المصالحة الخليجية تكشف ضعف السعودية
التغيير
كان شيء ما رمزي في العناق الموثق ظهر، الثلاثاء الماضي، في مطار مدينة العلا. فقد استضافت هذه الواحة الصحراوية قمة دول الخليج، التي كانت بمثابة جامعة عربية صغيرة ومهمة.
من الطائرة هبط بعباءته الفاخرة داهية ابن أربعين. وعلى الأرض انتظره شاب ابن 35. وقد سقط الواحد بين ذراعي الآخر كالعشيقين.
ارتفع صوت المذيع في قناة التلفاز الرسمية في المملكة ، ولكن لم يغطِ أي فرح صورة الحقيقة. فالضيف كان تميم بن حمد، أمير قطر، زعيم دولة من ربع مليون مواطن، تلف على إصبعها الصغير نصف دول الجامعة العربية.
المضيف هو محمد بن سلمان، الذي بفضل ماله والعلاقات التي ورثها من آبائه، يعد أحد الزعماء الاقوى في العالم. لبس كل منهما كمامتين اخفتا الحرج على وجهيهما. فهما لم يلتقيا منذ سنين، منذ فرض الواحد مقاطعة على الثاني وسُكب عبثاً دم الاثنين.
بعد ساعات قليلة من ذلك وقع في قاعة المؤتمر اتفاق لانهاء المقاطعة، بعد ثلاث سنوات ونصف. وطوال هذا الوقت أخفى الرجلان ذيليهما اللذين كانا متدليين بين أرجلهما خلف العباءتين.
الربح الفوري كان لقطر، وتنفس الجميع الصعداء.
لكن هذه القصة اكثر تعقيدا. عندما انطلقت المقاطعة في 5 حزيران 2017 بدت خطوة صارمة وواعدة. فقد استدعت المملكة سفيرها في الدوحة للعودة على الفور الى الديار، وأعلنت عن قطع العلاقات مع قطر.
الامارات فعلت مثلها وفورهما جاءت مصر والبحرين. بعد الاعلان عن قطع العلاقات السياسية، جاءت المقاطعة الاقتصادية. وتوقفت كل علاقة تجارية بين قطر وهذه الدول، وأغلقت معابر الحدود من المملكة اليها.
وسُد المجال الجوي في المملكة، الامارات، والبحرين في وجه الطائرات التي اقلعت أو هبطت في الدوحة.
تصرفت قطر برباطة جأش. توجهت على الفور الى ايران واشترت منها كل منتج احتاجته، بل فتحت لنفسها مساراً جوياً لحركة الطائرات.
الرحلات الجوية الى الدوحة طالت، وفي المحلات التجارية حلت البضائع التركية والايرانية محل منتجات الجيران، ولكن القطريين شدوا على الاسنان وواصلوا العيش.
كانت جملة من الأسباب لآل سعود واصدقائهم من أبوظبي للنزول، هذا الاسبوع، عن الشجرة العالية. بعد المليارات التي بذرت في محاولة فاشلة للفوز في اليمن، كم من المال يمكن خسارته في مغامرات عابثة؟
كما أن مناشدات مبعوثي البيت الابيض (بتشجيع الكويت) فعلت فعلها. واشنطن هي شريك استراتيجي للدوحة والرياض. ومنذ سنين تبيع لهما سلاحا نوعيا بعشرات مليارات الدولارات.
ضغطت ادارة ترامب على النقطة الايرانية. هيا، قالت لهما، تصالحا قبل فوات الأوان، فلا يمكن أن نعرف ما ينتظركما في السياق الايراني على يدي الرئيس بايدن. من الافضل لكما أن تستقبلاه متحدين.
بالطبع الحرج كبير. هذه المقاطعة، كما فهم الجميع منذ زمن بعيد، فشلت فشلا ذريعا. مع فرضها طرح المقاطعون 13 مطلبا نشرت على الملأ ومنذئذ كان من المشكوك جدا فيه أن تركع قطر وتطيعها، ولكن القائمة المغرورة شهدت على مزاج اصحابها اكثر مما جاءت لتنفذ.
فقد طلب من الدوحة اغلاق قناة "الجزيرة"، الذراع الاعلامية التابع للقصر. كما طالبوها بتخفيض مستوى العلاقات مع ايران والتوقف عن كل علاقة تجارية معها، ما يخرق المقاطعة الأميركية. طالبوها أن تغلق قاعدة سلاح الجو التركية في أراضيها، وتقطع علاقاتها الامنية مع أنقرة.
تدعم قطر حركة الاخوان المسلمين. هذه الحركة، بفروعها وابنائها، تشكل علما أحمر من ناحية الامارات، المملكة، والبحرين التي ترى في الجهاد خطرا على وجودها. وقد طولبت قطر بالكف عن دعمها، بل قطع علاقاتها مع "حزب الله"، "القاعدة"، و"داعش".
نفذت الدوحة بالفعل سلسلة تعديلات تجميلية. فقد ودعت نشطاء من "الاخوان"، خفضت من حماسة التغطية الاعلامية لـ "الجزيرة"، وشددت الرقابة على الحسابات البنكية لذوي العلاقة بمحافل الجهاد. ولكن أبقت الاوراق القوية قريبة من الصدر.
الهمس من خلف الكواليس
مثلما في حالات عديدة في الماضي، كان الممثل الرئيس في هذه المسرحية محمد بن سلمان، ولكن من خلف الكواليس اختبأ الهامس. محمد بن زايد، ولي عهد الامارات، كان مرشد جاره الشاب وهو لا يزال يشكل له رجل سر.
دفعت الامارات نحو انهاء الاغلاق بقدر لا يقل عن المملكة، اذ رأت كيف يجتمع التهديد الخارجي والخسائر المالية ليصبحا حركة كماشة مهددة، ولا يعد بايدن بشيء حالياً.
سجلت أبوظبي في هذه المقاطعة خسائر المداخيل الكبرى. فحجم تجارتها مع قطر يزيد على 7 مليارات دولار في السنة، ثلاثة اضعاف التجارة المتبادلة بين المملكة وقطر. وخلقت المقاطعة ركودا في اقتصاد الخليج كله، أبعد المستثمرين وأضر بنمو الدول المشاركة فيها.
كل ذلك، بينما تواجه هذه الدول الخسائر التي تنطوي على انخفاض اسعار النفط. وقد ذهبت الأرباح الى الخصمين الإقليميين، تركيا وايران.
كان مشوقاً ان نتابع، هذا الاسبوع، حديث المحللين في الخليج. فقد أعرب بعضهم عن الأمل في أن يكون تجميد المقاطعة بداية حوار صحي بين المملكة وقطر، يوحد دول الخليج مثلما في الايام الطيبة. معظمهم تنفسوا الصعداء، إذ رأوا في ذلك بداية وقف التدهور.
أمام ناظر الجميع كانت سابقة غزة، فالمعسكر الفلسطيني انقسم الى اثنين، ومن تلك اللحظة أصبح كل جناح منهما كياناً متعثراً. واجبر هذا الضعف "حماس" والسلطة على البحث عن المعونة لدى المصريين، الأميركيين، القطريين، الأتراك بل حتى الإسرائيليين.
وكلهم هرعوا للانقاذ، وفي الوقت ذاته نبشوا ايضا. هكذا ايضا في الخليج. ايران، تركيا والولايات المتحدة دعوا للمساعدة، وسجلوا أرباحاً جميلة على ظهر الدول التي تاقت للمساعدة. لا غرو أن مصطلح "وحدة الخليج" طرح المرة تلو الاخرى في الحديث عن انهاء المقاطعة.
والأمل هناك هو انه من الآن فصاعدا ستوثق كل الأطراف علاقاتها وفي حوار سليم ومسؤول تعود لتكون يدا واحدة أمام كل من تبقى.
الى أن يحصل هذا، سيواصل الأمير تميم ان يكون تميماً (بريئا)، و ابن سلمان سيبقي نحوه موقفاً شكاكاً. قطر لن تسارع الى الكف عن دعمها لـ "الاخوان المسلمين"، منظمات الجهاد في العراق وفي سورية والحكومة شبه الاسلامية في طرابلس في ليبيا. وستحافظ على علاقاتها مع تركيا وايران.
الى قائمة الخاسرين يمكن أن نضيف إسرائيل، وان كان في المكان الاخير، المحترم. فالامير الشاب نجا من أزمة حادة، وخرج منها مع ثقة ذاتية فائضة. شيء لم يمنعه من مواصلة دعم المحافل الراديكالية في المنطقة.
صحيح أنه بالتوازي يقيم علاقات مع إسرائيل ايضا وهذه كفيلة بان تتوثق، مثلا على خلفية بيع منظومات السلاح. ولكن منذ متى تأتي العلاقات مع هذه العواصم مع اتفاق ولاء.
فالقطري يتحدث مع إسرائيل لاحتياجاته وليس لاحتياجاتها. واذا أملت مصلحته ذلك، فانه سيستضيف مسؤولين إسرائيليين في الدوحة وبالتوازي سيواصل تشجيع اعدائها.
واذا ما تحدثنا عن العلاقات، فان ترامب سيعتزل، الاسبوع القادم، ويترك وراءه إرثاً مسلياً حتى الرعب. لماذا مسلٍّ؟ لأنه منذ زمن بعيد لم يكن رئيس في البيت الأبيض خوزق الجميع كل الوقت. فقد خلط معاً الايرانيين، دول الخليج، ونحن ايضا، عظم الخوف في المنطقة – وفي هذه الأثناء باع الجميع منظومات سلاح بمئات مليارات الدولارات.
صحيح أنه جلب لإسرائيل اتفاقات تطبيع منشودة، ولكن في الوقت ذاته بنى لعواصم الخليج جيوشا حديثة مع افضل الوسائل القتالية في الجو وفي البر مثلما لم يكن لها أبدا.
عن ثلاثة منهم (المملكة، الإمارات، والبحرين) يمكن أن نقول فليكن. فهم أصدقاء لإسرائيل. ولكن هذه صداقة لحظية، هشة كما سنرى. وهم بالتأكيد ليسوا أصدقاء حقيقيين.
وبالنسبة لقطر، حتى لو أقامت علاقات مع إسرائيل، فهي ستبقى أبدا المملكة الصغيرة التي كانت ذات مرة. تعيش جهودا للبقاء، تدعم أجنحة متطرفة، مغرورة وداهية.
ارسال التعليق