خلافات إدارة العرش تتصاعد.. من يعزل الآخر
بعد ثلاثة أعوام على صعوده إلى قمة هرم السلطة في السعودية، بدأت سياسات ولي العهد السعودي، محمد بن سلمان، تصطدم بتوجهات والده الملك سلمان بن عبد العزيز، بعد أن حوّل البلاد لمرحلة جديدة لا تتوقف الانتقادات الداخلية والخارجية تجاهها.
"صفعة" جديدة وجهها العاهل السعودي لابنه وولي عهده، تمثلت بإعلان تقارير صحفية إلغاء طرح شركة "أرامكو" التي اعتبرها الأمير الشاب أحد أهم أركان مشاريعه لدعم "رؤية المملكة 2030"، بهدف نقل بلاده إلى مصاف الدول المتقدمة.
بيد أن التناقض في سياسة السعودية الداخلية والخارجية، منذ صعود نجم الأمير الشاب، فتح الباب أمام حقيقة الصراعات والنزاعات بين أفراد العائلة المالكة، التي باتت تأخذ منحى غير مسبوق في تاريخ الحكم منذ التأسيس، وتتناول حيثياتِها الصحافةُ الغربية قبل العربية والمحلية.
وفي إشارة أخرى إلى تضارب وِجهات النظر والسياسات داخل الأسرة الحاكمة، ردَّ الأمير السعودي، أحمد بن عبد العزيز، على متظاهرين هتفوا أمامه في أثناء دخوله لمقرّ إقامته في لندن، بعدد من الهتافات المندّدة بسياسات "آل سعود"، ووصفوهم بـ"المجرمين القتلة".
وفي مقطع تداوله ناشطون على نطاق واسع بمواقع التواصل الاجتماعي، ظهر الأمير السعودي وهو يناشد المتظاهرين الغاضبين من انتهاكات التحالف في اليمن، بأن أسرة "آل سعود" لا دخل لها بهذه السياسة، وأن المسؤولية تقع كاملة على الملك سلمان وولي عهده.
ومؤخراً، ذكرت صحيفة "بوبليكو" الإسبانية أن الملك سلمان يبحث عن بديل آخر لولاية العهد خلفاً لابنه محمد، الذي يبدو أنه "خرج عن نطاق السياسة التقليدية التي سارت عليها المملكة، خاصة أن مشاريعه الداخلية والخارجية تعرضت لانتكاسات كبيرة" حسب الصحيفة.
أرامكو وجبل الجليديعتبر خبراء اقتصاد ومستثمرون أنَّ تدخُّل الملك السعودي في وقف طرح "أرامكو" صفعة قوية لـ"رؤية 2030" ولأحلام الأمير، الذي أراد ضم عملاق النفط الأضخم في العالم إلى صندوق الاستثمار السيادي، وطرح نسبة 5% (100 مليار دولار) فقط من الشركة، التي تقدَّر قيمتها بأكثر من تريليوني دولار للاكتتاب بالبورصة.
ومنذ صعود بن سلمان إلى سدة الحكم بشكل سريع، اتخذ عدة قرارات لم تعهدها المملكة في تاريخها الحديث؛ إذ طرح على السعوديين خطة اقتصادية أطلق عليها اسم "رؤية المملكة 2030"، تزامنت مع هذا الإعلان حملات إعلامية ودعائية نسبت النجاح والتميُّز إلى هذه الرؤية، قبل الكشف عن محتوياتها وبنودها، رغم الشكوك الكبيرة؛ وبالفعل بدأت تتلاشى مع ما تواجهه من صعوبات، بدا أن ملك البلاد قد لمسها.
وصدّرت وسائل الإعلام السعودية والقريبة منها، الأميرَ الشاب (33 عاماً)، على أنه الرجل المنقذ للمملكة والحكيم وحامي البلاد والعباد في حالة نفاد النفط، وتجسد ذلك في رؤيته الإصلاحية، بيد أن الكثير من المتخصصين والخبراء راهنوا على فشلها قبل إعلانها واعتبروها غير منطقية ولا يمكن تحقيقها، وسط غياب واضح لأي دور للملك في هذه الخطط؛ إذ لم يصرح أو يتحدث عنها خلافاً لابنه محمد.
لكنَّ تدخُّل العاهل السعودي، ومنعه طرح عملاق النفط بعد نحو ثلاث سنوات من الإعلان عنه، يعدان أول اختبار استراتيجي لخطط ابنه؛ حيث فوجئت الأسواق العالمية بهذا القرار المناقض لتصريحات بن سلمان وفريقه الذي يتولى تحقيق أهداف "رؤية 2030"، الأمر الذي فتح شهية وسائل الإعلام في تناول حقيقة التناقضات والصراعات داخل العائلة الحاكمة في السعودية، وتسليط الضوء على اللحظة التي يُنتظر عزل الملك ابنه أو الابن أباه والانفراد بالحكم.
يبدو أن الملك السعودي لم يُسلِّم لاجتهادات ابنه حول أهم شركة سعودية، حيث نقلت وكالة "رويترز"، الاثنين (27 أغسطس 2018)، عن مصادر سعودية، أن الملك تشاور مع عدد من أبناء الأسرة الحاكمة، وخبراء اقتصاد، وتوصل إلى أن خطة ابنه لن تكون في صالح المملكة؛ بل إنها قد تؤثر سلباً عليها، لتعزز بذلك فرضية الصراع بين الأب وابنه وذوبان "جبل الجليد"، ويشكل استقطاباً جديداً بين أفراد الأسرة الحاكمة.
وكان أول المشككين في فكرة طرح "أرامكو" الخبير الاقتصادي السعودي عصام الزامل، من خلال تغريدة قال فيها: "طرح (أرامكو) للاكتتاب مطلع 2018 (..)، ضعوها بالمفضلة: أرامكو لن تُطرح للاكتتاب أبداً"، حيث ألقى به بن سلمان وراء القضبان، على خلفية هذه التغريدة منذ عام 2016. وقال: "من المستحيل أن تصبح قيمة أرامكو أكثر من تريليوني دولار إذا ما كانت تملك حقاً حصرياً لامتياز استخراج النفط بالسعودية".
ولم يدم طويلاً رأيُ "الزامل"، الذي يعد -حسب مجلة "فوربس"- أحد أهم الشخصيات في السعودية والحائز العديد من الجوائز والتكريم من الملك سلمان قبل سنوات، حيث اعتقلته السلطات السعودية ووضعته في السجن منذ ذلك الحين.
بن سلمان وصفقة القرنومع التوجه الواضح للإعلام الرسمي السعودي وتأييده التطبيع مع دولة الاحتلال ونقل السفارة الأمريكية من تل أبيب إلى القدس، وإساءته المستمرة للفلسطينيين، فضلاً عن مباحثات ولي عهد السعودية مع المسؤولين الإسرائيليين والفلسطينيين والأمريكيين حول تسوية القضية الفلسطينية، فإن ملك السعودية لم يصدر أي تصريح بهذا الخصوص، في حين تصدر بيانات رسمية عن الملك بين الحين والآخر تؤكد حق الشعب الفلسطيني في أرضه.
منذ أكثر من عام، أبدت السعودية دعمها لما يُعرف بـ"صفقة القرن"، وهي خطة توشك إدارة ترامب على إعلانها، وتتضمن مقترحاً لتصفية القضية الفلسطينية والصراع مع دولة الاحتلال وفق الرؤية الإسرائيلية، يتضمن ذلك المقترح إقامة دولة فلسطينية تشمل أراضيها قطاع غزة والمنطقتين "أ" و"ب" وبعض أجزاء من منطقة "ج" في الضفة الغربية.
ودخل مصطلح "صفقة القرن" دائرة التداول منذ تولي ترامب منصب الرئاسة، وبدأت تفاصيلها تتسرب إلى وسائل الإعلام بعد زيارات صهره كوشنر وفريقه إلى عواصم إقليمية تعتبرها واشنطن أهم أدوات الترويج للصفقة، من بينها الرياض والقاهرة وتل أبيب.
كما تتضمن تأجيل وضع مدينة القدس وعودة اللاجئين، إلى مفاوضات لاحقة، والبدء بمحادثات سلام إقليمية بين دولة الاحتلال الإسرائيلي والدول العربية بقيادة السعودية. وزيادة على "صفقة القرن"، تواصل المملكة نسج خطط جديدة حول مدينة القدس المحتلة بكل دقة وفي كل زاوية؛ بهدف السيطرة على مقدساتها الإسلامية، وسحب بساط الوصاية من تحت أقدام المملكة الأردنية الهاشمية، بحسب ما كشفته مصادر لـ"الخليج أونلاين".
وتستخدم السلطات السعودية "المال والنفوذ" كسلاح تعتمد عليه كثيراً في تحريك مخططات السيطرة على مدينة القدس وإغراء سكانها، لتكشف عن فصول حرب خفية وطاحنة تجري خلف الكواليس وداخل الغرف المغلقة ضد الأردن، الذي يتبنى مواقف سياسية مخالفة لتوجهات السعودية، وخاصة تمرير "صفقة القرن" والعاصمة الفلسطينية، وهو ما يتناقض مع مواقف المملكة تجاه فلسطين والفلسطينيين على مدى عقود.
لكن، وخلال الشهور الأخيرة، أبدت الرياض اهتماماً "مفرطاً" بملف القدس بعد التقارب الظاهر بين مواقف ترامب في الشرق الأوسط وولي العهد السعودي.
فقد دعمت القدس بـ150 مليون دولار خلال القمة العربية الأخيرة التي عُقدت في 15 أبريل الماضي، وتوافقت في حلول سياسية تستثني القدس من دائرة الصراع مع "إسرائيل"، إضافة إلى الشبهات التي لاحقتها هي ودولة الإمارات حول شراء عقارات مقدسية داخل المدينة وبالقرب من المسجد الأقصى، إضافة إلى ضخ الأموال لشراء ذمم المقدسيين لتغيير توجهاتهم ومعتقداتهم.
هذه الخيوط مجتمعةً ترى شخصيات مقدسية ومراقبون أنها جزء من "مخطط خبيث"، تقف خلفه السعودية "الجديدة" للسيطرة على مقدسات المدينة وزيادة نفوذها، وسحب الوصاية الهاشمية بشكل تدريجي، لتتحكم فيها، في سابقة تاريخية.
وهذه الملفات التي لم يتجرأ أي زعيم عربي أو إسلامي على القرب منها أو المطالبة بوضع حلول لها؛ لأنها تحمل في طيّاتها مخاطر كبيرة، من تمييع للقضية الفلسطينية وهوية القدس ونسف حقوق الفلسطينيين، تزعمت الرياض المباحثات حولها مع المسؤولين الإسرائيليين والأمريكيين، بقيادة ولي العهد بن سلمان، وسط غياب تام لأي دور علني لوالده.
هيئة الترفيه والانقلاب على التقاليديجمع الكثير من مراقبي الشأن السعودي على أن بن سلمان وضع نصب عينيه مهمة تقويض سلطة شبكة رجال الدين في البلاد كمفتاح لإعادة تشكيل النظام السياسي، ونشر الثقافة الغربية في المجتمع السعودي تحت ذريعة الانفتاح وإباحة الترفيه، وهو نهج يخالف سياسة الملوك السابقين.
ورغم أن صعود بن سلمان إلى هرم السلطة بدا في ظاهره انقلاباً على التقاليد الملكية، وحتى السياسات، التي أرساها عمه الراحل عبد الله بن عبد العزيز، بدأت السلطة الدينية تخسر مساحات سيطرتها بسرعة كبيرة ولم تتعرض لهذا القدر من الإذلال قبل صعود العاهل السعودي إلى العرش مطلع عام 2015، على حساب قيم ومبادئ وثقافة المجتمع المحافظ.
ووجدت المملكة نفسها بين عشية وضحاها -دون أي مقدمات- مضطرة إلى الالتفاف على أطنان من إرثها التاريخي، من "فتاوى شرعية" تجرّم قيادة المرأة للسيارة، بعد قرار سبتمبر 2017 والسماح للنساء بالقيادة لأول مرة؛ إذ لم يقتصر الضرر على المكانة الرمزية للشيوخ فحسب، لكنه أضر بمكانتهم السياسية أيضاً.
وخلال فترة وجيزة، أعاد بن سلمان تشكيل هيئة كبار العلماء، وهي أكبر هيئة دينية رسمية في السعودية، تأسست عام 1971، لتضم أبرز الفقهاء السعوديين، في إطار جهود السلطة لاحتواء التيار الديني من خلال مَأْسَسَته، يرأسهم المفتي العام للبلاد "عبد العزيز آل الشيخ".
لذا، كان قرار إعادة تشكيل الهيئة بمنزلة محاولة من السلطة لإعادة تشكيل الرأي الديني الرسمي بإبعاد بعض أصحاب الرؤى "الأكثر محافظة"، وجاء ذلك متزامناً مع إطلاق "رؤية 2030" بهدف التحول الاقتصادي، وتحمل في طيّاتها وعوداً بتحولات اجتماعية وتخفيف القيود المفروضة على "الترفيه".
لكن، ما هو جدير بالانتباه يكمن في كون قدوم إصلاحات النظام السعودي "الليبرالية" مغلفة بأجواء غير مألوفة من القمع على طول الطيف السياسي والفكري.
وظهر أن "ليبرالية العهد السعودي الجديد" تَعِد -فيما يبدو- بإصلاح كل شيء عدا السياسة، وهي أقرب ما تكون إلى نموذج "ليبرالية مستبدة"، تقوم بتقديم بعض الحقوق الاجتماعية كستار لترسيخ القمع واسع النطاق، كما يراها مراقبون.
وفي حين تزعم المملكة اليوم تحولاً ليبرالياً و"وسطية" يمكن في ظلهما للمرأة السعودية أن تنعم أخيراً بحق تتمتع به نساء الأرض منذ أزمنة طويلة، فإن ليبراليتها تبقى فريدة من نوعها، حين توقف نساء من التيار نفسه.
حرب اليمن.. وأسوأ قرار سعودي
اعتبرت الأمم المتحدة أن أسوأ القرارات التي اتخذها ولي عهد السعودية منذ توليه منصبه بجانب وزارة الدفاع، هو قرار الحرب على اليمن، كما تقول إن هذه الحرب خلفت أسوأ أزمة إنسانية على مر التاريخ.
وتصاعدت في الآونة الأخيرة، الضغوط على المملكة لوقف الانتهاكات والقصف المستمر على مدنيِّين في اليمن، حيث أُجبرت الرياض على الاعتراف بتسبُّب غارة جوية لها في سقوط قتلى مدنيين، معظمهم أطفال.
خبراء بحقوق الإنسان في الأمم المتحدة أكدوا الثلاثاء (28 أغسطس 2018)، أن الضربات الجوية التي شنها التحالف، بقيادة السعودية في اليمن، سببت خسائر شديدة في الأرواح بين المدنيين، وبعضها قد يصل إلى "جرائم حرب".
وذكر الخبراء المستقلون في أول تقرير لهم لمجلس حقوق الإنسان، نشرته وكالة "رويترز"، أن تقريرهم "تم إعداده بكل استقلالية"، وأنه جاء بناء على تحقيق ميداني ومقابلات مع مسؤولين وشهود، مؤكدين أن "السعودية والإمارات والحكومة اليمنية مسؤولون عن انتهاكات باليمن"، وأنه "حددنا أشخاصاً قد يكونون مسؤولين مباشرة عن ارتكاب جرائم حرب باليمن".
ويأتي التقرير الجديد عقب قنبلة أمريكية الصنع أسقطتها طائرة من التحالف على حافلة مدرسية في صعدة شمالي اليمن، يوم 9 أغسطس 2018، أدت إلى مقتل 51 شخصاً، بينهم 40 طفلاً، وفتحت هذه القضية جرائم تحالف الرياض وأبوظبي في هذا البلد الفقير.
وعلى خلفية هذه التقارير، طالبت الأمم المتحدة وواشنطن ومنظمات حقوقية عدة، بتحقيق شفاف يؤدي إلى تقديم المتسببين فيها إلى المحاكمة، وهو ما يضع السعودية أمام ضغوط دولية جديدة قد تُعرِّضها لعقوبات صارمة، وهو ما لم تقْدم المملكة عليه قبل وصول ولي العهد الحالي إلى المنصب.
المشانق تطول الدعاة!ومن حرب اليمن إلى تقليص دور هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ثم نشاطات هيئة الترفيه، ثم الإصلاحات الاقتصادية والاجتماعية، وصولاً إلى اعتقالات العلماء والدعاة، كانت السعودية الجديدة زاخرة بقدر مثير للعجب من التناقضات.
فقد بدأت السلطات القضائية في المملكة تنفيذ محاكمات سرية أفرزت مطالب بإعدام دعاة ورجال دين بارزين، وهم: الشيخ سلمان العودة، والداعية المفكر علي العمري، والشيخ عوض القرني.
واللافت للنظر أن الدعاة الثلاثة كان لهم من الحظوة والحضور ما جعلهم أبرز دعاة البلاد ممن أحاط بهم الشباب وطلبة العلم. وفي إشارة إلى تقدير السلطات مكانتهم، كان الملك سلمان قد عزَّى الشيخ "العودة" في وفاة زوجته وابنه العام الماضي في حادث سير، إلا أن سياسة نجله تقود الشيخ نفسه إلى المشانق.
وخلال السنوات الثلاث الماضية، جرى اعتقال العديد من رجال الدين والأكاديميين والناشطين ورجال الأعمال وأمراء كبار، ممن لم يُبدوا حماسة كافية لتوجهات السلطة الجديدة وسياستها الخارجية، وهو ما لم يعلق عليه ملك البلاد مطلقاً، في ظل وجود عدد من أبناء إخوته بين من اعتقلهم نجله سابقاً بتهم فساد.
وما يثير الغرابة أن تلك التغييرات تأتي -على ما يبدو- في سياق عملية تحوُّل صُمّمت بشكل رئيس، لا لتمكين المجتمع؛ وإنما لاقتناص أكبر قدر من السلطة وتكديسها في مجموعة يتزعّمها ولي عهد طامح إلى قلب كل شيء في البلاد، ولإنتاج نظام جديد يبدو برّاقاً، لكنه أقل فاعلية وأكثر استبداداً على الأرجح، بحسب ما تقوله تقارير صحفية دولية، وهو ما يترك تساؤلاً عن قدرة الأمير الشاب على إزاحة أبيه، أو إنهاء الملك سلمان "تهوُّر" نجله.
ارسال التعليق