بعد عدة سنوات من التوتر والجمود، عادت العلاقة السياسية بين تركيا والسعودية إلى طبيعتها مرةً أخرى، وزار رئيس تركيا السعودية.

وکان الرئيس التركي رجب طيب أردوغان قد صرح مرارًا وتكرارًا أن العلاقات مع السعودية تعتمد على اتضاح ملف مقتل جمال خاشقجي في القنصلية السعودية في اسطنبول بشکل نهائي.

لطالما أصر أردوغان على وجوب محاكمة ومعاقبة متهمي ومرتكبي جريمة هذا القتل الوحشي في تركيا، ولكن الآن وبعد عدة سنوات من الإصرار، غيَّر هذا السياسي البراغماتي رأيه مرةً أخرى وقرر وقف العملية القضائية برمتها، وإرسال الملف من الأساس إلى السلطات السعودية نفسها!

يعتقد عدد من المحللين السياسيين الأتراك أن عدم كفاءة الفريق الاقتصادي لحكومة أردوغان وقراراته الفردية وغير العقلانية لوضع السياسة النقدية والاقتصادية، قد أدخلت تركيا في أزمة اقتصادية كبيرة، واضطر أردوغان إلى اللجوء إلى الدول الأجنبية لتعويض نقص موارد النقد الأجنبي.

ولكن، نظرًا لأن الدول الأوروبية والشركات الأمريكية الكبيرة لم تُبدِ اهتمامًا يذكر بالاستثمار في تركيا، فقد وضع فريق السياسة الخارجية لأنقرة البحث عن رأس المال العائم في العالم العربي على جدول الأعمال؛ وإضافة إلى قطر والكويت والبحرين، انضمت الإمارات والسعودية إلی القائمة أيضًا.

ولذلك، في رأي هذه المجموعة من الخبراء والمحللين للسياسة الخارجية والعلاقات الدولية، فإن تغيير السياسة تجاه أبوظبي والرياض، أولاً وقبل كل شيء، له دافع وسبب اقتصادي.

إن عدم الكفاءة الاقتصادية لحكومة أردوغان وحزب العدالة والتنمية، وتأثير هذا العامل على الدبلوماسية والسياسة الخارجية، دفع حزب الشعب الجمهوري، المعروف بأنه أهم حزب معارض لأردوغان، إلى التعامل مع نهج أردوغان الجديد بأدب ساخر.

حيث سأل العديد من مسؤولي هذا الحزب، في الصحف وفي الفضاء الإلكتروني، أردوغان وفريقه: لو كان لدينا المال؟ هل کنت تخبرنا أيضًا يا أخي؟

كما هو متوقع، أشادت الصحف ووسائل الإعلام التي يقودها حزب العدالة والتنمية بزيارة أردوغان إلى السعودية، باعتبارها خطوةً دبلوماسيةً مهمةً وفتح فصل جديد في العلاقات بين أنقرة والرياض؛ ولكن سُمعت أصوات أخرى من منابر وإعلام المعارضة.

حيث انتقدت وسائل الإعلام المقربة من الأحزاب والتيارات المعارضة لأردوغان زيارته للرياض ومصافحته مع ولي العهد السعودي، متحديةً بذلك التحول السياسي المجدد للرئيس.

صحيفة سوزجو، وهي الصحيفة الأكثر انتشارًا في تركيا، کتبت عنوانًا حادًا حول زيارة أردوغان إلى السعودية، والذي كان في الواقع مأخوذًا من كلمات زعيم حزب الشعب الجمهوري كمال كليجدار أوغلو، والعنوان الحاد هو: "ركض مسرعاً لمعانقة القاتل".

ولم تقتصر صحيفة "سوزجو" في عنوانها على سخرية لقاء أردوغان مع ابن سلمان، بل كتبت في أسفل الصفحة: "وزراء البلاط ذهبوا إلى العمرة".

بدورها انتقدت صحيفة جمهوريت، التي تتبع العلمانيين والكماليين في نهجها الأيديولوجي والسياسي، بشدة تحول أردوغان السياسي السريع والبراغماتي نحو ولي العهد السعودي، في عنوانها الرئيسي وصفحتها الأولى.

في المقابل، اتخذت صحيفة قرار، وهي صحيفة محافظة تنتقد أردوغان، وخطها الفكري قريب من فكر عبد الله غول وعلي باباجان، موقفًا معتدلاً.

في عنوان صحيفة قرار، يعكس إدراج عبارة "صفحة جديدة مع ولي عهد السعودية"، موقف الصحيفة المعتدل من العلاقات السياسية والاقتصادية التركية السعودية.

کما أجرى فاتح ألتايلي، الصحفي التركي المخضرم والمحلل الكبير في مجموعة الأخبار التركية، تحليلاً بالصور لزيارة أردوغان إلى السعودية، وكتب قائلاً: "أعتقد أننا لم نشهد مثل هذه الصورة لأردوغان في حياته السياسية بأكملها. نظرت بعناية إلى جميع صور لقاء أردوغان بمحمد بن سلمان. النظرات وتعابير وجه الطرفين باردة جداً، وبعبارة بسيطة، إن العکرة تعلو وجهيهما وکأنهما يبيعان الخل منذ مئة عام! من مزاج أردوغان يمكن للمرء أن يرى أن الرئيس نفسه غير راضٍ عن لقاء محمد بن سلمان وأنه غير سعيد بذلك. وربما كان من الأفضل لو كان يرتدي قفازات حتی يصافحه بشكل أسهل!"

في إحدى الصور، بينما يتصافح أردوغان وولي العهد السعودي وكأنهما يتبادلان الرسائل بأعينهما، نری هاكان فيدان، رئيس جهاز الاستخبارات التركي، وهو يحدِّق بدقة في وجه ابن سلمان، ليعرف كيف يشعر تجاه رئيسٍ دعا ذات يوم إلى محاكمته، والآن جاء إلی قصره ضيفاً زائراً لإحياء العلاقة، ناسياً ما سبق من خلافات.

وفي الختام يجب القول إنه مع بقاء عام واحد فقط قبل الانتخابات العامة التركية، أصبحت محاولة البقاء في السلطة أولويةً قصوى لأردوغان وحزب العدالة والتنمية.

وفي ضوء هذه الأولوية المهمة والحيوية، أصبحت السياسة الخارجية لحكومة أردوغان تابعةً للأهداف الاقتصادية المحلية. وفي الوقت الحالي، لا يمكن للمرء أن يتوقع إشارةً مهمةً على تعاون سياسي وأمني واسع النطاق في الحقبة السياسية الجديدة التي بدأت بين تركيا والسعودية.

والأرجح أن هذه العلاقة تتمحور حالياً حول المصالح الاقتصادية، وسيؤجل التخطيط لبعض التحركات الأمنية والإقليمية والتعاون إلى فترة ما بعد الانتخابات في ترکيا.