صناعة العقل التكفيري في الشرع والسياسية
تعد الجماعات التكفيرية أحد أبرز نتاجات المدرسة الوهابيّة السعودية. هذه الظاهرة المظلمة تفسّر المشهد الإقليمي القاتم الذي يتواجد فيه عشرات الألاف من الجماعات التي تلتحف رداء الإسلام، إلا أنّها تعتبر “عقوبة المرتد أعظم من عقوبة الكافر الأصلي”. هذه القاعدة التي تحمل عنوان “أولويّة” قتال المرتد الأقرب”، فتحت الباب واسعاً أمام مشهد القتال الداخلي بين المسلمين وتحييد “الكافر الأصلي”، وفق رسالة “العقيدة الواسطيّة” لابن تيميّة، النصّ الرسمي الذي يتداول تدريسه أصحاب المدرسة التكفيرية اليوم.
إن هذه البيئة التي تفرّخ التكفير للداخل والخارج على حدّ سواء تدعونا للتساؤل عن الأسباب الكامنة خلف هذا المشهد المؤلم الذي أغرق الدول الغربية والعربية، الإسلامية والمسيحية، بأنهر من الدماء حيث حصد مئات الآلاف من البشر، بصرف النظر عن دياناتهم وأعراقهم. لا يمكن إرجاع المسألة إلى المجتمع السعودي “الطيّب” في طبيعته، حاله كحال جيرانه العرب والمسلمين، وبالتالي هناك أسباب إضافية جعلت من هذه المجتمع بيئة ملاءمة “لتفريخ” الجماعات التكفيرية.
لا نريد الدخول في الأسباب الكامنة خلف هذه النتائج التكفيرية، ومن ضمنها الاستبداد والاحتلال التي عانت منها البلاد العربية الإسلاميّة، بل سنحاول وضع اليد على البُعد السياسي والشرعي للحركات الوهابية السعودية في منطقة طغى فيها الاضطراب القلق والإحباط.
البعد السياسي
يخضع البعد السياسي، كما الشرعي، للعقيد الوهابيّة، هذه العقيدة التي رسم بعدها السياسي العلاقة بين الفقيه (محمد بن عبد الوهاب) والسلطان (الملك محمد بن سعود)، لتتأسس جدلية العلاقة بين الدعوة والدولة لدى الجماعات التكفيرية منذ ذلك الحين.
سمح البُعد السياسي هذا للعائلة السعودية الحاكمة بتجيير الجماعات التكفيرية لصالحها من المبايعة بين الفقيه والسلطان، حيث أغدق الفقيه حينها أزلامه بفتاويه التي تشير إلى وجوب اتباع السلطان، سوءاً كان برّاً أم فاجراً ما لم يأمر بمعصية الله، قد حرّم الخروج عليه، وفق ما ورد في “الدرر السنيّة في الأجوبة النجديّة”.
جدلية العلاقة بين هذين الكيانين، السعودي والوهابي، لا تزال قائمة حتى يومنا هذه وأبرز مصاديقها في الآونة الأخيرة هي الفتاوى السياسيّة التي صدرت عن مفتي السعودية عبد العزيز آل الشيخ السعوديين سواءً في العدوان على اليمن حيث وصف عاصفة الحزم بـ”الخطوة المباركة والعمل الصالح داعياً إلى مساندة الجنود المرابطين (عند الحدود اليمنية)”، أو في قرارات سلمان الأخيرة حيث حذّر المفتي السعوديين من مصير مشابه لسوريا واليمن – حد قوله – ان فكروا بالاعتراض على أوامر الملك سلمان التقشفية بتخفيض الرواتب.
وفي الحقيقة لم يكن موقف، عبد العزيز آل الشيخ، ومن قبله “محمد بن عبد الوهاب إلاّ نسخة جديدة، عن موقف ابن تيميّة في “الرسالة الواسطيّة” الذي أكدّ وجوب طاعة الرعيّة لصاحب الولاية الذي يكفي أن يوافقه ولو مجموعة قليلة على حكمه وإمرته.
البعد الشرعي
قد لا يكفي البعد السياسي لاستمرار التحالف السعودي والوهابي، وبالتالي لا بد من تعزيز البعد الشرعي لهؤلاء التكفيريين منذ نعومة أظافرهم، وهنا يكمن دور المناهج الدينية التربويّة.
تعد المناهج الدينية من المقررات الأساسية المقدّسة في النظام التعليمي للمدارس السعودية التي بلغ عددها نحو 35 ألف مدرسة بحسب الأرقام الرسمية. ومن خلال نظرة عامّة على أبرز ما تحتويه المناهج التعليمية في السعودية، تتّضح “بذور الإيمان” التي يسعى آل سعود، لزرعها في نفوس الحجازيين بدءاً من الطفل الصغير ذو السنوات الخمس في المدارس الابتدائية، مروراً بالجيل المراهق في الثانويات، وصولاً إلى الشباب العشريني في الجامعات.
أحد أبرز الأسباب التي تفسّر هذه الظاهرة في المناهج السعودية هي مقررات “التوحيد والحديث”، على سبيل المثال لا الحصر، التي كانت موضع انتقاد مدير “الأبحاث والسياسات»” في المفوضية المفوضية الأميركية لشؤون الأديان حول العالم، دوايت بشير، الذي طالب في توصيات للكونغرس الأمريكي بإزالة كل الأحاديث والتعاليم الوهابية التي تحضّ على العنف والتكفير والكراهية، وقد طالب واشنطن حينها السفير السعودي بإزالة الأحاديث الآنفة الذكر من مناهج “الأكاديمية الإسلامية السعودية” الكائنة في العاصمة الأمريكية. ماذا ننتظر ممن لم يبلغ الحلم وسن التكليف الشرعي في الإسلام عُرضة لأفكار كتاب “التوحيد” لمحمد بن عبد الوهاب. فمثلاً يّجبر هؤلاء على حفظ عبارات من قبيل ” من صرف شيئاً من أنواع العبادة لغير الله كالدعاء، والذبح، والسجود، وغير ذلك فهو مشرك كافر، ولو صلى وصام وحج واعتمر وزعم أنه مسلم”. هذا للصفوف الابتدائية، ولكن عند وصول الطالب إلى المرحلة المتوسطّة تزداد جرعة “غسيل الأدمغة”، لتصل إلى ذروتها في المرحلة الثانوية حيث يتمّ تشريع العنف والقتل له، فـ”المشرك حلال الدم والمال”، ليس أي مشرك، بل “الذي يقول لا إله إلا الله، ولا يترك عبادة الموتى والتعلق بالأضرحة، لا يحرم ماله ولا دمه”، وهذا ما يفسّر الهجمات على مساجد الشيعة في المملكة. وأمّا في الجامعات تنتج أفكار التكفير دراسات ورسائل ماجستير ودكتوراه تتحدّث عن فنون القتل و”الذبح الشرعي” والتنكيل لـ”إرهاب أعداء الإسلام”، تماماً كما نشاهد اليوم في سوريا والعراق من “داعش وأخواتها”.
إن طائر الإرهاب في المنطقة يمتلك جناحين الأول سياسي سعودي، والآخر ديني وهّابي وفي حال كُسر أحدهما، لن يقوى الآخر على الطيران.
ارسال التعليق