"الإلحاد": عنوان مرحلة الانفتاح السعودي المقبلة
قراءة أنماط التدين في الوطن العربي والمتغيرات التي طرأت على السلوكيات الاجتماعية في الكثير من البلدان العربية تحتاج إلى منهجية تربط وتفصل بين ما هو أصيل وما هو دخيل.
ليس من الخطأ القول أن التدين له سياقه التاريخي والاجتماعي لكونه أحد أهم أشكال التعبير الفطري عن وعي الجماعة الأهلية، وبوصفه القوة العينية التي تتمظهر في أنماطها كل الصور الواردة إليها من الجوار الجغرافي والمحيط الثقافي والفضاءات القريبة والبعيدة.
إن الحديث عن الإلحاد كما الحديث عن التدين، يخضع للمتغيرات الاجتماعية ويتأثر بالسلوك الاستهلاكي والصور الآتية من خارج الغلاف المحلي الذي يعيش فيه الإنسان. وهنا لا بدّ من التطرق للتقليد بمعنى التماهي مع الخارج في لحظة معينة حيث يكون أقوى من التقاليد ومن المتعارف عليه والشائع، وهو يشكّل في تلك اللحظة نقطة ضعف تتمثل في الإعجاب والانبهار بالآخر ومحاولة استنساخ ما يمكن أخذه منه للتميّز النسبي عن الجماعة الأهلية.
في "السعودية"، تأتي مخاطر وعوامل الإلحاد أكثر إلحاحا من باقي الدول العربية المتحررة نسبيا كلبنان وتونس على سبيل المثال لا الحصر. حيث يمكن الانطلاق من حالة التشدد الديني ووهبنة المجتمع التي عمد النظام السعودي على مدّها بالشرعية من بوابة الاستبداد السياسي.
فمثلًا يؤكد تقرير مركز "وين/جيا غالوب" (WIN/Gallup International) البحثي على أن 5% إلى 9% من السعوديين ملاحدة؛ أي أن هناك ما يقرب من 300.000 ملحد في "السعودية" وحدها، ما جعلها في المركز الأول عربيًا وفقًا للتقرير، وكان ذلك في العام 2017.
ترجع بعض الرؤى التفسيرية زيادة حالات الإلحاد واللادينية في المجتمع إلى "التشدد الديني" بوصفه أحد العوامل المهمة في زيادة تلك الحالات، وتفاقهما يوما بعد يوم. ووفقا لباحثين فإن طبيعة الوهابية، تقوم في بنيتها المركزية على السلطوية والإكراه، حيث تفرض فيه مجمل الأحكام والمظاهر الدينية بالقوة والإكراه، فينشأ جيل الشباب وأمامه خيارين لا ثالث لهما إما الانضواء في البيئة الدينية المتشددة، بما يعنيه الأمر من تحوير لمفاهيم الدين الحقيقي ودسّ السموم التكفيرية والمعتقدات الشاذة التي تتبنى العنف والترويع نهجاً تجاه الآخر المختلف، وإما تصنيفه كضال وكافر بما يتبعه من نبذ اجتماعي وتهميش حقوقي يصل حدّ تطبيق حدّ الحرابة.
وبطبيعة الحال، لقد ساهمت العولمة بما وفرته من سهولة اتصال وتواصل مع الشطر الآخر أو حتى من بعض المجتمعات العربية إلى إظهار معاني أخرى للحياة بالنسبة لفئة واسعة من الشباب بعيدا عن سيطرة الأهل ورجال الدين. وعملا بمبدأ "كل ممنوع مرغوب"، ولأن أسس الدين الحنيف غير متجذرة في نفوس تلك الفئة فكانت الرغبة في إشباع رغبة التجربة واكتشاف كل ما يتم تغييبه عنهم ويمارس في الإطار الخارجي.
ساهمت أساليب دعاة الوهابية التلقينية والقائمة على التحليل والتحريم كما التحريض، ساهمت في هيكلة النفور لدى الشباب، حيث لم تقدم لهم إجابة عن تساؤلاتهم، بل أيضا غرست الدين في نفوسهم بوصفع انعكاسا للممارساتهم التي دأب رجال هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر على توليها وإنزال العقاب بحق المخالفين.
يمكن القول أنه لم يكن للدرعية القدرة على صناعة نتاج ثقافي كفيل بتحقيق معادلة واقعية تعيد بناء أمة تعيش أزمة التفكك والسقوط، من هنا كان على الحركة الوهابية، الشريكة الرسمية لآل سعود، أن تعيد إنتاج ظاهرة الدين بتلك القسوة، بحيث تعدُّ نفسها الرسالة الإسلامية الصحيحة.
أما في التطرق إلى المشهد الحالي، يمكن القول أن محمد ابن سلمان يقامر بالمجتمع وفئة الشباب بشكل خاص، وذلك بهدف تحقيق مروحة من الخطوات المأمولة والتي لا تقتصر على وصوله إلى سدة العرش، بل تتوسع حدّ تغيير هوية البلاد ووجها الذي لطالما تبنى آل سعود حجة تمثيلهم للإسلام ورعايتهم المزعومة للحرمين الشريفين.
يسعى بن سلمان إذا لفك الارتباط والثنائية التي قامت عليها مرتكزات احتلال شبه الجزيرة العربية، من خلال تحييد هيئة “الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر” وحصر صلاحيات عملها، واتخاذ بعض الاجراءات الإعلانية غرض الترويج وتزييف الواقع المأزوم في البلاد كإعطاء الحق للمرأة بقيادة السيارة والاستمرار في اعتقال الناشطات في هذا المضمار والتضييق على عائلاتهن، كما فتح باب الحفلات الموسيقية والغنائية على مصرعيها الأمر الذي كشف عمق الأزمات الأخلاقية والدينية المتفشية في المجتمع، إلى جانب الاستثمار الرياضي بهدف تحويل الانظار عن واقع حقوق الإنسان في البلاد.
إن كل ما ورد يُعدّ عينة بسيطة لما ينتظر المجتمع من تحولات لن تكون الأسر قادوة على استيعابها والتفاعل معها مع غياب السياسات الحكومية في مقاربة هذه الزوايا. بن سلمان الطامح لمنافسة إمارة دبي على ما وصلته يؤمن بأن الشباب "السعودي" يمثل مفتاح الكنز الحقيقي "للتغيير"، ورفع منسوب ثرواته وحاشيته بعيدا عن مراجعة الأولويات والثغرات والمخاطر المحدقة أو المحتملة.
فكيف سيواجه بن سلمان تضخم أعداد الملحدين والمجاهرين بـ"لا دينيتهم"؟ من سيحمّل المسؤولية في هذه الحالة؟ ماذا عن موقف الأهالي مما ساهم فيه انفتاح بن سلمان؟ وما هو موقف النظام السعودي من الظاهرة؟ هل سيستغلها بن سلمان للتجيير للحرية كونها لا تهدد نظامه؟ أم أنه سيحاصرها ويقيدها لعدم إثارة بلبلة داخلية؟
لا تنبئ المشاهد التي تلتقطها عدسات الكاميرا الناقلة للحفلات الموسيقية والغنائية، كما لما يخطط من مستقبل لجدة بالخير. الوضع لا يشير فقط إلى قرب شيوع مظاهر التحلل الأخلاقي وعدم قمعه من السلطات، بل يفتح المجال لتعميق حالة الشغور المجتمعي وغياب الناظم لأنماط الاتصال والتواصل الفكري مع الشريحة الأوسع في شبه الجزيرة العربية.
ارسال التعليق