رحلة سقوط إمبراطورية بن لادن في يد ابن سلمان
خلال عشرينيات القرن الماضي وصل محمد بن عوض بن لادن إلى السعودية قادمًا من اليمن، كان شابًا فقيرًا في سن المراهقة يبصر بعين واحدة، وسعى لتحقيق الثروة بين الحجاج والعمال الذين كان ميناء جدة على البحر الأحمر يعج بهم.
وبعد تأسيس شركة صغيرة للبناء في 1931 أصبح بن لادن مقاول البناء المفضل على غيره في المملكة، وكسب تعاقدات لأغلب المشروعات ذات الأهمية الإستراتيجية في البلاد، بعدما استكمل بناء قصر للملك عبد العزيز في غضون 20 يومًا، لكن كل ذلك تغير مع صعود نجم ولي العهد السعودي محمد بن سلمان، وتحديدًا ليلة الـ4 من نوفمبر/تشرين الثاني 2017.
مجموعة بن لادن من بدايات متواضعة إلى إمبراطورية عملاقة
من بدايات متواضعة في 1931 ازدهرت مجموعة بن لادن بفضل العلاقات الطيبة التي ربطت الأسرة بحكام المملكة المتعاقبين، وكان الترتيب للعقود مع أفراد الأسرة الحاكمة يتم بشكل غير رسمي بل كان في بعض الأحيان يدون على أي ورقة في أثناء تناول القهوة، وذلك وفقًا لما جاء في كتاب عن سيرة حياة بن لادن ألفه خلف آل سيبيه المدير التنفيذي السابق بمجموعة بن لادن.
وفي عام 1950 منح الملك عبد العزيز محمد بن لادن شرف توسعة المسجد النبوي في المدينة المنورة، وامتد العمل بهذه التوسعة إلى عهد الملك سعود بن عبد العزيز، وانتهى بنجاح تام، وكنتيجة لهذا النجاح كُلِّف بن لادن بتوسعة المسجد الحرام في مكة المكرمة لتكون أول توسعة يشهدها منذ ألف عام.
بدأ هذا المشروع العملاق عام 1955، واستمر بن لادن في تنفيذه خلال عهد الملك فيصل بن عبد العزيز آل سعود الذي خلف الملك سعود، وانتهى في عهد الملك خالد بن عبد العزيز آل سعود مستغرقًا 20 عامًا من الجهد والإتقان، وفي عام 1964 كان الشرف لبن لادن بتكليفه بالعمل في أولى القبلتين وثالث الحرمين الشريفين، وذلك لإعادة تغطية قبة الصخرة في القدس الشريف بعد احتراقها في نفس العام.
ومع نمو المجموعة طورت أسرة بن لادن المؤلفة من نحو 70 ابنًا وعشرات الزوجات علاقات مع أبناء الملك عبد العزيز وأحفاده لضمان استمرار هذا التحالف، ومن خلال هذه العلاقات توسعت الشركة في إبرام العقود بدلًا من عملية تقديم العطاءات ذات الطابع الرسمي، ومُنحت الكثير من العقود على أساس سعر التكلفة مضافًا إليه نسبة ربح، والمشكلة في هذا النموذج أنه لا يوجد لدى المقاول في كثير من الأحيان حافز للحد من المصروفات.
وفي العام 1989 أُسست مجموعة بن لادن السعودية بوضعها الحاليّ، وقد توسعت أعمال الشركة لتشمل الطرق والمنشآت المتنوعة والمشاريع الحيوية، ومع تنامي البنية التحتية للمملكة تنامت أيضًا مشاريع بن لادن في نفس الخطى لتلعب دورًا رائدًا ومكملًا لهذه النهضة، حيث عهد إليها ببناء شبكة المواصلات والطرق السريعة عبر كل مدن ومناطق المملكة العربية السعودية.
مات محمد رب الأسرة في حادث طائرة 3 من سبتمبر/أيلول 1967 في منطقة عسير، ولقي ابنه الذي خلفه في قيادة المجموعة المصير نفسه، كما كان ابنها أسامة العقل المدبر وراء هجمات 11 من سبتمبر/أيلول 2001 في الولايات المتحدة، فسُلطت الأضواء على الأسرة بعد الأحداث عندما وصمها أصغر أبناء محمد بالسمعة السيئة، غير أن العائلة نجت بقيادة بكر بن لادن الهادئة من تلك العاصفة، وبلغت أوجها في عهد الملك عبد الله.
وخلال سنوات حكم الملك عبد الله الـ10 (2005 - 2015) قفز سعر النفط متجاوزًا 100 دولار للبرميل، واتجهت المملكة للإنفاق ببذخ، فاقتنصت مجموعة بن لادن العقود لإدارة أعمال البناء في مشروعات جديدة بعشرات المليارات من الدولارات بما في ذلك مركز الرياض المالي ومطار جديد في جدة ومدينة اقتصادية على البحر الأحمر يفترض أن تسع مليوني نسمة، وتولت المجموعة أمر أكثر مشروعات المملكة حساسية بما فيها توسعات الحرمين في مكة والمدينة.
ومع ازدهار نشاط المجموعة، عمد الأخوة الكبار لا سيما بكر وصالح وسعد إلى توسعة أعمالهم في الخارج ففتحوا أسواقًا في جميع أنحاء العالم، وفي إفريقيا بصفة خاصة، مما عزز مكانتها كشركة رائدة للإنشاءات في الشرق الأوسط، لكن كانت وفاة الملك عبد الله في يناير/كانون الثاني 2015 بداية يوم الحساب للعائلة.
رحلة سقوط عملاق سعودي بدأت بمكالمة من ابن سلمان
عندما ارتقى الملك سلمان عرش المملكة كانت المشروعات (مثل مركز الرياض المالي ومطار جديد في جدة ومدينة اقتصادية على ساحل البحر الأحمر) التي صدرت تكليفات بها في سنوات الرخاء الاقتصادي قد أصبحت عبئًا بسبب تراجع إيرادات النفط، فعمل على تهيئة ابنه الأمير محمد الذي كان شخصية غير معروفة من قبل بين أبنائه.
لكن لم يكد الأمير الشاب يصبح وليًا لولي العهد في السعودية حتى حول أنظاره إلى إمبراطورية مجموعة بن لادن السعودية العملاقة، وبدأت في عام 2015 أولى المحاولات الجادة من نجل الملك سلمان لإخضاع إمبراطورية عائلة بن لادن التي انطلقت عام 1931، وذلك وفق ما نقلت وكالة رويترز في تقرير مطول لها.
وبحسب الوكالة، اتصل الأمير الشاب في هذا العام - وكان حينها في الـ29 من عمره - ببكر بن لادن رئيس مجلس إدارة المجموعة التي تملكها عائلة بن لادن، وطلب منه أن يصبح شريكًا في المجموعة، كما أنه حثه على بيع جزء من أسهمها في طرح عام أولي.
صوَّر الأمير الشاب عرضه باعتباره فرصة ستسهم في تغيير شكل اقتصاد الممكلة المعتمد على النفط وتخفف الأعباء المالية على الشركة، في وقت كانت فيه الحكومة السعودية تحدّ من الإنفاق على البنية الأساسية بسبب انخفاض أسعار النفط.
ورغم أن بكر بصفته رئيسًا لشركة المقاولات الأثيرة لدى الأسرة الحاكمة في السعودية كان معتادًا على تنفيذ طلبات أفرادها، فإنه تردد في مواجهة عرض الأمير، ورد بأنه يحتاج بعض الوقت للتشاور مع بقية المساهمين من أفراد العائلة.
بدأ التحول الذي شهدته عائلة بن لادن بالحوار الذي دار بين بكر بن لادن ومحمد بن سلمان وانتهى بتولي الدولة إدارة المجموعة، رغم نفي المسؤولين السعوديين أن يكون الأمير سعى عام 2015 للحصول على حصة في مجموعة بن لادن، وقولهم إن الحكومة أنقذت المجموعة من الانهيار بعدما مرت بصعوبات مالية "اقترنت بضعف كبير في الإشراف والحوكمة".
وكذريعة للتحرك ضد المجموعة، تذرعت السلطات السعودية بحادثة الرافعة التي سقطت في سبتمبر/أيلول 2015 داخل الحرم المكي وأسفرت عن مقتل 107 من الحجاج، لتتخذ قرارًا ضد المجموعة شملت منعها من الحصول على عقود جديدة من الدولة ومنع أعضاء مجلس إدارتها وكبار المسؤولين التنفيذيين فيها من السفر إلى الخارج، ومراجعة المشروعات الجارية التي تنفذها المجموعة، رغم أن الأخيرة لم تكن في الواقع مسؤولة عن حادثة الرافعة، إذ كانت الأعمال تخضع لإشراف السلطات المحلية في مكة.
هكذا تلقت عائلة بن لادن العقاب، فلم تكن لتتفوه بشيء ضد الملك أو ولي العهد، فهم من "الرعايا المخلصين"، لذلك حاولت المجموعة الحد من الأضرار، وسعت لاسترضاء الدولة بتغيير إدارتها، وبلغ ذلك حد تعيين كلاوس فروليش المصرفي السابق ببنك مورغان ستانلي رئيسًا جديدًا لإدارتها المالية، لكن المحاولة لم تجد نفعًا.
ومع نضوب مدفوعات الدولة لمجموعة بن لادن تدهورت أوضاعها المالية وتوقفت عن سداد مستحقات عشرات الآلاف من العاملين بها، الأمر الذي أدى إلى حدوث احتجاجات، وبحلول منتصف 2016 كان جانب كبير من الأعمال الإنشائية التي تتولى المجموعة تنفيذها قد توقف، بما في ذلك مشروعات أساسية في خطط الإصلاح التي طرحها ابن سلمان.
بعد ذلك طرأ تحسن على الوضع المالي للمجموعة، وبدا أن علاقاتها بالسلطات تسير نحو التحسن، لكن وفي ظل ركود اقتصادي، تعطل إصدار طرح عام أولي كانت السلطات تضغط لتنفيذه "لإعادة تدوير" بعض من الأموال التي حققتها على مدار عشرات السنين، الأمر الذي أثار استياء الحكومة.
أفول نجم عائلة بن لادن مقابل صعود ابن سلمان
مع تولي ابن سلمان ولاية العهد في يونيو/حزيران 2017، وتسلمه ملفات كثيرة على رأسها الاقتصاد والدفاع، بات في وضع يتيح له التحرك تجاه مجموعة بن لادن، ففي الشهر ذاته حل الأمير محمد محل ابن عمه الأمير محمد بن نايف وليًا للعهد لتتركز في يديه مفاتيح السلطة بقدر أكبر، وأصبح في وضع يتيح له التحرك فيما يتعلق بمجموعة بن لادن.
وضمن ما أسماه مشروعًا للإصلاح والتحديث، استحدث ابن سلمان تغييرات لتنظيم عمل الحكومة وتنويع الموارد الاقتصادية وخفض التكاليف، بما في ذلك تقليص الإنفاق على أعمال البناء، وكان من أوائل التدابير التي اتخذتها الحكومة للسيطرة على مجموعة بن لادن أن أصدرت أوامر بمراجعة عقود الدولة مع التركيز على المشروعات الكبرى التي تعتمد عليها مجموعة بن لادن السعودية.
تنازل بكر وشقيقاه صالح وسعد عن حصصهم التي تمثل 36.2% من شركة العائلة لصالح الدولة في أبريل/نيسان 2018، ضمن كيان أطلق عليه "شركة استدامة القابضة" وتملكه وزارة المالية
وبحسب مصادر لرويترز، شجع ابن سلمان المجموعة على بيع أسهم من خلال طرح عام أولي في إطار الجهود الرامية لتطوير أسواق المال بالمملكة، وكان الإخوة بن لادن قد ألغوا خططًا لطرح عام أولي في 2011 خشية ألا يتحقق لهم سعر معقول للسهم في سوق الأوراق المالية التي هزها انخفاض أسعار النفط وبسبب الإجراءات البيروقراطية المصاحبة لإصدار الأسهم.
وعلى النقيض تدهورت أحوال أسرة بن لادن، فقد كان 3 من الأخوة بن لادن (بكر وصالح وسعد) يشغلون مناصب تنفيذية عليا في المجموعة بين أكثر من 200 شخصية من رجال الأعمال وأفراد الأسرة الحاكمة والمسؤولين الذين تم احتجازهم في نوفمبر/تشرين الثاني 2017، فيما وصفه مسؤولون بـ"حملة على الفساد"، شملت أفرادًا من الأسرة الحاكمة ووزراء ومجموعة من كبار رجال الأعمال.
جردت السلطات العديد من أفراد عائلة بن لادن من الأموال والممتلكات، وجُمدت الحسابات المصرفية لعشرات من أفراد الأسرة ومُنعوا من السفر للخارج، واستدعت السلطات الأخوة الموجودين بالخارج للعودة إلى المملكة، وامتدت الحملة على وجه الخصوص إلى مدينة جدة التي نشأت فيها أسرة بن لادن، وكانت في فترة من الفترات العاصمة الاقتصادية للمملكة، وكان كثير من الأسر التي تعمل بالتجارة في المدينة على صلات وثيقة بالملوك السابقين لكن لم ينج منهم من الحملة إلا القليل.
وتحت الضغط، وفي نهاية المطاف تنازل بكر وشقيقاه صالح وسعد عن حصصهم التي تمثل 36.2% من شركة العائلة لصالح الدولة في أبريل/نيسان 2018، ضمن كيان أطلق عليه "شركة استدامة القابضة" وتملكه وزارة المالية، غير أن بكر، وهو في أواخر الستينيات من العمر، لا يزال محتجزًا رغم أنه لم تعلن على الملأ أي اتهامات موجهة له، وكان هذا هو الحال أيضًا بالنسبة لأخويه صالح وسعد، حيث أن الـ3 هم كبار المساهمين.
وفي هذا الإطار، يقول بعض الاقتصاديين إن هذا التطور يكشف تناقضات في خطة الأمير محمد لبناء اقتصاد حديث يقل فيه الاعتماد على النفط، فقد احتضن فكرة الخصخصة على أمل أن يعمل ذلك على تنشيط الاقتصاد، غير أن الدولة تدخلت في شركات مثل مجموعة بن لادن السعودية، ورغم أنه اتجه لمعالجة الفساد فلم تكن هناك شفافية تذكر في تلك العملية.
واكتملت عملية السيطرة بتشكيل لجنة من 5 أعضاء للإشراف على المجموعة، ورغم أن اللجنة تضم فردين من عائلة بن لادن (هما يحيى الذي كان مسؤولًا عن إدارة عمليات المكتب الخلفي بالشركة وعبد الله المحامي خريج جامعة هارفارد الذي كان يتولى الإشراف على مصالح المجموعة في الولايات المتحدة)، فإن كثيرين على صلة وثيقة بالشركة يرون أن هذه الشخصيات التي عينتها الحكومة مجرد واجهة للحكام.
وبحسب مراقبين، سيتم تفكيك الشركات التي تتكون منها المجموعة وعددها 537 شركة تعمل في مجالات من البناء إلى الطاقة، وسيتم تغيير اسم المجموعة للنأي بها عن إرث أسرة بن لادن، بعد أن ملأ عبد الرحمن الحركان المطور العقاري المسؤول أمام الديوان الملكي ووزير المالية محمد عبد الله الجدعان، الفراغ الذي خلفه تقلص دور أسرة بن لادن في المجموعة، فبوصفه رئيسًا للجنة ورئيسًا فعليًا لمجموعة بن لادن كان له دور في ضمان الحصول على قرض بقيمة 11 مليار ريال (3 مليارات دولار) من وزارة المالية في أبريل/نيسان.
ورغم التطمينات الرسمية فإن الغموض يلف مستقبل مجموعة بن لادن التي قال مصرفي في جدة إن الحكومة بسطت سيطرتها عليها، وتوقفت معظم أعمالها باستثناء مشروع واحد ضخم بتكليف من الأمير ابن سلمان، وهو مشروع "نيوم" الترفيهي والسياحي الذي يمثل منطقة اقتصادية على ساحل البحر الأحمر تبلغ قيمة استثماراتها 500 مليار دولار وتمثل محور رؤية الأمير محمد للدولة السعودية الحديثة.
ارسال التعليق