً تاريخياً على خمسة من صغار الموظفين بالإعدام وثلاثة آخرين بالسجن لمدة 24 سنة. وبرأت جميع العقول المدبرة في القيادة -القنصل السعودي العام السابق في إسطنبول محمد العتيبي، ونائب رئيس المخابرات السابق اللواء أحمد العسيري وأقرب مستشاري محمد بن سلمان سعود القحطاني- بسبب «عدم كفاية الأدلة». وقد فُصل الثلاثة من مناصبهم بسبب جريمة القتل ووردت أسماؤهم في تقرير المقررة الخاصة للأمم المتحدة. وفرضت الولايات المتحدة أيضاً عقوبات على العتيبي والقحطاني بعد أن توصلت وكالة الاستخبارات المركزية الأمريكية ووزارة الخزانة إلى أنهما متورطان في الجريمة.
ويعكس هذا الحكم إحساس محمد بن سلمان بأنه الرجل الذي لا يُقهَر بعد نجاته من أسوأ موجة من الانتقادات في تاريخ المملكة الحديث. وهو لا يشعر بأنه محصَّن ضد المحاسبة على جريمة القتل فحسب، وإنما يحاول الآن أيضاً مد هذه الحصانة إلى شركائه.
وليس سراً أن القحطاني هو رجل محمد بن سلمان، فبعد حوالي شهرين من ذهاب جمال إلى منفاه الاختياري في سبتمبر/أيلول عام 2017، كنتُ حاضراً أثناء مكالمة بين جمال والقحطاني طلب منّي جمال تسجيلها، وكانت مكالمة قصيرة، مدتها دقيقة واحدة و42 ثانية. وبدأ القحطاني المكالمة بتوضيح مكانته، وأشار إلى أنه اتصل به نيابة عن محمد بن سلمان، الذي طلب منه أن يشكر جمال على تغريداته لدعم الحكومة السعودية بعد إعلانها أنها سترفع الحظر المفروض على قيادة النساء، وأخبر القحطاني جمال أن الأمير يتابع أعماله عن كثب وسُر برؤية تغريداته. وأجاب جمال بسرعة: «من فضلك أرسل تحياتي إلى صاحب السمو وأخبره أن واجبي كشخص يحب وطنه أن أشيد بالإصلاحات الإيجابية التي تضطلع بها الحكومة». وكان من الممكن أن يتوقف جمال عند هذا الحد ببساطة، ويفيد من العلاقة التي نشأت للتو بينه وبين أقوى رجل في المملكة وأن يطلب رفع حظر السفر عن ابنه، لكنه لم يفعل، بل تابع بصوت مرتعد ويده ترتعش رغماً عنه: «وسننتقد التجاوزات».
ورغم هذا الخوف الغامر الذي كان يشعر به، استغل جمال بقية المكالمة للدعوة إلى إطلاق سراح السجناء السياسيين والمثقفين والكتاب والدعاة، وذكر أسماءهم على عَجَل وطالب بإطلاق سراحهم. وسرعان ما أصبح صوت القحطاني عدوانياً، حين قاطع جمال قائلاً: «هؤلاء خونة، وتهديد للأمن القومي». وأجاب جمال متحدياً: «يمكنني أن أشهد على وطنيتهم وحبهم للبلاد». وأنهى القحطاني المكالمة قائلاً في إحباط: «سيُكشف عن الأدلة في الوقت المناسب».
يقول علم النفس الاجتماعي إن النجاة من تهديد قاتل وشيك يزيد من رغبة الناجي في المخاطرة وإحساسه بأنه لا يقهر، وهذا يعني أن محمد بن سلمان والقحطاني وشركاءهما سيواصلون رفع حدود ما يمكنهم الإفلات منه، ويشجعهم على ذلك إفلاتهم من عواقب ما بدا أنه فعل وحشي لا يمكن الإفلات منه، وقد نشر القحطاني بالفعل قصيدة عودة طويلة تحتفي «بالنصر الموعود». وحشد حملة على وسائل التواصل الاجتماعي تتغنى به فيما بث التلفزيون الوطني تقريراً يحتفل بتبرئته.
على أن مقتل جمال لم يأتِ من فراغ، وإنما كان انعكاساً قبيحاً لجميع الجرائم التي ارتُكبت بحق شعوب المنطقة العربية منذ الربيع العربي وغياب المساءلة كلياً. والآن، بعد هذه الجريمة السافرة التي تبعها إفلات صادم من عقابها، نتساءل: ما الذي ينبغي أن يتوقعه المعارضون من ولي العهد ورفاقه أكثر من ذلك في المستقبل؟
والأمر لا يتعلق بالعدالة التي يستحقها جمال، أو حتى بإرضاء أصدقائه وعائلته، بل يتعلق أيضاً بالردع، حتى لا يُقتل معارض آخر في هايد بارك بلندن، أو يُختطف من إحدى ضواحي تورنتو أو يُعتدى عليه في حانة في واشنطن العاصمة. وحين نسعى لتحقيق العدالة والمساءلة، فليس هدفنا الاقتصاص لمقتل جمال. وإنما نحاول تأمين مستقبل قريب يمكننا أن نعيش فيه دون خوف دائم من القتل وتقطيع الأوصال.
وإذا أغلقنا ملف مقتل خاشقجي دون مساءلة حقيقية، فلن يعود ذلك استثناءً، بل سيصبح قاعدة جديدة.
ارسال التعليق