ريما على خطّ بندر: المعركة الدائمة لإرضاء واشنطن
• ملاك حمود
تشكِّل مجموعات الضغط، "اللوبِيَات"، عاملاً رئيساً في توجيه السياسات الأميركية، الداخلية منها والخارجية، بعدما تحوَّلت، على مدى قرنَيْن، لتصبح في صميم صنْع القرار السياسي. ممارسةٌ يعود تاريخها إلى القرن التاسع عشر، حيث بدأت من أروقة الكونغرس، إلى أن تطوّرت لتغدو مهنةً رسمية مسجّلة لدى وزارة العدل، وباتت - مع الوقت - تمثِّل صناعةً سياسية بذاتها، وقطاعاً زبائنياً خاصّاً لممارسة كلّ أشكال التأثير، خدمةً لمصالح أفراد، ومؤسسات، ودول، وأحزاب، ومنظمات، عبر وسائل يقع الإعلام ومتفرعاته، إلى جانب العلاقات العامة وتلك السياسية، في صلبها. على أن القرار السياسي النهائي، ولا سيما على مستوى السياسة الخارجية للولايات المتحدة، يتأثّر بعمق بمجموعات الضغط والإعلام، ومن ورائهما المصالح المالية والاقتصادية.
لم تكن السعودية لـ"تنجو" لولا شركات الضغط التي تنتشر كالفطر في أرجاء الولايات الأميركية، ومراكز صنْع القرار. دأبُها، على مدى تاريخها المعاصر، الحفاظ على رضى الحليف الأميركي وحمايته، في مقابل بقائها أداة طيّعة تمثِّل مصالحه في المنطقة. وإنْ كانت الأحوال على خير ما يرام إبّان عهد الإدارة السابقة، والتي سعت، على رغم معارضة الكونغرس، إلى حماية وليّ العهد السعودي، محمد بن سلمان، حتى في أحلك أيّامه التي أعقبت مقتل جمال خاشقجي، إلّا أن الأمور تبدّلت في ظلّ الإدارة الحالية، ما اضطرّ المملكة للمسارعة إلى تزخيم نشاط اللوبيات التابعة لها، واللجوء إلى مجموعات ضغط محسوبة على الحزب الديمقراطي، للتأثير على سياسة إدارة جو بايدن، بعد انتكاسة خسارة دونالد ترامب في الانتخابات الرئاسية. فاستعانت بـ16 شركة ضغط للمساعدة في تعزيز العلاقات التجارية الأميركية - السعودية وتلميع صورة المملكة، بعدما تهشّمت في أعقاب اغتيال خاشقجي، حين أوقفت الكثير من هذه الشركات تعاملاتها، موقّتاً، مع الرياض. ومع ذلك، لم تعلّق الرياض أعمالها مع الشركات المحسوبة على الحزب الجمهوري، إذ وقّعت السفارة السعودية في واشنطن، قبل الانتخابات الرئاسية، عقداً بقيمة 75 ألف دولار مع شركة "أوف هيل ستراتيجيز" المحسوبة على الجمهوريين. وفي هذا الإطار، يعتبر بن فريمان، من مبادرة شفافية التأثير الأجنبي في "المركز الدولي للسياسة"، أن "السعوديين بحاجة إلى الحفاظ على تأثيرهم داخل الحزب الجمهوري في مرحلة ما بعد دونالد ترامب، على أمل مساعدة الجمهوريين لهم في عرقلة أيّ قرارات تضرّ بهم، مثل فرض حظر على مبيعات السلاح".
لكنّ الغضب ظلّ يلاحق السعودية على رغم انقضاء سنة ونصف سنة على حادثة اغتيال خاشقجي؛ إذ حمل أعضاء مجلس الشيوخ الجمهوريون من الولايات الأميركية المنتجة للنفط، على المملكة، حين انهارت أسعار النفط إلى مستويات تاريخية بعد انفراط عقْد تحالف "أوبك+" في آذار 2020، وتضرّرت صناعة النفط الصخري بصورة غير مسبوقة، ما دفع ترامب إلى التدخُّل شخصياً للضغط على حليفته حتّى تتراجع عن قرارها بتعويم السوق بخامٍ شبه مجاني. ولمحاكاة مخاوف الجمهوريين الغاضبين، قرّرت السفيرة السعودية في واشنطن، ريما بنت بندر بن سلطان (السفير الأسبق لدى الولايات المتحدة ومؤسّس اللوبي السعودي في أميركا الثمانينيات)، أن تتحدّث إلى مجموعة منهم، في موازاة تخبُّط اللوبي السعودي في الولايات المتحدة في التعامل مع الغضب المتصاعد في الـ"كابيتول"، على رغم تبرير إحدى شركاته، «هوغن لوفلز» (Hogan Lovells)، في رسالة موجّهة إلى أكثر من 30 عضواً في الكونغرس، بأن "السعودية لم تسعَ ولن تسعى إلى إلحاق أيّ ضرر متعمَّد بمنتجي النفط الصخري في الولايات المتحدة".
وفي إطار مساعيها لمواصلة التأثير على البيت الأبيض، سلّط تقرير لشبكة "سي إن بي سي" الأميركية الضوء على تمويل سعودي لمنصة إخبارية رقمية كبيرة في الولايات المتحدة، إذ كشفت وثائق مقدَّمة إلى وزارة العدل الأميركية، في إطار "قانون الشفافية في عمل مجموعات الضغط"، أن الجهود السعودية غير المعلَن عنها رسمياً حتى الآن تقودها شركة "إي تي إس" التابعة لـ"الشركة السعودية للتنمية والاستثمار التقني"، المعروفة اختصاراً بـ"تقنية"، والتي تعود ملكيتها إلى "صندوق الاستثمارات العامة" الحكومي، بقيادة ابن سلمان. وستكون للمنصّة الجديدة، وفق التقرير، استوديوهات في العاصمة واشنطن، على أن تديرها كوادر لها باع طويل في هذا المجال، وعملت سابقاً في قنوات مِن مِثل "فوكس نيوز" و"إن بي سي" و"سيريوس إكس إم" وقناة "الجزيرة". ويتزامن تأسيس "منصة الأخبار" تلك، كما وصفتها إحدى الوثائق، مع بدء المملكة بتعيين فريق جديد من مجموعات الضغط للتأثير على أروقة صنع القرار في واشنطن. ويُظهر أحد الإفصاحات المقدَّمة عن جماعات الضغط الأجنبية لوزير العدل الأميركي أن شركة "برايم تايم ميديا" تساعد في قيادة هذا الجهد. ويساعد الرئيس التنفيذي للشركة، ويدعى إيلي ناكوزي، في إنشاء مؤسسة الأخبار الرقمية الجديدة، فيما تُبين إحدى الوثائق أن شركته تتقاضى 1.6 مليون دولار على الأقلّ للمساعدة في توجيه المشروع.
وبين تصاعد نفوذ اللوبي السعودي واضمحلاله، يبقى أكيداً أن ما سلف يمثّل نقطة في بحر المصالح التي تجمع المملكة بلوبي السلاح الأميركي، ولا سيما أن الجانب العسكري يمثّل أحد أهم جوانب العلاقة بين واشنطن والرياض، في ظلّ المستويات الهائلة لمبيعات السلاح الأميركية للمملكة.
ارسال التعليق